لم تكن جولات القتال الطرابلسيّ، في السنوات الثلاث الماضية، مقطعة كما يوحي بعض العدّادات، بل كانت جولة واحدة. لم تميّز الأزمة الاقتصادية والاحتقان والخوف من الآخر في المدينة نفسها بين يوم قتالي وآخر ها
غسان سعود
لم تكن جولات القتال الطرابلسيّ، في السنوات الثلاث الماضية، مقطعة كما يوحي بعض العدّادات، بل كانت جولة واحدة. لم تميّز الأزمة الاقتصادية والاحتقان والخوف من الآخر في المدينة نفسها بين يوم قتالي وآخر هادئ، كما لم تكن الحرب عبثيةً، أقله بالنسبة الى تيار المستقبل. لم تتحقق كل الرهانات الحريرية على مسلحي المدينة وإسلامييها، لكن لولاهم لما عاد الحريريون إلى السلطة.
لا ترضي الصور الكثيرة في الصالون غروره. يخرج إلى شرفة منزله ليمتّع ناظريه بقامته تسرح وتمرح فوق البنايات. اضطر إلى الطلب من محبيه نزع صوره. وهو، شخصياً، حاول كثيراً، لكنه لم يقوَ على نزع صورته من الأملاك العامة الخضراء قبالة منزله. ما الذي يزيّن المدينة ويلوّن جدران مؤسساتها الرسمية إذا سحبت صوره؟ ومن يحمي باعة القهوة والكعك والخضر وكل المخالفين إذا رفعوا هذا الغطاء عن رؤوسهم؟ يصعب نزع صور اللواء أشرف ريفي حتى لو طلب معاليه ذلك: «يا أخي الزمن زمن حواجز أمنية ومصادرة دراجات وسيارات المازوت والسلاح. والصورة ــــ بعيداً عنّك ــــ هي نمرة الطرطيرة وميكانيك السيارة ورخصة الكلشن». «أنا إذا المصرف دق يطالبني بسند وما معي مصاري، باخدله صورة أبو أحمد»!
لا تزال صور ريفي هنا. تطلع من خلفها شمس كانت المدينة، في اليومين الماضيين، تبدو كأنها تراها للمرة الأولى منذ زمن. تلتفّ الأبواب الحديدية حول نفسها برشاقة في شارع عزمي ومتفرعاته، كأن أذرع التجار استعادت شبابها فجأة. توحي مياه الشطف على الأرصفة، قبالة المتاجر، أنها لم تغتسل منذ أشهر. يخرج كل سائقي الأجرة وصخب المسنين في المقاهي وباعة الكعك والتلامذة وأصحاب البسطات الملوّنة دفعة واحدة. «كان كيلو الخيار بألفين. رجع بسبعمية وخمسين». يؤكد أصحاب محلات الحلو في المدينة أنهم باعوا، نهاية الأسبوع الماضي، أكثر مما باعوه في السنوات الثلاث الماضية. تاجر عقارات يحتفل ببيعه شقة لأول مرة منذ عامين. المتاجر التي لم تغيّر ثياب «المانيكان» في الواجهات منذ عامين «غيّرت» لهم، أخيراً، الثياب الصوفية. تستعيد الأزقة غريزتها المدينية، تختفي فجأة آثار الرصاص الذي كان يرسم خارطة المدينة، ويتلاشى لهاث الهاربين من رصاص القنص.
بدأ العصيان الطرابلسي مدنياً في تظاهرات الغضب الحريريّ من تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة، وأخذ يتسلح علانيّة تحت أنظار المستقبليين ومسمعهم، وربما أكثر، غداة مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد. وسرعان ما وجدت مختلف الأجهزة الأمنية الإقليمية، في تلك الفوضى العارمة، فرصة لإثبات الوجود. شُغل كثيرون بتحويل المدينة إلى حقل يغذّي ريف حمص بكل ما يحتاج إليه مقاتلوه. أما تيار المستقبل، فحسب حساب البيدر: يوماً ما سيأتي حزب الله منهكاً ليفاوض الحريري على سلاحه وأكثر، في مقابل سلاح «الجيش» الخارج من رحم المستقبل. كانت طرابلس، بقناعها التكفيريّ المسلح، جزءاً من مشروع يقطع طريق المقاومة في صيدا، ويرسل السيارات المفخخة عبر عرسال.
لم يكن التسويق الحريري لنظرية انتزاع حزب الله السلطة بقوة القمصان السود، سوى مقدمة للقول إن ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة. في ظل اللامبالاة الأممية بالمستقبل السياسي لجمال الجراح وخالد زهرمان وبدر ونوس، كان زياد علوكي وصحبه طوق النجاة الوحيد المتوافر للحريريين. وما كاد حزب الله ينوء تحت وطأة الضربات الإرهابية، حتى وضع المستقبليون علانية، في تصرف جمهوره، معادلة واضحة: التخلي عن الأصوليتين. لم يعرهم أحد اهتمامه. ومع تأكدهم من قرب الإعلان الدوليّ عن انتهاء صلاحية لحم الخراف التي سمّنوها، خفّضوا السعر: نرفع غطاءنا الشعبيّ والسياسي والماليّ عنهم مقابل تسليم رفعت عيد نفسه، وإفراغ مخازن السلاح الثقيل قبل الخفيف في جبل محسن، وتغيير قادة الأجهزة الأمنية في المدينة، وفي مقدمهم مسؤول استخبارات الجيش في الشمال عامر الحسن.
لكن، مرة أخرى، ثبت أنهم يبالغون في تقدير ثمن المشروع الذي كبّد الشمال ٢٣٨ قتيلاً وأكثر من ألفي جريح، وهدّ الاقتصاد الطرابلسي بالكامل: لا استراتيجية عبرا مقابل حارة صيدا أصابت، ولا طرابلس مقابل الضاحية طبعاً. ولا رفعت وعلي عيد سلّما نفسيهما، ولا عامر الحسن أخلى الملعب أمنياً لريفي، ولا مذكرات التوقيف اقتربت من قريب أو بعيد من أوثق حلفاء حزب الله في المدينة الشيخ بلال شعبان.
أقصى ما نجح المستقبليون في تحصيله هو استثناء مذكرات التوقيف أحد أبرز ميليشياويي المدينة، عميد حمود، ومرجعيتها التحريضية الأولى، الشيخ سالم الرافعي، وثلاثة من المحسوبين على ريفي. كان واضحاً أن القرار المتخذ هدفه التحجيم لا التكسير. من بابا عمرو فالقصير إلى عبرا ويبرود وقلعة الحصن، وأخيراً كل القلمون، هناك دائماً مخرج آمن يتيح للتكفيريين النفاذ. المهم هو فصلهم عن البيئة الحاضنة لهم. سيجد علي ورفعت عيد، على الأقل، ثلاث دول تحتضنهم ليعيشوا فيها بحرية مطلقة، أما الفارون الآخرون من العدالة، فلا مكان يذهبون إليه. استهدفت مذكرات التوقيف، في الشكل، قادة المحاور. أما مضمونها، فاستهدف في شكل رئيسي عصب الإسلاميين في المدينة. يتقدم صف الإسلاميين هنا حسام صباغ، ليس الأخير قائد محور، وهو كان دائم الانتقاد لاشتباك التبانة مع جبل محسن، ما لم يكن هدفه نزع فتيل الجبل من أساسه، يليه نادر الحلاب، فنور الدين غلاييني والشيخ مشير خضر. حتى عمر بكري فستق يرد اسمه في سياق محاصرة الإسلاميين غير المرتبطين بمرجعية واضحة، لا المسلحين فحسب.
أقصى ما نجح المستقبليون في تحصيله استثناء حمود والرافعي من مذكرات التوقيف
أما داعي الإسلام الشهال، فاستبق مذكرات التوقيف بزيارة طويلة للسعودية، تقول المراجع الأمنية إنه وفّر خلالها كل التطمينات المطلوبة لأجهزة الاستخبارات المنضوية في مكافحة الإرهاب، إلا أن ذلك لم يحل دون تدقيق الجيش أخيراً في سيارات موكبه، واحتجاز اثنتين منها، ثبت أنهما مسروقتان. مع العلم أن استخبارات الجيش تداهم منازل قادة المحاور ومخازن أسلحتهم، فيما يتولى فرع المعلومات شخصياً مداهمة النقاط المشتبه في اختباء الاسلاميين فيها.
الأكيد أن لا مشكلة مستقبلية باعتقال الإسلاميين، أما قادة المحاور، فيفضّل ريفي هروبهم نظراً الى علاقتهم الشخصية السابقة الوطيدة بهم، وخشيته الأكيدة من اعترافاتهم في المحكمة. ويشير أحد المطلعين إلى أن الهدف الفعلي للخطة الأمنية تحقّق: تشتيت الإسلاميين وفصلهم عن البيئة الحاضنة لهم، ووقف النزيف المتبادل بين جبل محسن وباب التبانة. وبعد تظاهر بعض المطلوبين وسط أقربائهم في باب التبانة، قبل بضعة أيام، سارعت الأجهزة الأمنية إلى تكثيف مداهماتها الجدية في أحيائهم، لإيصال رسالة واضحة بأن تساهلها في هروبهم أمر، أما السماح بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فأمر آخر.
شعبياً، ثمة دائماً في المدينة مستويان لكل منهما وجهتا نظر. في البيئة الحاضنة فعلاً للمسلحين والإسلاميين والمتعاطفة معهم، ثمة شعور عارم بغدر تيار المستقبل بهم، يذكّر بخطاب «فتح الإسلام» غداة إشعال فرع المعلومات المواجهة معهم، وما تلاه من اغتيال للنائب وليد عيدو. تقابل ذلك وجهة نظر خجولة في تبريرها «الضرورات المستقبلية»، آخذة في الاعتبار توجيهه رسائل سابقة لمذكرات التوقيف تحذر منها وتأخيره انطلاق الخطة الأمنية. أما وسط المتضررين من خوّات المسلحين وتدميرهم إقتصاد المدينة وحياتها الاجتماعية والتربوية، فالانقسام حاد بين من يحمّل المستقبل المسؤولية عن عدم إيقاف الفوضى العبثية، بعدما أثبت قدرته على تحقيق ذلك بسرعة خيالية، ومن يصدقون ربط المستقبل الاستقرار الأمني بالقرار الحكومي، مشيرين إلى أن الحكومة السابقة لم تكن تريد لطرابلس الاستقرار.
إلا أن مأساة تيار المستقبل أكبر من التعليقات الشعبية بكثير. وهي تكمن في اعتقاده السابق بأن حكم أزلامه لمناطقه عسكرياً سيقضي حكماً على المناوئين له، لكن، لا نفوذ الرئيس نجيب ميقاتي تبخّر، ولا فيصل كرامي هاجر، ولا محمد الصفدي تقاعد. لا يزالون حيث كانوا قبل ثلاث سنوات في أقل تقدير، فيما يحتاج المستقبل إلى توحيد مسؤوليه ونوابه والمرشحين، ومصالحة البيئة الحاضنة للمسلحين، وتوفير سيولة حقيقية بين محازبيه لاستعادة أنفاسه. ويكفي في هذا السياق رؤية لحاق المستقبليين بميقاتي من السرايا إلى طرابلس فالمجلس النيابي، ليهجموا عليه حصراً من بين كل السياسيين.
قبل ثلاث سنوات، كان أمن المدينة، بجهازيه الرسميين، مع المستقبل، إلى جانب المفتي مالك الشعار ورئيس البلدية نادر غزال وكل مدراء الإدارات الرسمية. وكان يردد التيار الأزرق خلف النائب خالد ضاهر كل ما يود الجمهور سماعه. يومها كان أشرف ريفي موظفاً في ماكينة تعمل لخدمة النائبين سمير الجسر ومحمد كبارة، وكان الصفدي من أعمدة ١٤ آذار، وكرامي مجرد وريث سياسي مغمور. اليوم، لا الأمن ممسوك مستقبلياً، ونصف المدراء في الإدارات الرسمية غير حريريين، فيما يترنح رئيس المجلس البلدي تحت وطأة فشله، والمفتي يعطي الأولوية للمفتي على أي أحد آخر، ولا أحد يعلم ما إذا كان ريفي سيلتحق بماكينة المستقبل، أم أن المستقبل سيلتحق بماكينة ريفي.
كرامي: لا أرى ميقاتي وريفي بعيدين عن بعضهما بعضاً
كاد وزير الشباب والرياضة السابق فيصل كرامي أن يذهب «فرق عملة»، كما يحب أن يقول، في جنون المدينة الأمنيّ السابق. نجا من الموت، ليسجن في شقته نحو عام. لم تتوقف استقبالاته بحكم قدرته على «سيسرة» كثيرين خدماتياً، لكن رؤيته في شقته شيء، وفي مكتبه شيء آخر. يكاد يكون الوصول إليه من دون موعد مستحيلاً، بفعل الازدحام الرهيب حوله. هنا حوار سريع:
مع من ستترشح في الانتخابات المقبلة، الرئيس نجيب ميقاتي أم الوزير أشرف ريفي؟
ـــــ ريفي جزء من تيار سياسي. تعاونّا في الاستحقاق البلدي الأخير على نحو مثمر ومفيد. ولا حواجز سياسية تحول دون التقائنا مجدداً. أما ميقاتي، فلم أكن أعرفه جيداً قبل تأليف الحكومة، التي عارض بشدة توزيري فيها، لكنه دعمني لاحقاً في وزارتي، وأنا على تواصل أسبوعي معه، ولا تستطيع تجاهل شعبيته طرابلسياً. أنا لا أراهما فعلياً بعيدين عن بعضهما بعضا.
كم شاباً من المحسوبين عليك طاولته مذكرات التوقيف الأخيرة؟
ــــ ولا واحد، لكنها مع الأسف كانت ٦ بـ ٦ مكرر. ظلم كثيرون. التبانة أحد أهم خزاناتنا الشعبية، طبقة المقاتلين وأسرهم مستاءة قليلاً، أما الآخرون، ففرحون بانتهاء الحفل الدموي.
http://www.al-akhbar.com/node/204429
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه