27-11-2024 08:38 AM بتوقيت القدس المحتلة

ميشال عون: آخر المرشحين الأقوياء

ميشال عون: آخر المرشحين الأقوياء

لو لم يكن ميشال عون مرشّحاً هذه المرة للانتخابات الرئاسية، لأمكن المؤسسة اللبنانية للإرسال تنظيم برنامج مماثل لانتخاب ملكات الجمال أو ستار أكاديمي وفق تلفزيون الواقع لانتخاب رئيس للجمهورية



غسان سعود


لو لم يكن ميشال عون مرشّحاً هذه المرة للانتخابات الرئاسية، لأمكن المؤسسة اللبنانية للإرسال تنظيم برنامج مماثل لانتخاب ملكات الجمال أو ستار أكاديمي وفق تلفزيون الواقع لانتخاب رئيس للجمهورية. هذا ما سيحصل فعلاً مستقبلاً، ما لم ينتخب رئيس يعيد التوازن إلى النظام الطائفيّ السياسيّ ويؤدي دور الحكم لا المهرج .
 
لن تتكرّر انتخابات رئاسية مماثلة مرة أخرى. منذ عام ١٩٩٠ كان هناك أمل دائم بعودة رئيس قوي إلى قصر بعبدا، على نحو يتيح تفعيل المناصفة ويوازن بين النفوذ المسيحي في السلطة والنفوذين السني والشيعي. لم يقصد بالرئيس القوي، قط، من لديه سجل حافل بالجرائم، أو من يتقن التحريض المذهبي، أو من أشرف خلال سنوات عهده الست على تفريغ جعب المؤسسات الرسمية من كل ما صمد فيها، بل من لديه مسيرة سياسية تركزت في قيادة الجيش أيام كانت القيادة مختلفة عما هي عليه اليوم، ومن حاز تأييد سبعين في المئة من المسيحيين، ومن لديه كتلة نيابية من ٢٧ نائباً، ومن كان لديه عشرة وزراء، ومن يشارك في قيادة تحالفه السياسي بدل أن يُقاد فيه.

الحديث هنا عن ميشال عون حصراً. لم يكن ترشيح عون وارداً في الاستحقاقات السابقة، لكن نادراً ما مرت انتخابات رئاسية من دون تفكير كثيرين في موعد جلوس رئيس على كرسي بعبدا، بدل الاستمرار في إسناد المقيمين في بعبدا بكرسي الرئاسة. عام ٢٠٠٨، كان كل من حول عون يثق بجدية ترشيحه، باستثناء عون نفسه. أما اليوم، فحظوظ الجنرال تبدو على مرمى حجر من بعبدا.

ثمة مرشحون متمولون، ومرشحون مثقفون وآخرون كاريكاتوريون وتقليديون ومتحمسون. جميعهم عاديون، سيأتي مثلهم عشرات ويذهبون، من دون أن يشعر أحد. ولكنها المرة الأولى، والأخيرة غالباً، التي يكون فيها العماد عون مرشحاً. يمكن السؤال عمّا يدفع إلى الرهان على عون لبناء الجمهورية بعد فشل الرهان عليه في بناء حزب صغير، وكيف سيؤتمن على الديموقراطية التوافقية في البلد من لا يؤمن بالديموقراطية في منزله السياسي، وطرح عشرات الأسئلة الأخرى، إلا أن الأهم من هذا كله هو أنها المرة الأخيرة التي يكون فيها للمسيحيين مرشح قوي لرئاسة الجمهورية.

لا يستمد عون قوته من ماضيه فحسب، بل من قدرته على إعادة التوازن مستقبلاً إلى السلطات. فكل ما يشاع عن طمأنة عون لحزب الله من أجل الشروع في حوار جديّ في شأن الاستراتيجية الدفاعية هو تفاصيل، وكذلك ما يشاع عن ضمان عونيّ لمصالح شركات النفط الأميركية، الأهم في برنامج عون الرئاسي هو إعادته التوازن إلى السلطة. ويشرح أحد زوار الرابية الدائمين أن التوازن الإقليمي اليوم يحول دون احتفاظ الطائفة السنية بنفوذ في السلطة أكبر وأهم من نفوذ الطائفة الشيعية، بحكم وضع تيار المستقبل يده على نفوذ الطائفة السنية وجزء مهم من النفوذ المسيحي. والتوازن نفسه يحول دون عقد اتفاق طائف جديد يعيد تقاسم السلطة بشكل واضح بين السنّة والشيعة. هنا أهمية عون، فهو قادر على مطالبة المستقبل بإعطاء المسيحيين ما هو أساساً للمسيحيين، من دون أن تفسر عطاءات المستقبل بأنها هزيمة للطائفة السنية وانتصار للطائفة الشيعية. وهكذا، يترجم التوازن الإقليمي محلياً، من دون أن يشعر أحد بأنه ربح أو هزم، وتطوق بالتالي أزمة الاستقرار الهش، كما يأمل المجتمع الدولي.

دبلوماسي أميركي لصديق لبناني: عون أو الفوضى!

ليست فرصة عون وحده الأخيرة، بل فرصة اتفاق الطائف الأخيرة أيضاً. لا شيء يوحي بأن في الأفق من يملك تجربة سياسية مماثلة لتجربة عون، وتمثيلاً شعبياً يوازي تمثيله الشعبي، وتلك الشبكة المذهلة من العلاقات، وثقة حلفائه به وكتلته النيابية ووزرائه. إما يطبق اتفاق الطائف، كصيغة مناصفة تحفظ التوازن في السلطة بين مختلف الطوائف، أو يسقط كل أمل بموازنة السلطة ويفتح باب المطالبة بعقد سياسي جديد، ينهي زمن المناصفة الشكلية ويعيد تقاسم السلطة وفق أحجام القوى السياسية والمذهبية، الأمر الذي يهدد الاستقرار بأعاصير حقيقية. لم يكن يمزح أحد الدبلوماسيين الأميركيين حين قال لصديق لبنانيّ قبل بضعة أيام: «نحن أمام معادلة واضحة: ميشال عون أو الفوضى».

لكن كيف يتصرف عون؟ هو يلهي، منذ بضعة أشهر، التيار الوطني الحر بنظامه الداخلي عن الانتخابات الرئاسية. لا يريد مسيرات سيارة وأخرى راجلة تهتف باسمه، ولا إعلاناً إذاعياً على غرار دعاية لبنان الحر: «سمير جعجع (سكوت ثانيتين) رئيساً للجمهورية»، ولا لوبياً يضع قدرات أصدقائه من حبيب افرام إلى إيلي الفرزلي وما بينهما في تصرف معركته الرئاسية. ولا نواباً ينقلون إليه ما سمعوه هنا وقرأوه هناك. يحرص على أن يتألف الصف الأمامي من جيشه، منه وحده. وفي الصف الذي يليه، يوجد الوزير جبران باسيل وحده أيضاً. ولا أحد خلفهما، سيخسر الآخرون إن خسر عون من دون أن يحظوا بشرف القتال. يمكن الأصدقاء أن يتحدثوا عنه بإيجابية، والإعلام أن يفعل ما يراه مناسباً، والعونيين أن يصلّوا ويضيئوا على نيته الشموع، هو لن يطلب شيئاً من هذا كله. لا يريد أن يبت التيّار ترشحه، ولا أن يشحذ العونيون حساباتهم الإلكترونية للتصويت له في هذا الاستطلاع أو غيره، ولا أن يجتمع اللقاء المسيحي أو غيره بمشاركة عشرات المطارنة ليدعموا ترشيحه، ولا مهرجانات مناطقية داعمة له، ولا «فرح ناس» أو غيره. لا تعنيه الـ Image making ولا تبهير حظوظه وتمليحها. يتمسك هذه المرة، أكثر من كل المرات السابقة، بصفته One Man Machine. ما كان عون يصدق أن النائب ميشال المر صنع الياس سركيس وبشير الجميّل وأمين الجميّل وإميل لحود وميشال سليمان رؤساء، ليصدق اليوم أن نبيه بري ووليد جنبلاط ومرسيل غانم يصنعون رئيساً.

يتعامل عون، بحسب زواره دائماً، بعقل صاف مع الاستحقاق الرئاسي، فاصلاً بوضوح بين الوقائع والأحلام. لا يكاد يسأله ضيف عن مقالة أو خبر أو مرشح جديد، حتى يدعوه إلى عدم التلهي بالألاعيب. قرر منذ بضعة أشهر تجنب تضييع الوقت في معارك صغيرة وخصومات عبثية تلهيه وتعوق تقدمه؛ لماذا يضع رئيس الجمهورية في ظهره مثلاً. هو يحسم اليوم أن الرئيس لا يصنع في لبنان، ولا هو قرار حريري شخصي أو مستقبلي، بل هو نتيجة لتفاهم، أو تصادم، أميركي ــــ إيراني، مع ما يسبق الاحتمالين من مشاورات أميركية ــــ سعودية وإيرانية ــــ سورية. وهو لا يشك لحظة في أن الحريري لن يخوض، أياً كان مستوى علاقتهما الشخصية، معركته الرئاسية. كل الجهد الشخصيّ المبذول يهدف إلى ضمان الترحيب الحريري بانتخاب عون رئيساً إن حصل الاتفاق دولياً عليه، بدل امتعاض الحريري واستنفار علاقاته لضرب حظوظه. علاقته بمستشار الحريري النائب السابق غطاس الخوري غدت وطيدة جداً. ويتحدث بإعجاب عن نادر الحريري. سره أن يعزم الحريري والوزير نهاد المشنوق نفسيهما بنفسيهما عند الوزير جبران باسيل عبر سؤاله «متى نتعشى عندك؟». العلاقة تتوطد، لكن عون لن يكون مرشح الحريري. كلمة السر لم تعلن بعد، والسفارة السعودية لم تطلب موعداً بعد لتسليم عون دعوة من الملك السعودي لزيارة المملكة. حتى الرئيس بشير الجميّل، يقول أحد العونيين، احتاج إلى ختم جواز سفره بفيزا المملكة قبل دخوله إلى نادي الرؤساء.

يقف الرجل على ذلك الخيط الرقيق الممتد بين القمتين الأميركية والإيرانية الشاهقتين، يوقعه أصغر اختلال في التوازن. يعلم أن ظهوره بمظهر القادر على إعادة التوازن إلى السلطة هو أحد أبرز عوامل قوته، لكنه أحد أبرز عوامل ضعفه أيضاً في نظر من يعتقدون أن إعادة التوازن تمر بمصادرة بعض مكتسابتهم. وما ينقل من الحوارات مع عون يبين بعض أسباب تمسكه بخوض معركته لوحده: هو يعلم أنه لن يتلقى جواباً نهائياً من الأميركيين لا اليوم ولا غداً، بل مجرد مناخ إيجابي. أما الاسترسال في تضخيم الإيجابية الأميركية وتظهيرها بمظهر الحسم النهائي، فسيدفع السفارة الأميركية في بيروت إلى إصدار بيان تكذيبي واتخاذ خطوات في الاتجاه الآخر. هو لا يلتقي السفير الأميركي ديفيد هيل بالكمّ الذي يشيعه الإعلام. علاقة هيل بباسيل وطيدة جداً، تذكر الرسائل النصية بينهما بالرسائل النصية بين السفير جيفري فيلتمان وثوار الأرز. يعلم عون أن حضارة المصالح الأميركية تجعلهم يحكّمون عقلهم على عواطفهم، ما يسهل مهمته: أولوية الاستقرار المحليّ بالنسبة إليهم، دفعتهم إلى المطالبة بتشكيل الحكومة ولو بمشاركة حزب الله. وأولوية محاربة الإرهاب بالنسبة إليهم، تدفعهم إلى مشاركة حزب الله في قتاله جنباً إلى جنب. فكيف الحال إذا كان انتخابه رئيساً يضمن لهم هاتين الأولويتين وأكثر. المهمة الأصعب سعودية، فالعواطف والمواقف المبدئية المعلنة تتقدم المصالح هنا وكل شيء آخر.

أما الرئيس نبيه بري، فيخشى عون من التأثير السلبي الدائم لثرثرة ومناكفات النواب على علاقتهما الشخصية، وهو يُعدّ لخطوة مباشرة قريباً باتجاه رئيس المجلس. لن يكتفي هذه المرة بالتعويل على ضغط حزب الله على بري حصراً كما كان يفعل سابقاً، وخصوصاً أن التجارب السابقة لم تكن مشجعة، وهو يعلم أن اقتناع بري به يفتح له أبواباً مغلقة كثيرة سواء مع النائب وليد جنبلاط أو مع غيره. أما في ما يتعلق بجنبلاط، فلا يريد عون أن يسأله أحد باسمه عن أجراس كنائس الشوف، ولا تعبئة النائب نبيل نقولا أو غيره الرأي العام ضد ترشيح المختارة النائب هنري حلو للموقع المارونيّ الأول، فيما يجن جنون جنبلاط إن فكر أحد السياسيين بتسمية درزي لشغل أصغر وظيفة إدارية. لا بل يسأل عون عما يطمئن «أبو تيمور» فعلاً إلى أن وصوله إلى بعبدا لا يتعارض مع زعامته أو يهدد نفوذه كبيضة القبان السياسي. وبعيداً عن النظريات المتداولة، يجس عون باهتمام بالغ نبض جنبلاط إن تعهد بعودة وزارة الداخلية إلى المختارة طوال عهده الرئاسيّ، ليضمن «البيك» انطلاقة قوية لتيمور من الوزارة الأولى في مسيرة جده.

من يعرف عون جيداً يعرف أنه، خلافاً لما يوحي به، في زاوية الزاوية؛ لا يعرف أن يسترضي أحداً أو يبادر باتجاه أحد أو يشجع أحداً (باستثناء الوزير باسيل)، أو يقول لأحد كلمة حلوة. وها هو يضطر إلى فعل هذا كله وأكثر. هو دخل التاريخ اللبنانيّ حين رفض التصنيع الأميركي ــــ السوري للرئيس اللبناني، داعياً الشعب إلى قول كلمته؛ وها هو يعترف بعدم قدرة المصانع اللبنانية على صناعة رئيس، منتظراً كلمة سر أميركية في شأنه. وهو أبعد ما يكون عن الشخصية التوافقية. لكنه يرفض الحديث عمّا سيلي ٢٤ أيار، ويتصرف كأن مستقبله السياسي بات رهن موافقة الدول الكبرى والوسطى والصغرى ونبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط وميشال معوض على انتخابه رئيساً. لكن إذا انتخب رئيساً، فإن خسارته المتمثلة باضطراره وفقاً لما سبق إلى دخول اللعبة التي حاول مراراً تحطيمها، لن تقارن بخسارة من تكاتفوا مراراً لتحطيمه، وها هم يضطرون إلى الاعتراف بشرعيته الشعبية والسياسية وتطويبه رئيساً للجمهورية.

الرئيس على مؤشر التفاهم الإيراني ـ السعودي

ليس رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون وحده من يراهن على تقارب إيراني ــــ سعودي يتيح له الفوز برئاسة الجمهورية. يراهن كل من قائد الجيش العماد جان قهوجي والوزير السابق جان عبيد على هذا التقارب أيضاً. ويقول أحد المطلعين إن أسهم الثلاثة تعلو وتهبط بحسب طبيعة التقارب وحجمه.

في حال كان الاتفاق شاملاً: إعادة التوازن إلى السلطة اللبنانية وفق صيغة جديدة لـ «لا غالب ولا مغلوب»، وبدء حوار جدي في شأن الاستراتيجية الدفاعية، وانخراط الدولة بجدية أكبر في عملية محاربة الارهاب، وتكريس حالة من الاستقرار تتيح للبنانيين البدء باستخراج نفطهم، يكون عون هو المرشح الأول.

أما إذا اقتصر التفاهم السعودي ــــ الإيراني على بعض الملفات، تتقدمها الحرب على الإرهاب، فيكون قهوجي هو المرشح. علماً أنه نجح في جمع أبرز القوى الاستخباراتية في مكاتب استخباراته، من اجهزة امن حزب الله (وخلفها الاستخبارات الإيرانية) الى الاستخبارات الأميركية والاوروبية، وصولا الى اجهزة امنية عربية فاعلية، حيث يجري التنسيق في ادارة عملية معقدة لضرب الإرهاب. وهذا ما يسقط اي فيتو وازن، سواء من قبل حزب الله او الاميركيين عليه. أما الفيتو العوني على قهوجي فثابت حتى الآن، لكن من غير المعلوم مدى تأثيره على موقف حزب الله. مع العلم أن الحزب استرضى قهوجي على حساب عون في استحقاقات سابقة، لا العكس. وفي حال قضى الاتفاق السعودي ــــ الإيراني بتفاهم سلبي يقوم على تبريد الخلاف من دون حله، بحكم التفوق الإيراني الواضح اليوم، ريثما تتعدل موازين القوى قليلاً، يكون عبيد هو المرشح الأول. فيستفيد اللبنانيون من فترة سماح. ولعل الوزير السابق زياد بارود، هو المناوئ الوحيد لعبيد عند هذا التقاطع، متكلاً على دعم البطريركية المارونية محلياً ونفوذ الدبلوماسية الفرنسية سعودياً. مع العلم أن لا غلبة لفريق لبنانيّ على آخر في حال رسا التفاهم السلبي على عبيد، فيما العهد السليماني سيتجدد في حال كانت «بارود» هي كلمة السر.

وبعيداً عن الأشخاص، يقول أحد الدبلوماسيين العرب ان المعطيات الميدانية لناحية الانخراط المستقبلي في الحرب على الإرهاب توحي بأن التفاهم السعودي ــــ الإيراني بلغ التقاطع الثاني، حيث تسوّى بعض الملفات. لكن لا أحد

جعجع على مفترق طرق

غداة انتخابات ٢٠٠٩ النيابية، حاول رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تأسيس كتلة نيابية وازنة. كان الرئيس سعد الحريري قد وعده، قبيل الانتخابات، بـ «إعارته» بعض النواب. إلا أن النزوح في اتجاه معراب اقتصر على الزحلاويين. لا نواب الأشرفية لبّوا النداء الحريري ولا غيرهم. وحرم جعجع، بالتالي، من الظهور في مظهر رئيس الكتلة النيابية الوازنة. حاول بعد ذلك الظهور بمظهر الزعيم المسيحيّ الأول، عبر استدعاء عشرات النواب المسيحيين الحاليين والسابقين ورؤساء أحزاب جديدة وقديمة. إلا أن لقاء لبعض النواب ظهر في منزل النائب المستقبلي ميشال فرعون وآخر في منزل النائب بطرس حرب، ونبض حزب الكتائب فجأة، واستيقظت الأمانة العامة لقوى ١٤ آذار من نومها، فحرم جعجع من الظهور بمظهر الزعيم المسيحي القوي لا رئيس حزب القوات فحسب. ولم يلبث الحريري أن أوضح، غداة تشكيل الحكومة، أن حضور جعجع الوزاري لا يعني له الكثير أيضاً. وعليه يبدو السؤال منطقياً جداً: ماذا يفعل جعجع إلى جانب تيار المستقبل طالما هم لا يريدونه زعيماً مسيحياً ولا رئيساً لكتلة نيابية وازنة ولا رئيساً لكتلة وزارية وازنة أو مرشحاً لرئاسة الجمهورية؟ لا يهدف جعجع إلى تبني المستقبل لترشيحه إلى الرئاسة بقدر تطلعه إلى إعطائه الحق بالفيتو. الحق بالفيتو على تبوء العماد ميشال عون للرئاسة الأولى أقله.

وهذا ما يدفع أحد نواب ١٤ آذار السابقين إلى الجزم بوقوف جعجع على مفترق طرق حاسم بالنسبة إليه، خصوصاً أنه لا يشعر بخطر الحصار الماليّ عليه. وفي الجهة الأخرى، لا شك أن الاستحقاق الرئاسي سيكون له أثر مباشر على علاقة التيار الوطني الحر بقوى ٨ آذار. لم تعد الأجسام صلبة كما كانت في الماضي. ويكفي في هذا السياق التنبه إلى أن الاتفاق على الرئيس سيسبقه اتفاق على قانون للانتخابات النيابية. وقدرة حزب الله وحركة أمل على التنازل هنا أكبر بكثير من قدرة المستقبل، وسيجد حزب الكتائب والنائب وليد جنبلاط جوائز ترضية هنا أكثر بكثير مما يجدانه عند المستقبل، فيما عون أقل تطلباً بكثير من القوات بالنسبة للمستقبل.

بكركي: تناقضات والتباسات

ماذا كنت ستفعل لو كان شقيقك مخطوفاً؟ ماذا لو كان المخطوف زميلك؟ وماذا لو كان مطراناً، لا ابراهيم الصقر والده ولا رئيس حزب القوات اللبنانية مرجعيته. أحد المطرانين المخطوفين في سوريا هو شقيق بطريرك الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، يقتضي التذكير. وهو زميل مطران بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة الذي لم يجد يوم الجمعة الماضي وقتاً للمشاركة في اللقاء التضامني الذي نظمته الرابطة السريانية واللقاء الأرثوذكسي في مدرسة القلبين الأقدسين في الأشرفية. كان عودة مشغولاً بالبحث عن شارٍ جديد لقطعة أرض أخرى من أملاك الكنيسة الأرثوذكسية، غير تلك التي باعها قبل بضعة أعوام لنادي الصفا، قبل أن يبيعها الأخير بنحو ضعف ما دفعه لعودة. مطران بيروت للموارنة بولس مطر كان مشغولاً هو الآخر. أما البطريرك الماروني بشارة الراعي فأسفاره أهم من المشاركة في لقاء تضامني هنا أو الحج إلى بؤر التكفيريين برفقة كل وسائل الإعلام التي يحبها لسحب المطرانين من مخالبهم. سمع يوحنا العاشر نصيحة الوزير السابق طارق متري بالاتصال بأمير قطر السابق غداة خطف شقيقه لطلب مساعدته، «وهي كانت». لا الأقمار الاصطناعية رأت شيئاً، ولا الاستخبارات التركية والغربية والخليجية والسورية والأوروبية سمعت شيئاً. اختفى مطرانان. لم يجد رئيس الرابطة السريانية حبيب افرام، قبل مدة، حلاً يقترحه سوى مطالبة المجمع السرياني المقدس لمناسبة اجتماعه لانتخاب بطريرك جديد، بأن ينتخب المطران السرياني المخطوف مار يوحنا ابراهيم بطريركاً، لعلّ أحد يكترث. لكن، لا أحد يكترث.

في مسرح «القلبين الأقدسين» كان الحشد السياسي كبيراً. ممثلون للرؤساء الثلاثة ووزراء ونواب حاليون وسابقون. لكن الحشد الأكبر تألف من شخصيات سياسية وفكرية وإعلامية مسيحية ــــ بعضها أرثوذكسي أو كاثوليكي وأكثرها ماروني ــــ تجد نفسها عند كل استحقاق، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، متروكة لوحدها. لم تكن الانفعالات والخطابات والأحاديث الجانبية التي صاحبت لقاء الجمعة التضامني سوى تعبير علني عن هواجس مكتومة تحيط بالاستحقاق الرئاسي. فحين انتخب البطريرك الراعي كان هناك من يصدق التسريبات الفاتيكانية عن وجوب أن تكون بطريركية أنطاكية وسائر المشرق بطريركية لأنطاكية وسائر المشرق بالفعل لا لكسروان فحسب. وليس تفصيلاً، بالنسبة إليهم، انتقال بكركي من «قلنا ما قلناه» تاريخياً، إلى قول الشيء وعكسه. ولا تفصيلاً موقفها الملتبس من الانتخابات الرئاسية المطابق حتى الآن لموقفها المحرج من قانون الانتخابات النيابية. خلاصة الأحاديث الجانبية والمشهد العام أن الكنيسة في مكان وقيادتها في مكان آخر. حين يخطف مطرانان ولا يعلو صوت كنسيّ بجدية في وجه رعاع البرية، يغدو طبيعياً خطف كرسي الرئاسة الأولى بعد صلاحياتها، فيما بكركي مشغولة بالسفر والإدلاء بتصاريح جديدة حتى ولو اقتضى الأمر مناقضة التصاريح القديمة. من لم يقفل أبواب الصرح ونوافذه بعد قوله إنه يريد القانون الأرثوذكسي ونقطة على السطر، لن يقفل أبواب الصرح ونوافذه بعد قوله إنه يريد رئيساً من الزعماء الموارنة الأربعة ونقطة على السطر.


http://www.al-akhbar.com/node/205012

 

     موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه