..وسجل من جديد مقاتلو «حزب الله» أسطورة قتال جديدة سيغرق غيره في قراءتها لتعلم الدروس وأخذ العِبر وأولهم وآخرهم، الجيش المهزوم على ضفاف بنت جبيل والليطاني، والجنود المرتعدون منذ زمن في دشمهم المحصنة..
بعد عدوان تموز ٢٠٠٦، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في عدة اطلالات مباشرة وتلفزيونية، ليوضح ويفضح عن بعض أسرار الميدان، ومما قاله يومها أنه قد أبلغ «المقاومين» أنه ليس هناك مصلحة أو ضرورة للقتال دفاعاً عن الجغرافيا، وأن التكتيك المتبع في حينه كان توجيه الضربات لقوات العدو، دون المخاطرة بخسارة الأرواح مقابل أمتار أو مساحات جغرافية.
جمال شعيب / سلاب نيوز
هذه المعادلة، أو الخيار العسكري، أصبح بالتأكيد الآن خلف «تكتيكات حزب الله»، أو لعله قد رُفع من خزائن التعليمات المتوفرة في غرف العمليات، فلم تعد الجغرافيا قادرة على إبتلاع «القُدرات البشرية» أو التحكم بمنظومة القيادة والسيطرة «المميزة» لدى الحزب، وبات بإمكان الممسكين بمفاتيح «القيادة والسيطرة» تحريك خرائط الجغرافيا المنبسطة على طاولاتهم المضاءة من الأسفل، والمجسمات التي تتعرج فوق خطوطها بكلمات قليلة «حيث يجب أن نكون».
ما الذي تغير؟ وهل هي الحرب في سوريا؟ وانخراط الحزب في معركة الدفاع عنها وعن ظهر المقاومة وأمن لبنان؟ أم هناك أسباب أخرى، راكمت الحرب في سوريا من «عوائدها الحربية» واتخمت مخازن الحزب «المعلوماتية» و«اللوجستية»، بقدرات تفوق ما كان مؤملاً بعدما تجاوز أيضاً تعداد المقاتلين ما كان متوقعاً استيعابه بعد انتهاء حرب تموز؟
لا يخفي «حزب الله»، تضاعف قدراته البشرية، والتعبير الأدق عن حجم وأعداد المقاتلين عبر عنه أمينه العام في خطاب وداع الشهيد القائد عماد مغنية بقوله «لقد ترك لكم عماد مغنية عشرات الآلاف..»، وهذا الإرتفاع الكبير في عديد «مقاومي حزب الله»، يعني الحاجة لرفع الكفاءات القيادية وزيادة قدرة الهيكلية القيادية على تشكيل منظومة «قيادة وسيطرة» قادرة على إدارة العمليات العسكرية على مختلف الجبهات بنفس الكفاءة التي أدارت فيها معارك التحرير ومعارك الدفاع خلال حرب تموز ٢٠٠٦.
إنقلاب المعادلة «الحفاظ على الجغرافيا»
إذاً نحن الآن أمام معضلة «جغرافية» و«عددية»، تحتاج لتأكيد تفوق القدرات التكتيكية والاستراتيجية لمنظومتها القيادية، ضمن إطار عمليات حربية مختلفة، واسعة، وغير مسبوقة، وبعيدة كل البعد عن أساليب الدفاع، وهي تعتمد على الإمساك بالجغرافيا، والسيطرة على النقاط الاستراتيجية فيها، وتأمينها لاحقاً، وهنا جاء دور الميدان السوري لإثبات هذه القدرات والإضاءة عليها بشكل لا يمكن الهروب من «وضوحه»، كعادة الحزب في كتمان تطور قدراته العسكرية تحضيراً للمفاجآت الحربية.
كان خصوم حزب الله يعولون بشكل كبير على إبتلاع الجغرافيا السورية الواسعة، لقدراته البشرية القتالية، وينتظرون هزيمته بفارغ الصبر، كنتيجة حتمية بالنسبة لهم لتشتت القوات وتوزعها على مساحات شاسعة من جهة، ولقتاله على أرض غير أرضه التي اعتاد على تضاريسها وأنشأ قواعده وانفاقه ومغره فيها، وهنا كانت المفاجأة الأولى التي «حضرها» الحزب لهم، بخروجه من كافة المعارك التي خاضها إلى جانب الجيش العربي السوري منتصراً، وبشكل جلي وواضح شهد له الخصوم «الجديون» قبل الأصدقاء والحلفاء.
منظومة القيادة
شكل حزب الله في بداية انخراطه في معركة الدفاع عن سوريا ولبنان (كما يؤكد دائماً في أدبياته السياسية)، ثلاث غرف للعمليات كما يتضح من طريقة ادارة المعركة دون أن يفصح أو يشير تأكيداً أو نفياً، فأوكل لغرفة العمليات الأولى مهمتها المعتادة والمعروفة وهي الدفاع عن لبنان ضد أي عدوان أو خرق إسرائيلي، والغرفة الثانية تكفلت بإدارة حضوره العسكري في سوريا، فيما تكفلت الغرفة الثالثة بإدارة «الأمن الوقائي» داخل لبنان.
وهنا برزت معضلة أخرى (في أذهان المراقبين)، وهي تتلخص بالسؤال الاستباقي «كيف سيدير حزب الله غرف عملياته الموسعة، متعددة الجبهات؟»، وهل تستطيع منظومة القيادة والسيطرة في مجلسه أركانه الحربي الإشراف على مساحة «حرب وعمليات» تمتد من حدود «الجليل» إلى حيث «يجب أن يكون»؟!
ومرة جديدة أثبت «حزب الله» أن لديه من القدرات والكفاءات ما يفوق بكثير قدرة المراقبين المُحبين والأعداء على التخيل ولو افتراضاً، فلم يحتج حزب الله الى تحويل أي جزء من قواته الخاصة بحماية «حدود لبنان» مع فلسطين المحتلة إلى أي بقعة أخرى، والدليل شعاع العبوات الممتد من اللبونة الى شبعا، والحضور «الاستطلاعي» المُدعم بالجهوزية العالية لكافة اختصاصات الإسناد، إلى درجة يستطيع معها وهو يجهز العبوات في «الغوطة الشرقية» أن يفجر أخرى بقوة إسرائيلية اخترقت الحدود اللبنانية لمسافة معتبرة، ولا ينكفئ مقاتليه من القصير قبل حسم معركتها بالكامل، إلا للإنتقال إلى القلمون لإنجاز عملية «درع الأمان اللبناني»، والمساهمة في استعادة الجيش السوري لسيطرته الكاملة على أهم معاقل المسلحين في القلمون بأقل قدر من الخسائر، وبوقت قياسي، مسجلاً خسائر فادحة في صفوف المسلحين، بعدما كانت وحداته وقواته الخاصة قد أنجزت وكتفاً لكتف عملية القضاء على كافة نقاط القوة لمسلحي المعارضة في ريف دمشق الجنوبي.
مساحات شاسعة لجيش من نوع آخر
الحديث هنا يدور بالتأكيد عن مساحة جغرافية تمتد من ريف تلكلخ وصولاً الى القصير وريفها والقلمون والغوطة الشرقية والغربية وبينهما ريف دمشق الجنوبي، دون أن نأخذ بالمقولات التي تتردد هنا وهناك عن مشاركته بمعركة تحرير الزارة والحصن أي ريف حمص الغربي، أو مشاركته في معارك حلب ودرعا وريف اللاذقية، التي لو ثبت مشاركته فيها، فسيكون ذلك نوعاً من المفاجأة التي لا يستطيع «أعداؤه» تحملها على الإطلاق.
هذه المساحة الجغرافية، التي تم إعادة تلوين حدودها بالأخضر القاني، ورفع العلم السوري مجدداً على حصونها ودساكرها، لم يكن أحد ليتوقع أن بمقدور «حزب الله» خوض معاركه فيها، والخروج بسلسلة من الانتصارات تضاءل حجم خسائره فيها الى الحد الأدنى، بعد معركة القصير، حتى وصل الأمر الى حد انجاز عمليات كبرى دون سقوط أي شهيد، كما حصل في بعض بلدات القلمون مؤخراً.
نماذج ميدانية
يعطي بعض الميدانيين مثالاً على تفوق القدرات القتالية لعناصر حزب الله، فيروي أحدهم أن إحدى مجموعات الحزب دخلت كدورية استطلاع من السلسلة الشرقية نحو جرود مطلة على المعابر الى عرسال، وبعد تجاوزها المسافة المحددة لخط الإسناد (١ كيلومتر) بثلاثة أضعاف، وقعت في كمين نصبته إحدى المجموعات المسلحة، وكانت المجموعة التابعة للحزب عبارة عن ٣ مقاتلين متقدمين، وثلاثة آخرين في نقطة بعيدة نسبياً، بينما كان عدد أفراد الكمين بالعشرات، ومعدل أعمار أفراد دورية الحزب لا يتجاوز الثلاثة وعشرون، وهم من الذين أنهوا دوراتهم حديثاً، لكنهم استطاعوا بعد الاشتباك مع مجموعة الكمين، تأمين خط انسحابهم على مسافة ٣ كيلومترات وحمل الجرحى خلال الاشتباك الذي استمر وقتاً طويلاً، والتنسيق مع خط الإسناد البعيد لتأمين التغطية النارية، وإيقاع قتلى وجرحى في صفوف الكامنين لهم، والعودة الى قاعدتهم بشكل فاجأ حتى من كانوا ينتظرونهم.
وفي مثال آخر، يؤكد الميدانيون حدوث عدة معارك عنيفة على محاور كان يغطيها ما لا يزيد عن عشرة عناصر من مقاتلي «حزب الله»، وأهمها معركة «دير سلمان» التي وبحسب شريط بثته «جبهة النصرة» خلال معركة الغوطة الأخيرة، استطاع خلالها مقاتلو الحزب الصمود داخل أحد المباني لأيام، فيما كان مقاتلو جبهة النصرة ومسلحو الفصائل الأخرى بالعشرات، يحاولون مفاوضتهم على إخلاء المبنى والاستسلام وهم (أي مقاتلو النصرة) يحاصرون المبنى بالكامل وقد استطاعوا الوصول إلى إحدى الغرف السفلية، محاولين اقتحامه، لكن الشريط انتهى دون أن يستطيع هؤلاء لا اقتحام المبنى ولا تفجيره، ولا إقناع المتحصنين بداخله بالإستسلام، ولكن تكملة الرواية من الجهة الأخرى تكشف جانباً أخفاه الشريط، حيث استطاع أحد مقاتلي الحزب مشاغلة مسلحي المعارضة بشكل فردي وفتح معركة جانبية معهم جاذباً إياهم باتجاهه، ليتسنى لرفاقه التسلل سالمين إلى خارج المبنى ويستمر هو في القتال حتى يسقط جريحاً فيتم أسره وتصفيته لاحقاً.
إذاً استطاع حزب الله أن يؤمن «منظومة قيادة وسيطرة» على مختلف جبهات القتال، وقدم نماذجاً مختلفة عما هو معروف عن مقاتليه، وأثبت مقاتلوه حديثو التدريب أنهم ليسوا أقل كفاءة من مقاتله المحترفين وقواته الخاصة ووحدات النخبة، وحافظ على سجل انتصارات حيث تواجد وقاتل جنباً إلى جنب مع الجيش السوري، ولم تستطع الجغرافيا السورية الشاسعة إبتلاع أو امتصاص أو تخفيف تأثير فاعليته في القتال، وسجل من جديد مقاتلو «حزب الله» أسطورة قتال جديدة سيغرق غيره في قراءتها لتعلم الدروس وأخذ العِبر وأولهم وآخرهم، الجيش المهزوم على ضفاف بنت جبيل والليطاني، والجنود المرتعدون منذ زمن في دشمهم المحصنة في الجليل .. الفلسطيني.