مسار دقيق ومتشعب، سلكته فتنة الجهاد في أرض الشام، بدءاً من أزمة المبايعات، مروراً بمقتل أبو خالد السوري، وصولاً إلى إلغاء كل طرف لمنافسه على الأحقية وعلى السيطرة والسلطة.
احمد فرحات
مسار دقيق ومتشعب، سلكته فتنة الجهاد في أرض الشام، بدءاً من أزمة المبايعات، مروراً بمقتل أبو خالد السوري، وصولاً إلى إلغاء كل طرف لمنافسه على الأحقية وعلى السيطرة والسلطة.
اغتيال رفيق درب زعيمي تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن والحالي ايمن الظواهري، ومؤسس حركة أحرار الشام الإسلامية أبو خالد السوري في ريف حلب، وضياع دمه بين الفصائل المتناحرة، شكل نقطة فاصلة في مسار "الفتنة الجهادية" التي تدور رحاها على أرض الشام، وباتت تسجيلات "الرثاء" رسائل متعددة الإتجاهات، تؤسس لمرحلة جديدة من الصراع بين أتباع الفكر القاعدي.
فبعد تسجيل "ليتك رثيتني" لزعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني في شباط من العام الحالي، والذي توعد "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بزعامة أبو بكر البغدادي بمحاربتها في عقر دارها في العراق، برز قبل أيام تسجيل صوتي للظواهري ينعي السوري ويصف من قتله بالطامع بالسلطة، دون أن يفصل في اتهام داعش بدمه.
ويبدو أن خطاب الظواهري الأخير، لم يشف صدور الداعين إلى إنهاء حالة ابو بكر البغدادي، حتى أصدورا بياناً نُشر على منتديات جهادية بعنوان "رسالة من الأمة إلى حكيم الأمة"، دعوا فيه الظواهري إلى "أن يتكلم بما فيه خير للجهاد والمجاهدين حول الوضع الراهن، وخاصة فيما ما يتعلق بجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، قبل إعلان التمدد وبعده، ومسألة البيعات ومسألة التحاكم المتنازع عليهما بين الخصوم"، وكذلك "أن يفصل في البيان والتوجيه بما يجلي الأمر ويكشفه لعل الله أن يصلح بنصحه وتوجيهاته الحال"، بحسب نص الرسالة.
ومن الموقعين عليها الرسالة، طارق عبد الحليم، هاني السباعي، إياد قنيبي، عبد الله المحيسني، محمد الحصم، سامي العريدي.
وأثارت "رسالة الأمة" سيلاً من التهجم عليها من قبل مؤيدي"داعش"، وصلت إلى حد اتهام الظواهري بالكفر، واتهموا الموقعين عليها بالنفخ في بوق الفتنة، وتسعير الخلاف بين الدولة والنصرة، خصوصاً وأن من بينهم ممن جاهر بولائه للجولاني وقاتلوا إلى جانب جبهته (عبد الله المحيسني)، وبعضهم هاجم البغدادي، وآخرون يُعتبرون مرجعية شرعية لدى النصرة (سامي العريدي).
ويبدو أن قادة الجناح الرئيسي للقاعدة في سوريا وشرعييها يريدون دعماً من رأس تنظيم القاعدة في الحرب على داعش للقضاء عليها بشكل نهائي ليس في سوريا فقط، بل في العراق، تنفيذاً لتهديد الجولاني نفسه، بعدما انقضت مهلة الخمسة أيام التي أعطاها للبغدادي، وامتدت لأسابيع وشهور.
وفي غمرة الاحداث، وتصاعد الخلافات وتأزمها، واستمرار شلال الدم بين أتباع الفكر الواحد، تناقلت المنتديات الجهادية خبر مبايعة جماعة "أنصار الإسلام" في العراق لأيمن الظواهري، وهذا أمر إن صح، فيعني أن هذه الجماعة ستكون الجناح الرسمي لتنظيم القاعدة في العراق، على غرار جبهة النصرة في سوريا، مع ما يرتد عليه من سحب الشرعية من دولة البغدادي وعزلها داخل بيئتها الحاضنة وبالتحديد في صحراء الأنبار ومدنها.
وتتهم مصادر الدولة الإسلامية "انصار الإسلام" بتلقي دعم مالي واستخباراتي من السعودية، فيما تحدثت مصادر "جهادية" قبل أشهر عن زيارة سرية قام بها "المفتي العام لجبهة النصرة" ميسر الجبوري (أبو ماريا القحطاني) إلى العراق، حيث التقى قيادات لفصائل مسلحة من ضمنها "انصار السنة" و"الجيش الإسلامي"وبعض شيوخ العشائر، للاتفاق معهم على مبايعة جبهة النصرة والانضمام إلى صفوفها، أو على الأقل التحالف معها في وجه البغدادي، وأشارت المصادر إلى أن المخطط هو تشكيل جبهة مشابهة لـ "الجبهة الإسلامية" في سوريا.
وميسر الجبوري هو عراقي، كان من قيادات الدولة الإسلامية في العراق، وهرب إلى سوريا قبل اندلاع الأحداث بعد خلاف مع البغدادي، وقيل أن الأخير أرسله إلى سوريا انذاك لإستطلاع الأجواء، إذا كانت تسمح بتأسيس جماعات تتبع تنظيم القاعدة، تكون الظهير الحامي للدولة الإسلامية ومقرها الأنبار.
غير أن "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه"، فتحول ميدان الشام المفتوح على كل الاحتمالات إلى تهديد وجودي للدولة الإسلامية، بعدما كان يراد منها أن تكون حامية لها، وأصبحت دير الزور السورية الحدودية مع الأنبار نقطة انطلاق للعمليات العسكرية ضدها، بعدما كانت أيضاً نقطة تجهيز لمسلحي داعش في غزواتهم ضد الجيش العراقي وقوات الصحوة.
ويبدو أن أبو بكر البغدادي استشعر الخطر القادم من سوريا، فقرر الهجوم المباغت على جبهة النصرة في البوكمال، في محاولة للسيطرة على معبر البوكمال الحدودي مع العراق (القائم من الجهة العراقية) الذي تستولي عليه جبهة النصرة من الجهة السورية، بهدف إعادة وصل ما انقطع من خطوط الإمداد بين شطري التنظيم، وفك عزلة الجنود الذين يقاتلون الجيش العراقي في الانبار وإعادة توحيدهم ورفع معنوياتهم، تعيد ثقتهم بأميرهم، خصوصاً بعد مقتل عدد من زعماء داعش وأبرزهم حجي بكر.
وتعطي السيطرة على معبر القائم القوات التي تتحكم به، سهولة في تهريب المسلحين والأسلحة من وإلى الأنبار، كما تسمح لداعش باستقدام تعزيزات من الرقة وباقي المناطق السورية، بحال اتخذ قرار فتح معركة الأنبار، من قبل الموالين للنصرة والجبهة الإسلامية، التي تتلقى بالمناسبة دعماً خليجياً عبر ممولين غير رسميين، تحت عنوان جمعيات إغاثة وتموين ودعم انساني.
ويشار إلى أن المعابر الحدودية مع العراق إضافة إلى القائم إثنان: معبر اليعربية (الربيعة من الجهة العراقية) في محافظة الحسكة، ويسيطر عليه المقاتلون الاكراد، ومعبر التنف (الوليد من الجهة السورية) جنوب دير الزور، ويسيطر عليه الجيش السوري.
وفيما ينفي مسلحو داعش هذه الفرضية، ويقولون إن هجومهم في البوكمال كان محدوداً في الأساس وبمهمة محددة تم انجازها، تشير العديد من المعطيات إلى مساعي ابو بكر البغدادي لفك العزلة عنه، انطلاقاً من فكره التوسعي، فهو لن يرضى بمحاصرته في الأنبار، والقضاء على حلمة بدولة تجمع العراق والشام، حتى دفع ثمن ذلك سخط أيمن الظواهري وقتاله.