وماذا بعد؟ سؤالٌ يطرحه الكثيرون في هذه الأيام المصيرية التي تمر بها المنطقة والعالم برمته..
بقلم حسن شقير *
وماذا بعد؟ سؤالٌ يطرحه الكثيرون في هذه الأيام المصيرية التي تمر بها المنطقة والعالم برمته..
سيما أن سمات هذه المرحلة التاريخية من عمر الصراع الدولي على النفوذ في العالم، هي في طورٍ تأسيسي في منتصف الطريق.. كون هذا العالم خرج بأسره من أسر الأحادية القطبية التي أدخلته فيه أمريكا... وهو لغاية اليوم لم يدخل في نظام جديد قائمٌ على الثنائية المتجددة، أو في نظم تعدد الأقطاب، أو ما شابه ذلك من الأنظمة التي قد يرسو عليها العالم في نهاية صراعات النفوذ الدائرة حالياً .
إذاً، إذا ما سلّمنا أننا نقبع اليوم في هذا الطور التأسيسي للعلافات بين الدول , لا بد لنا أن نستشرف طبيعة الظروف المحيطة , أو تلك التي يُعمل على إحاطة العالم العربي بها , وخصوصاً فيما يتعلّق بمحور الممانعة فيها .. وذلك تبعاً لتقلبات موجات الصراع الدائرة في المنطقة والعالم أيضاً , نظراً لإنعكاساتها المباشرة وغير المباشرة عليها , وذلك لأن أطراف هذا المحور تقبع ضمن بقعةٍ جغرافية , تجمع في ميزاتها بين مناطق النفوذ والصراع على حد سواء , وهي ذات أهمية قصوى في تشكّل الصورة النهائية للنظام العالمي الجديد , والذي نخوض غمار ألام ولادته العسيرة والباهضة الثمن على كافة الصعد .
ولكن , وبعيداً عن احتفالات النصر المحقة , بعد كل محطة مفصلية من محطات الصراع مع الكيان الصهيوني ومن خلفه أمريكا , وذلك عبرهزيمة جماعات التكفير في سوريا والمنطقة , والتي يتناغم مشروعها مع مشروعهما ... فإننا وبناءً على حقيقة واقعة في السياسات الدولية الكبرى , والتي مفادها أن القطب المتراجع , لا يعترف صراحةً بواقعه المستجد , وليس ميالاً مطلقاً إلى إعلان هزيمته على الملأ .. لا بل أنه يبحث دائماً عن طرق الإستدارة ضمن ألياتٍ جديدة في صراعه المستمر , حيث يرتدي هذا الأخير وجهان أساسيان , الأول ذو طابعٍ إنتقامي تجاه الخصوم , ما يلبث أن ينحو نحو الطابع الإنسيابي .. علّ أليات هذا الأخير , تعيد هذا القطب المتراجع إلى مربعه الأول في إحكام السيطرة على مناطق التراجع الإجبارية التي فُرضت عليه .. فضلاً عن أن هذه الأليات , يأمل من خلالها هذا القطب- الأفل أن يُلقِّن فيها خصومه دروساً جديدة في الصراع معه...
عن هذه الأليات الجديدة , نبحث في هذه العجالة .. وذلك لأن التغاضي عن الإضاءة عليها .. قد يجعل من نتائج المعركة في خواتيمها , أشبه بخواتيم معركة أحد في العصر الإسلامي الأول , والتي نأمل ألاّ تقع الأمة في شراكها مطلقاً .
في الدوافع
• دوافع الإزدواجية : لا شك أن السياسة الأمريكية اليوم , هي أكثر عرضةً للإنتقاد من أقرانها الغابرة بامتياز ,و خصوصاً من حلفاء أمريكا في المنطقة , والسبب في ذلك , بأن هؤلاء لم يشهدوا في تاريخ علاقاتهم مع واشنطن , سياسةً بهذه الغرابة التي تتسم بها في هذه المرحلة ..أو أن هؤلاء لم يعتادوا على هكذا نمطٍ من السياسات الأمريكية .
لقد نُظِرَ إلى هذه السياسة الإزدواجية من منظورين مختلفين تماماً , فعند أولئك الحلفاء وُسِمت تلك السياسة بالعجز والضعف .. وعند من تناصبهم أمريكا العداء وُسِمت بالواقعية السياسية بفعل النكسات المتتالية للواقع الأمريكي داخلياً وخارجياً ..وعند البعض الأخر دُمغت بالإثنين معاً ...
ولكن , وبغض النظر عن هذا وذاك , وبنظرة موجزة على بعض من مظاهر هذه الإزدواجية , من الإنفتاح الأمريكي على إيران , ومحاولتها طمأنة حلفائها سواء في الكيان الصهيوني أو من بعض العرب , وسعيها الحثيث للتخلص من نظام الممانعة في سوريا بشتى الوسائل الممكنة , والتي تكشف الوثائق الغربية يوماً بعد يوم مدى التواطؤ في دعم الجماعات المسلحة المتحالفة مع من تصنفهم بالإرهابيين .. ووضع هؤلاء على لوائحها السوداء التي تحذر من التعامل معهم ! على الرغم من أن مشروعها ومشروعهم واحد , في تغيير وجه سوريا الممانع !
لائحة السياسة الإزدواجية الأمريكية تطول وتطول , من العراق والموقف من غض النظر الذي تمارسه الإدارة الأمريكية عن بعض الدول الحليفة في السكوت عن الدعم الذي تقدمه إلى داعش العراقية .. ودعم أمريكا للمالكي في محاربتها في الوقت عينه ! وفي مصر وكيفية التعاطي مع الإخوان , والحفاظ على العلاقة مع العهد الجديد ! وتقلبات السياسة الأمريكية في لبنان , من عزل المقاومة .. إلى ضرورة عدم استبعادها !...
السؤال الأساسي : هل هذه السياسة نتاج العجز والضعف ؟ أم أنها نتاج الواقعية السياسية ؟ أم أنها نتاج مزيجٍ من الإثنين معاً ؟ الإجابات مفتوحة في كل الإتجاهات ... والتي من بينها تصريح بالأمس القريب لوزير الحرب الصهيوني موشيه يعلو ن , والذي قال ما حرفيته " ليس من المتعة أن تقتل عدوك بيدك , فعندما يقتل عدوك نفسه بيده أو يد أخيه فإن المتعة أكبر وهذه سياستنا الجديدة ,أن نُشكّل مليشيات للعدو قيكون القاتل والمقتول من الأعداء " فهل تندرج هذه الإزدواجية الأمريكية في خدمة هذا السياق الذي يُنظِّرُ إليه يعلون في خلق صراعات داخل المجتمعات العربية في كيفية التعاطي مع السياسة الأمريكية هذه !!! لا يجب أن نغفل عن هذا أبداً ... فذلك سيبرز بوضوح أكثر فأكثر في الروافع ..
يقول علماء النفس والإجتماع أن دوافع العدوان , مردها في أغلب الأحيان , أنها تعود إلى عامل أساسي , وهو الإحباط .. فهل عاشته وتعيشه أمريكا والكيان الصهيوني في هذه الأيام ؟ الإجاية على عهدة القارئ.
في الروافع
في مقالتي السابقة , والتي تطرّقت فيها في البحث عن سر الإندفاعة والإصرار الأمريكي في ملف المفاوضات بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية , ذكرت أنه من بين الأسباب التي تدفع أمريكا إلى ذلك , هو الطلب من هذا الكيان أن يعتمد سياسة التفاضل ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة , كاستراتيجية جاذبة للفلسطينين في القطاع المحاصر .. وذلك بجعل الضفة الغربية " واحة يُحتذى بها " .
لم يقتصر الأمر في هكذا نوعٌ من الروافع الجاذبة على ملف التفاوض مع الفلسطينين , فلقد سبق لأوباما نفسه في منتدى سابان الأخير أن برر لمحاوريه من الصهاينة , أن من بين أهدافه في رفع العقوبات جزئياً عن إيران ".. هي لتقوية الرأي العام الإصلاحي مقابل التيار المحافظ .." !
لا تبتعد روافع الجذب الصهيونية , عن تلك الأمريكية , فلقد كثُر الحديث الصهيوني مؤخراً عن ضرورة تقديم المزيد من الحوافز للشباب العربي, وتحديداً المسيحي والدرزي في الأراضي المحتلة في ضرورة الإنخراط بالخدمة العسكرية الصهيونية في الجيش الصهيوني ... ! وتسليط الضوء على بعضٍ من ضعاف النفوس الذين راحوا يروجون لهذه الفكرة .. والتي تهدف بلا أدنى شك إلى تمزيق اللحمة الوطنية والقومية والعروبية التي لا تزال تؤطر المجتمع الفلسطيني على وجه التحديد , وهذه الروافع الجاذبة جسدها الصهاينة أيضاً في فتح خطوط التواصل في بعده " الإنساني " مع جرحى الجماعات الإرهابية في الجولان المحرر !
لم تقتصر الروافع عند أمريكا والكيان على بُعدها الجاذب فقط , إنما تعداه ذلك إلى روافع من نوع أخر , فبعضها يحاول استغلال الإنفتاح على إيران واقتراب فرص التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي حصراً .. لتجهد الميديا الأمريكية ومعها الصهيونية وبعض العربية في تصوير الجمهورية الإسلامية , على أنها دولةٌ "براغماتية على كافة الصعد " وأن لا مكان للمبادئ التي ترفعها وتنادي بها ... وخصوصاً فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية وموقفها المبدئي من الكيان الصهيوني ... وخصوصاً أننا نسجل عتباً على الميديا الممانعة في عدم تسليطها الضوء على فصل السلّة النووية عن ملف الصراع مع الكيان الصهيوني في المفاوضات الجارية حالياً .. والتي ينفذ من خلالها البعض للترويج للروافع البراغماتية الأمريكية في الرأي العام الممانع في المنطقة...
نختم إلى القول، أنه وكما أفشل محور الممانعة استرتيجية أمريكا في سوريا في جعلها دولةً فاشلة تهدد السلم والامن الدوليين، وكما تم إفشال الإستنزاف في كافة خياراته... وكما تم تحويل التهديد إلى فرصة على الجغرافيا السورية، وبدأ معها الكيان الصهيوني يعيش لحظات الهلع والندم جرّاء ذلك.. فإن مسؤولية أطراف الممانعة اليوم هي خوض ٌ معركة جديدة بدوافع وروافع مضادة.. إلى حين رسو سفن النظام العالمي الجديد على سواحل المنطقة.
*باحث وكاتب سياسي
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه