خفِّف الوطء يا حمزة. لم يبق المشهد على حاله. التمّ إطار الشاشة الصغيرة على بعضه البعض، كوّره الحزن، وضاق بك. لم يكن هذا وجهك. كان يُشرّع للشاشة الضوء والصوت والكلمة. لم يكن وجهك هذا يا حمزة...
غفران مصطفى / جريدة السفير
خفِّف الوطء يا حمزة. لم يبق المشهد على حاله. التمّ إطار الشاشة الصغيرة على بعضه البعض، كوّره الحزن، وضاق بك. لم يكن هذا وجهك. كان يُشرّع للشاشة الضوء والصوت والكلمة. لم يكن وجهك هذا يا حمزة، ولا حنوّك على الناس. لا يرحل من يحبّه الكلّ. لا تخفت أصوات الضمير، ولا يزال الوجع ينخر الأرض. أنت أمل الوحيدين، أنت شغف الفقراء الراكضين على التراب المبلّل إلى بيوتهم المهشّمة في الحرب. لأنّ الحب بيت. أنت الصوت الرّخيم الذي يسدّ فجوة اليُتم في قلوب أطفال الشوارع. أنت كسرة الخبز المنسيّة التي يتوق إليها جائع وحيد. أنت البيت المشرّع، لا يحدّه شيء سوى التمام الحمام حول العشب، ليبيضّ المشهد كلّه، وتُشجّر الأرض من حولك.
نذهب معك إلى تقاطعات ملعب كليّة الإعلام الصغير. هناك كنت تدثر حكاياتك وقصصك وقصائدك، في أوقات مستقطعة من يوم جامعيّ طويل، نلتقيك ولا نملّ. تحب الالتمام، تحب الناس، تحب أن يكون في الطرف المقابل من المقعد وجوه تألفها عيناك. تلقي آخر بيتي شعر ألّفتهما، بانسجام تامّ. تحبّ متذوقي الشعر، وتحبّ خلق المتعة بين الوجوه التي لا تنظر إلى بعضها البعض مباشرة.
أنت صوت ممتدّ من الهطول حتى الثرى. ذاك المكان المظلّل بالبلاط، لكنّ خلفه سهلاً أبيض شاسعاً ممتداً من حيث تنتمي، سهل كلهجتك البقاعيّة الجميلة.
أنت آخر الطيّبين يا حمزة. خذنا إلى جرحك المفتوح، نحن المرتمين بذهول خبرك. تمهّل قليلاً، لم يصل محمد بعد. ها هو يجلس الآن وحده على الحافّة. محمد صديق عمرك، حزين، وحيد، موجوع. لا تملّ. لوّح حتى يأخذك التّعب، ثم اضحك عالياً، كي نسمعك، اضحك حتى يجفّ الصوت.
يا حمزة؟ دعك من لعبة الموت. تعال. هذه زينب، وفتون هنا، تجلسان على المقعد. أعرف أنّك جائع، وها قد وصلت للتوّ إلى الجامعة. سنأكل الصعتر، تحبّ الصعتر أنت. اذهب إليهما، وسألحق بك، أو انتظرني. تريد أن تشرب مع المنقوشة شيئاً ما؟ الماء فقط؟ حسناً.
يا حمزة؟ هذه موسيقى الشهداء، أسمعها عشيّة الاثنين على «المنار»، بيتك الثاني المحبّب. هذا وجهك يطلع مع اللحن. هذا أنت وهذه مشاهدك الأخيرة. هذا خبرك يتسلَّل إلى جلدنا ويُمرَّر كحزن منسيّ معتّق في المسام.
خذنا إلى جرحك المفتوح يا حمزة، ولا تترك المشهد فارغاً هكذا. الهواء لك، قل شيئاً، قم وانع نفسك بنفسك، قم رتّل قصائدك الحريريّة، ابتدع شكلاً لموتك. ولا تتركنا نصدّق.
كنت تخرج إلى اليوم الجديد كأنك الآن ولدت، لا تعب تحمله معك من كل الساعات المتراكمة خلفك، تمشي إلى الناس خطوة خطوة، ذاك الذي يبني للقلب هيئته. هكذا تعرف كيف تكون صحافياً. يغيب المشهد معك، تصير الطريق كزاروب ضيّق طويل مظلم بلا وجهة. وتصير المسافة بيننا وبينك، كمسافة اليد عن الوجع.
يا حمزة، قلت قبل يومين إن الماضي جميل، وقد لا يتكرر. أنت كلّ هذه الجملة يا صديقي. أيها الصحافي الخارج من الضوء إلى غمرة الشهادة.