26-11-2024 12:27 PM بتوقيت القدس المحتلة

في عيدها الثالث والستّين... الجامعة اللبنانيّة ثابتة في مواجهة التحدّيات

في عيدها الثالث والستّين... الجامعة اللبنانيّة ثابتة في مواجهة التحدّيات

إنّ العالم الحاليّ بلغ درجة عالية من التعقيد في ظلّ الثورة التكنولوجيّة التي مكّنت الباحثين، وغير الباحثين، من امتلاك أدوات متعدّدة لاستقصاء المعرفة أينما وُجدت، ونقلها، وتوثيقها، وتوليفها

تمرّ السنوات الثلاث والستّون على تأسيس الجامعة اللبنانيّة، وهي سنوات طويلة من العطاء من دون حدود، ومن تحدّيات ترهق الجبال، غير أنّ قناعاتنا لم تتغيّر بشأن الدور المركزيّ لجامعتنا في إرساء ثقافة المواطنة وبناء إنسان الغد، وتعميم لغة المعرفة، لإحداث تحوّل في مجتمعنا، علَّه يجد طريقة حضاريّة وراقية للحوار، وتقبُّل الاختلاف في الرأي، وتجاوز المحن التي عصفت – ولا تزال - بوطننا منذ ما يناهز الأربعين سنة.

بقلم: عميد كلّية السياحة وإدارة الفنادق في الجامعة اللبنانيّة أ.د. فهد نصر

في عيدها الثالث والستّين... الجامعة اللبنانيّة ثابتة في مواجهة التحدّياتابتهجنا لتخريج الآلاف من الطلّاب الأكْفَاء، وشعرنا بالفخر لإنجازاتهم العلميّة، وعودة الكثيرين منهم من حَمَلَة الدكتوراه، كزملاء باحثين، للاضطلاع بدورهم في إعلاء شأن الجامعة اللبنانيّة وإكمال المسيرة، ونظرنا بعين ملؤها التفاؤل بعودة الأمن والأمان بعد حرب دامية لم توفّر، لا البشر، ولا الحجر، واعتمدنا أساليب حديثة في التعليم والتدريب والبحث العلميّ، وطوّرنا برامجنا الأكاديميّة لتنسجم مع تحوّلات عالميّة في مقاربة التعليم العالي، لتحاكي حاجات المجتمع وتحدّيات العولمة، وتحضّرنا لدخول العالم الرقمي (Digital World) الذي غيّر جذريَّا طبيعة صناعة المعرفة والتعلّم، ليطال كلّ فرد على وجه الأرض، وبادرنا إلى نسج علاقات أكاديميّة نِدِّية مع الكثير من الجامعات ومراكز البحث حول العالم، الأمر الذي شجّع الحراك الأكاديميّ للأساتذة والطلّاب وفعّله، من خلال برامج التبادل والتعاون؛ ولا زلنا نعمل بثبات لبناء قدرات متطوّرة خدمةً للمجتمع. 

والآن، ونحن نحتفل بعيد جامعتنا الغرّاء نُسأَل: ماذا بعد؟ هل ستعملون على زيادة عدد الاختصاصات استجابة لسوق العمل المتطلّبة، أو ستعتمدون أساليب جديدة في التعليم والتدريب يكون فيها المتعلّم، أي الطالب، شريكًا حقيقيًّا يساهم في تطوير البرامج الأكاديميّة؟ ما هي الاستراتيجية التي ستُعتمد لاستقطاب الطلّاب الجدد، وقد بلغت صعوبة اختيار الجامعة والاختصاص المناسب درجة عالية في خضمّ تنافس ضارٍ- وغير صحيّ- ما بين المؤسَّسات الأكاديميّة الخاصّة في لبنان، والتي فاق عددها الأربعين، ونراها تسعى بشتّى الوسائل لجذب الطلّاب إليها؟.

إنّ أيّ استراتيجيّة طموحة هادفة، لا تعتمد لغة المعرفة، وتمتلك رؤية ورسالة، وتُحدّد أهداف قابلة للتحقيق، وتعمل على ترسيخ مبادئ الجودة والنزاهة، والتي لا تستطيع أن تقرأ الحاضر بتحدّياته، ولا تستشرف المستقبل ومتغيّراته، لن يكتب لها النجاح، بل ستصيب، ربّما، أحيانًا، وتخفق في مرّات أخرى.

والسبب في هذا واضح؛ إنّ العالم الحاليّ بلغ درجة عالية من التعقيد في ظلّ الثورة التكنولوجيّة التي مكّنت الباحثين، وغير الباحثين، من امتلاك أدوات متعدّدة لاستقصاء المعرفة أينما وُجدت، ونقلها، وتوثيقها، وتوليفها، وإعادة عرضها، هذا عدا عن تقنيّات البحث الشاملة (Global Research Approaches)، والتي تنتج كمّيات كبيرة من المعطيات الأوليّة، والتي باتت تتراكم في بنوك وقواعد البيانات، مّا جعلها هي الأخرى بحاجة إلى أدوات حديثة، وبرامج إلكترونيّة متطوّرة لسبرها بطريقة تشبه التنقيب عن الذهب لندرته، والأمل الطاغي هو أن نوفّق يومًا في فهمها والاستفادة منها إلى أقصى الحدود، دفعًا لعجلة المعرفة إلى الأمام، وبلوغ آفاق جديدة في البحث العلمي، وتطوير حلول مناسبة لمشاكل مزمنة أو مستحدثة.

في عالم بهذا التعقيد، لا يمكن أن ندّعي الجهل ونكتفي بالقليل، إذ نحن في زمن يحتاج إلى شجاعة وقدرة على المبادرة للارتقاء بالقدرات الفرديّة إلى مستوى التحدّي. إنّ الجامعة اللبنانيّة تدرك هذه الحقائق، وتعمل بشكل مستمرّ لتطوير استراتيجيّتها، مستفيدةً من خبرتها العريقة وقدراتها البشريّة الهائلة، ومن إدراكها لصعوبة المرحلة، وأهمّية البحث العلميّ كركيزة لإنتاج المعرفة ومشاركة العالم شؤونه وشجونه- وهي بمعظمها لا تختلف عن التي نعيشها- ومن خلال التدريب المستمرّ للباحثين والطلّاب على حدّ سواء، لتوطين أحدث التقنيّات والأساليب البحثيّة تحضيرًا للدخول إلى العالم الرقميّ بكلّ أبعاده، وللاستفادة من تراكم المعلومات فيه، والحثّ على استثمار هذا الكمّ الهائل من البيانات وتحويلها إلى معرفة مفيدة، مؤكّدين بذلك على أهمّية سياسات التطوير والإبداع في خلق فرص جديدة لطلّابنا المتميّزين والطموحين والمبدعين.

من المؤكّد أنّ ثورة التكنولوجيا كان لها أبعد الأثر في صناعة المعرفة، وفي تطوير مفاهيم التعلّم الذي تجزّأ وأصبح متاحًا للجميع على شكل منتجات محدّدة، متجاوزين بذلك مبدأ قاعة التدريس التي تحدّها جدران أربعة، ويديرها - بشكل أحاديّ - أستاذ كان في الماضي يمتلك مفاتيح المعرفة.

تغيّرت أساليب التعلّم وعرفت تحوّلات جذرية في القرن الحادي والعشرين، وأصبح معها الأستاذ مساعدًا وشريكًا يُرشد الطالب إلى مصادر المعرفة، ويُساعده على فهمها ورصد أبعادها العلميّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، ويُساعده في أبحاثه ويُشجعه على الابتكار والإبداع، ويحصّنه بالهدوء في معالجته للمواضيع الشائكة لكي لا يقفز إلى استنتاجات خاطئة نتيجة حماسه وعدم خبرته، ويزرع في نفسه احترام الملكيّة الفكريّة والنزاهة، ويدلّه إلى أفضل المناهج البحثيّة، فيكسب مع الوقت المرونة والانضباط الفكريّ والصبر والإصرار في معالجته للمشاكل والأسئلة المتّصلة بحقل اختصاصه، كما أنّه لا يتجاهل أفكار الطالب الخلّاقة، وهو يتوق إلى العطاء وإثبات قدراته على المشاركة في صناعة معرفة مفيدة، مؤكدًا بذلك على أنّ الاكتشافات جاءت نتيجة الاستمراريّة في البحث العلميّ وتطوير المفاهيم، وهو، أي الطالب، يرغب بلعب دور في هذا المضمار.

من رحم هذا التغيير في مقاربة التعليم، انتهزت المؤسَّسات الأكاديميّة العريقة الفرصة لتعمِّم فائدة المعرفة على الجميع، عبر ما أصبح يُعرف بــــ "التعليم عن بُعْد" (Distance Learning)، أو بــــــ "التعليم الإلكترونيّ" (e-Learning)، وقد حقّقت من خلال هذه البرامج المبتكرة أرباحًا كبيرة.

إنّ الدخول إلى هذا العالم الرقميّ، حيث التنافس الضاري بلغ ذروته في هذا الوقت، دونه عقبات وتحدّيات، ولا يمكن أن يتحقّق إلاّ باعتماد سياسات جديدة، وأدوات حديثة، ورؤية مستقبليّة ثاقبة، وفهمًا عميقًا لهذه المرحلة. فلمجاراة هذه الحقبة الرقميّة في صناعة المعرفة، لا بدّ لنا من أن نبدأ بتحويل المقرَّرات التي تعتمد بدرجة كبيرة على مراجع ورقيّة، وتعود مسؤولية تطويرها وتحديثها إلى الأستاذ المعنيّ بتعليمها فقط، إلى مقرَّرات إلكترونيّة، إذ تتحوّل كلّ الوثائق، من مراجع ومقالات وملاحظات ونشاطات منهجيّة على أنواعها، إلى وثائق رقميّة يتمّ جمعها وعرضها وفق تصاميم تجعل معها إمكانيّة التحديث عمليّة سلسلة ويوميّة، وبمشاركة الطلّاب الفاعلة. إنّ البرامج المعلوماتيّة المناسبة لهذا النوع من التعليم أصبحت جاهزة ومتنوّعة؛ حيث عمل الكثيرون على تصميمها وتطويرها لمواكبة هذه القفزة العملاقة، وبعضها مجّانيّ وسهل الاستعمال.

بتوالي الأيَّام، نتحدّث عن أهميّة دور الطالب وشراكته في تطوير البرامج الأكاديميّة. واليوم، بات بإمكاننا تفعيل هذه الشراكة واستثمارها عبر المقرَّرات الإلكترونيّة التي تشتمل، بالإضافة إلى مواد التدريس التقليديّة، على انطباعات الطلّاب وآرائهم واقتراحاتهم ونشاطاتهم ونقاشاتهم فيما بينهم، ومع الأستاذ المسؤول، كما أنّها تتضمّن نظمًا للتقييم الذاتيّ والامتحانات. إنّ الفائدة الكامنة في هذه النقلة النوعيّة في الحراك الأكاديميّ، تتجاوز ما ذكرناه سابقًا لتصيب نصيبًا من المرونة، لجهة تمكين الطالب من متابعة دروسه، حتّى ولو تعذّر عليه وجوده في الجامعة لأسباب عديدة.

إنّ تجربة المقرَّرات الإلكترونيّة تعتبر مقدّمة أساسيّة تُمهّد الطريق إلى ما أشرنا إليه آنفًا، أي "التعليم عن بُعد" وهو مبدأ اعتنقه – كما أسلفنا- الكثير من المؤسَّسات الأكاديميّة حول العالم. إنّما نحن في الجامعة اللبنانيّة نسعى لتطوير أساليب التعلّم، ونمتلك كلّ ما يلزم من طاقات وقدرات لسلوك هذا الطريق. وسنكون على جهوزيّة تامّة لدخول العالم الرقميّ من بابه العريض لنقدّم للطالب، أينما وُجد، في لبنان أو خارجه، فرصة الالتحاق بالجامعة وتحضير شهادة في العلوم المختلفة، وبمعايير عالميّة لا تشوبها أيّ علامة استفهام، لا بالآليّة، ولا بالتقييم، ولا بالجودة. وهذا التوجّه هو توق طبيعيّ إلى خدمة المجتمع، وهو واجب على مؤسَّسة تحتضن هموم الوطن والإنسان ولا تسعى لربح، ولا هي تفاخر أو تستعرض، بل تأمل أن تنقل المعرفة إلى الجميع ليتحرَّروا بالمعرفة ويصنعوا مصيرهم، ويعملوا على تطوير مجتمعاتهم، وهذه هي رسالتنا.

إنّ العلم اليوم هو صناعة واعية تعتمد على الجماعة لخلق مناخٍ معرفيّ شامل، كلُّ يشارك ويساهم فيه على قدر تحصيله وجدّه وإدراكه، وبما أنّ الساعة قد أزفّت بضرورة التعاون وتوثيق الأواصر ما بين فروع المعرفة وأساليب التعليم الحديثة، فإنَّنا في الجامعة اللبنانيّة التي أخذت على عاتقها مجاراة التطوّر ومواكبته، وتحدّي الصعوبات مهما كانت، نؤكّد على متابعة مسيرتنا الحضاريّة في بناء إنسان جدير بلقب الإنسانيّة النخبويّة الجامعة، وفي قيام هرم معرفيّ عَلَمٍ يكون دائمًا محطّ أنظار، وداعيَ احترامٍ وتقديرٍ، وقدوةَ تصرّفٍ وسلوكٍ وخلق.دامت جامعتنا منارة في زمن قلَّ فيه النور، وكلَّ عام وأنتم بألف خير.