25-11-2024 02:25 PM بتوقيت القدس المحتلة

النووي الايراني: هل تم تمهيد الأرضية للإتفاق الكبير؟

النووي الايراني: هل تم تمهيد الأرضية للإتفاق الكبير؟

السؤال يبدو مشروعاً والإجابة عليه معقدة، في ضوء الحسابات السياسية لكل طرف معني بالمفاوضات بين ايران من جهة والدول الخمس الكبرى وألمانيا من جهة أخرى.

علي عبادي

السؤال يبدو مشروعاً والإجابة عليه معقدة، في ضوء الحسابات السياسية لكل طرف معني بالمفاوضات بين ايران من جهة والدول الخمس الكبرى وألمانيا من جهة أخرى. فلكل طرف سقف من التوقعات والضوابط لا يجيز لنفسه تخطيه، وثمة تباينات أيضاً في كل من إيران وأميركا حول ما أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المفاوضات، حتى لو تم التفاهم وطنياً على الحد الأدنى. ويضاف الى ذلك "إنشقاق" اعتمل طويلاً داخل مجموعة 5+1 وخرج مؤخراً الى العلن مع مباشرة موسكو الإعداد لمجموعة اتفاقات نفطية ونووية مع ايران من دون انتظار نتائج المحادثات بشأن برنامج ايران النووي، الأمر الذي لقي تنديداً أميركياً على الفور.
 
الجولة الأخيرة من المحادثات في فيينا أظهرت كلاماً مشجِّعاً من جانب جميع الأطراف، الى درجة ان  وزير الخارجية الإيراني تحدث عن البدء بعملية کتابة نص الاتفاق النهائي (وضع اطار للتفاهم قبل المباشرة بالتفاصيل) في 14 ايار/ مايو المقبل في جلسة رسمية يعقدها مع منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي کاثرين آشتون. وأشار الى ان الكثير من نقاط الغموض تبددت من خلال المحادثات الفنية خلال الاشهر الثلاثة الماضية.

أما نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان رئيسة وفد بلادها الى المفاوضات فتكشف أن المحادثات لا تتوقف وهي غير محصورة في المواعيد المعلنة لاجتماعات رؤساء الوفود، وأن هناك محادثات يومية تجرى بين عواصم الدول المشاركة فى المفاوضات وأيضاً بين الخبراء المعنيين.

هذه الأجواء العملية المشجعة تترافق مع وصف حصيلة الجلسات السابقة بأنها "مفيدة" و"مثمرة" و"بناءة" وما إلى ذلك. لكن ذلك كله يبقى معلقاً بالإرادة السياسية أولاً. المشكلة الفنية والتقنية لن تكون عائقاً أمام البدء في صياغة الاتفاق النهائي قبل 20 تموز/ يوليو المقبل موعد انتهاء مفعول الاتفاق المرحلي. هنا يتحدث الايرانيون بصراحة عن "الكثير من الهواجس وسوء الفهم القابل للحل"، وفق ما يعبر وزير الخارجية الايراني بلغته الدبلوماسية المتفائلة، وهي تعابير تعكس أزمة الثقة كما يقول سياسيون آخرون.

اقترب أوان القرار

هل تريد واشنطن أن تسلّم في نهاية المطاف بحق ايران في تخصيب اليورانيوم وبامتلاك منشآت نووية مستقلة وخاضعة في الوقت نفسه لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟ وأيضاً هل ترغب حقاً في رفع العقوبات الأحادية والدولية عن كاهل ايران في حال اقتربت لحظة اتخاذ القرار الحاسم؟ ليست الأمور بهذه البساطة لدى ادارة أوباما التي أظهرت رغبة في إحداث خرق داخل ايران يبدأ من الملف النووي، لكن مبادرة التوقيع على الاتفاق المرحلي قبل نهاية العام الفائت بيّنت أن صراعاً مريراً يدور بين دوائر القرار الأميركي حول الموقف من هذا الموضوع. ومن جديد، تضع أوساط ُ"الصقور" في واشنطن العصي في دواليب الاتفاق المحتمل حول برنامج ايران النووي، إذ وقع نحو 80 من أعضاء مجلس الشيوخ الاميرکي (من اصل 100 عضو) رسالة موجهة الى الرئيس أوباما تدعوه الي العمل لوقف تخصيب اليورانيوم في ايران بصورة کاملة.  

وتحاول واشنطن توجيه رسائل متضاربة المضمون حول موقفها النهائي من برنامج ايران النووي، مرة بإبداء استعداد للقبول بتخصيب محدود لليورانيوم (ضمن حدود 5%) وتعديل مواصفات منشأة أراك للمياه الثقيلة، ومرة أخرى بالقول إنه لا يحق لإيران امتلاك محطة للماء للثقيل أو منشأة لتخصيب اليورانيوم في فوردو قرب قم، وأنه يتوجب عليها أيضاً تقليل عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها واللازمة لتخصيب اليورانيوم، كما صرح أوباما ذات مرة. وهذا التضارب قد يفسَّر أحياناً على انه يندرج ضمن تكتيكات التفاوض الهادفة الى دفع الايرانيين للقبول ببرنامج محدود وغير مستقل تقنياً عن الخارج (يحاول المسؤولون الغربيون "إقناع" ايران بقبول تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 % اللازم لإنتاج النظائر الطبية خارج أراضيها على ان تعاد لاحقاً نفايات الوقود النووي الناتجة عن استخدام اليورانيوم المخصب بهذه النسبة الى دول المنشأ). لكن يمكن ان يرمز الامر أيضاً الى محاولة الادارة الاميركية تكبيل ايران بمجموعة قيود تفضي لاحقاً الى دفعها للتراجع عن برنامجها المستقل تقنياً والقبول بما يُملـَى عليها مقابل "جائزة" رفع العقوبات. وهذا من شأنه أن يقود الأمور الى معادلة "التراجع مقابل التراجع"، اي التراجع عن منجزات ايران النووية مقابل التراجع الدولي عن العقوبات. في حين ان الهدف من المفاوضات الحالية هو تقديم ضمانات كافية بأن برنامج ايران النووي لن يُستخدم في أي حال من الأحوال لأغراض عسكرية مقابل رفع العقوبات.

ولا بد أن نلاحظ هنا أن العقوبات التي كانت وسيلة لترويض ايران، أضحت سلاحاً رئيسياً بيد الإدارة الأميركية التي ترمي من خلالها الى تحقيق أهداف بعيدة المدى وأهمها تطويع الجمهورية الاسلامية سياسياً ووضعها تحت رحمة الطلبات الأميركية التي تبدأ بالنووي ولا تنتهي بموقفها من "اسرائيل" وقضايا الشرق الأوسط وصولاً الى سياساتها الداخلية.   
 
أميركا وكسب الوقت

لا تخفي اوساط أميركية الإعتقاد بأن الاتفاق المرحلي صُمم بهدف كسب الوقت لمصلحة واشنطن من خلال وقف تقدم البنية التحتية النووية الإيرانية التي تطورت بشكل سريع برغم الحصار والعقوبات. وروجت الإدارة الاميركية بعد الاتفاق ان هذا الإنجاز يتيح لها الاحتفاظ بقدرتها على التأثير لأن نظام العقوبات الأساسية سيظل سارياً، وأن من بين أهدافها تمكين الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني من كسب مساحة سياسية أكبر على الصعيد الداخلي لخوض مفاوضات إضافية. وبذلك، من وجهة نظر واشنطن، كان الاتفاق الماضي بمثابة "جزرة" تضع أمام ايران حلماً عريضاً بالتوصل الى اتفاق نهائي دونه متطلبات عديدة، ومن ضمنها خفض عدد أجهزة الطرد المركزي لديها بشكل كبير، وشحن جميع اليورانيوم المخصب لديها إلى خارج البلاد، وتحويل محطة المياه الثقيلة إلى مفاعل يعمل بمياه خفيفة.

وهذه النظرة توضح بجلاء طبيعة المشكلة القائمة والمبنية في الغالب على رؤية ضيقة ذات جذور اسرائيلية و"إمبريالية" ترى أن العالم الاسلامي لا تليق به صناعات تكنولوجية عالية المستوى، وهي تضع "النموذج الليبي" نصب عينيها في أثناء التعامل مع ايران، من دون ملاحظة فارق أساسي وهو ان البرنامج النووي الليبي (ربما كان معدات أكثر منه برنامجاً) كان مستورَداً ولذلك سهلَ على نظام القذافي شحن أدواته الى الولايات المتحدة للتصالح معها، أما برنامج ايران فهو نتاج صناعة وطنية مستقلة بشرياً وتقنياً وهدفه الفعلي الحصول على التقنية النووية في مجالات الطاقة والدواء والأبحاث.

وليس هناك من دليل على ان هذه النظرة "الإستعلائية" تلاشت في واشنطن، حيث يدعو العديد من المنظّرين والنُخب الى الاستمرار في الإمساك بالعقوبات سلاحاً رئيسياً لدفع الجمهورية الاسلامية الى الاختيار بين زعزعة استقرار نظامها (عن طريق التهديد والعقوبات المُشِلة) او التخلي عن برنامجها النووي.

وإيران متمسكة بانجازاتها المتراكمة في المجال النووي، فهذا يرمز الى مكانتها واستقلال إرادتها الوطنية، وهي استثمرت الكثير من مواردها التقنية والمالية والبشرية من أجل تسخير الطاقة النووية لأهداف تنموية وعلمية، وقد طورت برنامجها من خلال بناء منشآت جديدة وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب اللازم لتوليد الطاقة والأغراض السلمية الاخرى وتصنيع أجهزة طرد مركزي أكثر فعالية من سابقاتها لتخصيب اليورانيوم. وتؤكد طهران، على ألسنة كبار مسؤوليها، أنها لن تتراجع عن حقوق أتاحتها لها المعاهدات الدولية، وهي تعتقد أن اميركا تريد منها التنازل تلو الآخر بهدف تطويع نظامها السياسي. والإستراتيجية الإيرانية التفاوضية تقوم بوضوح على الجمع بين الحفاظ على الانجازات النووية ورفع العقوبات وليس الاختيار بين الاثنين.

ويدرك الاميركيون أن الايرانيين مستعدون لتحمل كلفة باهظة وعقوبات شديدة للمضي في هذا المسار، وهذا بالضبط من الأسباب الرئيسية التي دفعت واشنطن للقبول بالتفاوض الذي أدى الى اتفاق مرحلي، غير أنهم يحاولون صياغة اتفاق يتضمن مجموعة قيود تسهل وتبرر التدخل في كل تفصيل مستقبلاً، للتأكد من ايران لن تحظى ببنية تحتية نووية متقدمة.

التحدي الروسي يعجل بالإتفاق؟

واذا كانت واشنطن اعتبرت في ما مضى ان عامل الوقت كفيل بترويض ايران من خلال رزمة العقوبات الأحادية والدولية، فإن ذلك قد لا يدوم طويلاً. فالتغيرات على الساحة الدولية لا تبشر باستمرار مجموعة 5+1 على ما هي عليه. وروسيا، والصين بدرجة أقل، تعبّران عن ميل الى التحرر من رباط هذه المجموعة التي شكلت، الى وقت ما، غطاءً لنطق الأميركي باسم "الإجماع الدولي". وفي ضوء تلويح موسكو "باتخاذ إجراءات انتقامية" محتملة بشأن الملف النووي الإيراني إذا ما ضغطت واشنطن على روسيا بشأن شبه جزيرة القرم، يتعقد المشهد الدولي أكثر فأكثر، ما قد يفرض على الادارة الاميركية اجراء مراجعة واقعية للتعامل مع الملف الايراني. والتحدي الماثل هنا: هل سيتعين على واشنطن وحلفائها تقديم تنازلات لموسكو لإنقاذ "الاجماع الدولي" في وجه ايران في مرحلة اتخاذ قرار حاسم؟ أم يتعين تغيير التكتيك الراهن وتسريع البحث عن حل دائم مع ايران، حتى لا يؤدي انفراط عقد هذه الدول لتقارب اكبر بين ايران وروسيا ولتدهور استراتيجية العقوبات المتبعة حالياً، وأيضا لانتقال ثقل التأزم الى أوكرانيا بما يريح ايران نسبياً؟

الغرب لا يزال يستبعد إقدام موسكو على استخدام الورقة الايرانية، لكن ذلك لا يعني إدارة الظهر لهذا الاحتمال، الأمر الذي سيرتب عليه بناء موقف يأخذ في الاعتبار رغبة القيادة الروسية في عرقلة الخطط الأميركية وإثارة مفاجآت في وجهها، وهي التي كان موقفها في الأزمة السورية سابقاً، وفي الأزمة الأوكرانية الآن، أكثر صلابة وعناداً مما توقع الغرب. يفترض الغربيون انه قد يكون في مصلحة روسيا إضعاف النفوذ الغربي في الشرق الاوسط لإحداث توازن يدفع الغرب الى تقديم تنازلات لموسكو في قضايا عدة. قد يكون هذا التقدير صحيحاً وقد لا يكون، لكن روسيا تُظهر باستمرار أنها جارة للشرق الاوسط العربي والاسلامي وفي أكنافها يعيش نحو ثلاثين مليون مسلم، مما يتطلب الحفاظ على توازن ومصالح دائمة في المنطقة وليس مجرد التكتيك. صحيح ان روسيا أخرت بناء محطة بوشهر النووية جنوبي ايران في زمن العقوبات، وصحيح انها لم تسلـّم ايران نظام الدفاع الجوي اس 300، لكنها أيضاً وقفت في مرحلة معينة بوجه فرض عقوبات اضافية على ايران، رافضة اعتبار العقوبات هدفاً بحد ذاته، الأمر الذي عطّل العودة مرة اخرى الى مجلس الامن الدولي لفرض اجراءات اخرى ضد ايران ودفعَ بالتالي الولايات المتحدة الى الخروج من عباءة "الاجماع الدولي" الذي تتغنى به واتخاذ اجراءات أحادية ضد ايران.

وبينما تجري المفاوضات حول الوضع النهائي للبرنامج النووي الايراني، قدمت موسكو مؤشرات على انها مستعدة لتعزيز علاقاتها مع ايران بصورة نوعية، بما فيها اتفاق لمبادلة السلع والنفط بقيمة 20 مليار دولار وإبداء الاستعداد لبناء محطتين نوويتين جديدتين على الأقل. ولكن لماذا الآن؟ قد يكون موقف موسكو السابق الحذِر تجاه ايران مبنياً على محاولة ايجاد توافقات مع الولايات المتحدة وأيضا على النظر الى برنامج ايران النووي على انه قضية غير ذات صلة أساسية بمصالح روسيا في المنطقة. لكن روسيا ترى الآن أن تفعيل التعاون مع ايران، ومن دون انتظار نتائج مفاوضات الوضع النهائي، يصب في مصلحتها بالضرورة، لأسباب اقتصادية معروفة أولاً، ولأنها تريد ان تبرهن للغرب أن ما من فاعلية لأي اتفاق دولي لا يحظى بدعم موسكو ثانياً، يضاف الى ذلك استشعار روسيا أن العقوبات الغربية أضحت حجر الزاوية في سياسات الغرب مع الدول الاخرى ثالثاً.  

الآن، طوق العقوبات على ايران مهدَّد من داخل دائرة صانعيه وأصبح هذا الملف عبئاً على القوى الكبرى. والتقلب في العلاقات بين الدول الكبرى قد يسمح أخيراً بإقرار اتفاق حول برنامج ايران النووي، انطلاقاً من ان ما قد يصحّ اليوم ربما لا يكون متاحاً غداً. بيدَ أن الأمور بخواتيمها. الملاحَظ في هذه الأيام ان الإقتصاد العالمي يواجه احتمال الركود، وليس في حاجة الى أزمة طاقة تتولد تارة بسبب أزمة اوكرانيا، وتارة أخرى بسبب العقوبات على ايران، وطوراً ثالثاً بسبب أزمة الصادرات النفطية الليبية مثلاً.