كانت ساعة الظهيرة عندما جاء الإتصال ، لحظات قليلة حتى بدأت الأفكار تسرح في مخيلتي ..... "حمزة " لا يعقل أخي الضحوك ، الشاعر الطريف رحل .
علي ملّي
كانت ساعة الظهيرة عندما جاء الإتصال ، لحظات قليلة حتى بدأت الأفكار تسرح في مخيلتي ..... "حمزة " لا يعقل أخي الضحوك ، الشاعر الطريف رحل ..... حولت وجهة سيري، إنطلقت مسرعاً إلى مبنى قناة المنار وأنا أسير مسرعاً وأعزي نفسي بأن الخبر غير صحيح وسأذهب إلى القناة ليكون حمزة في استقبالي مع فنجان القهوة وأبيات لطالما ضحكنا عليها سوياً " لا لست زنتوتاً .... في رأسي دجاجة "
دخلت إلى مبنى القناة وفي تلك اللحظة لم يعد يهدأ الهاتف ، فكما قال الشهيد مرة " المحبين كثار ". وابل من الإتصالات والسؤال واحد .... هل صحيح الخبر " حمزتنا إستشهد " ، وقفت عندها حائراً أرى الدموع في عيون إخوتي في قاعة التحرير والحسرة بادية على وجوههم ، ماذا أقول حيرتني يا حمزة صرت أجيب بأن الخبر ليس مأكدا ولا معلومات لدينا ، عبارة ظننت لعلها تهدئ روع المحبين.
صدّق يا حمزة بالرغم من أنني خضت الكثير في سوريا ولكن رحلتك كان لها طعم آخر، لم أظن يوماً بأن أحداً منّا قد يرحل ... كنّا نقولها بشيء من الفكاهة عندما ينطلق أحدنا " شهداء ... شهداء " لم أكن أظن بأن الفكاهة قد تصبح واقعاً ويؤلم بهذه الشدة .... صحيح أننا أهل العطاء والشهادة وأهل التضحية ولكن ما يؤلم هو الفراق ...
أخي ... طال ذلك اليوم ولم يكن وقته كالسيف ، كأن الساعات فيه كانت تنعاك لا تريد أن تمر بسرعة ... في كل لحظة منها كان يتصل محب يسأل عنك بلهفة وكأن الأهل والأحبة لم يخفوا طمعهم فيك فلم يرضوا أن تبقى عريس المنار بل أرادوك عريس لبنان ... كل لبنان ، لم توقف مشاعر حبهم إعتبارات ولا حساسيات ولا طائفية ، يعني بإختصار كنت أنت اللبناني الذي أحبك الجميع وبكاك الجميع ونعاك الجميع وكل بأسلوبه فهنا وبأصوات التراتيل علت صلوات تسأل السلام لروحك وهناك أناشيد ومرثيات بكل اللغات ....
ليس لأنك نجم ولا لأنك مراسل وصحافي بل ببساطة لأنك لبناني ، شفاف ، بريء ، طالب شهادة وطالب دنيا ففي الدنيا كنت مليئاً بالحياة غير مكترث ولكن في سرّك كان عشق للباقي الذي إختار أن يكون إستشهادك الحدث .... دم المقاوم الصحافي روى أرض المسيح، كيف لا ليعلم الجميع يا حمزة بأن الإرهاب لم ينظر في هويتك ولم يكترث لدينك، قتلك بدم بارد في أرض القداسة ليمتزج دمك بدم القديسين .....
صديقي ... واستمر الليل بطوله يتوافد المحبون إلى مبنى القناة يسألون عنك زملاء، أصدقاء، إخوة وأهل .... هناك وبعد أن أعلنت القناة خبر إستشهادك أطلقت العنان لدمعتي ... هناك تيقنت بأنك رحلت .... وأن المسافة لن تكون قريبة بيننا .... هناك رأيت الدماء وأحسست بالرصاص الحار في جسدك الطاهر ... وصدقني حسدت الرصاص لأنه كان آخر من سلم عليك وأنت تنبض بالحياة ....
لم أكن أعلم أيها الزميل أنني أقف في هكذا موقف .... حمزة مشيت في تشييعك وأنا أقول في نفسي سيطل في أي لحظة ليقول لي بعبارة معهودة " هيدا كل اللي طلع معك .... شو هالتقرير اللي ما حقوا نغلة " ويضحك ... كنت أعتقد أنك ستعلّق على صور وداعك التي إلتقطها بعدستي ساخراً " يا علي أنت مش شغلتك تصور " ولكن لا هذه المرة غاب تعليق حمزة ونام معه تحت التراب .... ولكن موقف واحد لم أتخيل أنني في يوم سأواجهه ... حشد من الناس يتدافعون على قبرك وجثمانك الطاهر ينتظر النزول إلى المثوى الأخير هناك وسط صخب الوداع وأنين الأحبة وبكاء المقربين ...
أحسست بصمت غريب، غابت عني كل الأصوات إلى صوت واحد ... عباس فنيش يقول لي " علي إفتح النعش وتهيأ لرفع الجثمان.. لم أعلم ماذا أفعل نظرت إلى وجهك ... مشرق ونائم بسلام وسكينة ... كنت لوهلة سأهزك حمزة إستيقظ ... قل لي شعراً، فلتحكِ لي طرفة أو حادثة مضحكة، ولكن سرعان ما انتبهت من أسراب الخيال وحملتك إلى المثوى الأخير ...
هناك استوقفني كلام محب يقول "الله يخليك ... خليني بس شوفو آخر مرّة" .... عجزت عن الكلام ، ساعدني يا حمزة ربط لساني فأسعفني الإخوة قائلين " تنحوا عن القبر سيلقن الشهادة .....
عندها نفضت التراب وودعتك بعيون ملؤها الألم، نظرت إليك نظرة أخيرة إختصرت فيها كل شيء ... هناك قلت لك يا حمزة نم قرير العين .... نظرنا الدماء وسنكمل الطريق .....