نقلت الكاميرات ذلك بكلّ طيبة خاطر، كي لا نقول تواطؤ، ولم يتجرّأ أحد على التجاهل. كاميرات الخصوم، بتركيزها على صورة جعجع المجرم، وترديد أسماء ضحاياه التي وضعت في صندوق الاقتراع
لو ترشّح سمير جعجع، أو رجلٌ بمواصفاته، للانتخابات الرئاسيّة في بلد «طبيعي»، كيف كان الإعلام ليتصرّف؟ الأرجح، أنّ الخبر كان سيمرّ في خانة الغرائب والطرائف، خصوصاً إن كانت حظوظ المرشّح في الوصول إلى الكرسي، شبه معدومة.
سناء الخوري/ جريدة السفير
ولكنّ خانة الغرائب والطرائف عندنا محجوزة لأخبار من نوع مختلف، مثل «عاملة من جنسيّة أجنبيّة شنقت نفسها»، أو «صيّادون لبنانيون يرتكبون مجزرة بأسراب من طيور اللقلق». كي لا نبخس من قيمة «الحكيم»، ربما كان الإعلام ليتناول برنامجه الانتخابي بما يقتضيه الإنصاف، أيّ كما يتمّ التعاطي مع مرشّحي أحزاب الخضر، أو أقصى اليمين/ اليسار في فرنسا مثلاً، بوصفها تيّارات حاضرة، ومن حقّها أن تنال مساحةً من التغطية الإخباريّة، ولكن في إطار محدود، يتناسب مع محدوديّة حظوظها بالفوز، ومع عدم تمتّعها بمقوّمات تضعها في دائرة المنافسة الجديّة.
ذلك سيناريو متخيّل، من السذاجة وضعه في إطار الممكن لبنانياً. لكنّ الشاشات اللبنانيّة نجحت أمس بتجاوز المعدّلات الخياليّة المسموحة للاستهبال. نهجٌ بدأ بتخصيص ساعات تلفزيونيّة لإجراء مقابلات طويلة مع مرشّحين، كأنّ ذلك سيؤثّر في اختيار ساكن قصر بعبدا المقبل. قلنا حسناً، لا مشكلة في تلك «الرئاسيّات». صحيح أنّ الاستحقاق فارغ، ولكن ما العمل، إنّها انتخابات رئاسيّة في النهاية، سواء تمخّضت عن فأر أو عن فيل.
ولكن حين يتمّ التعاطي مع جلسة الأمس كأنّها كرنفال، أو كأنّها مباراة الحسم بين برشلونة وريال مدريد، فذلك أمر يتجاوز مداركنا البشريّة المحدودة. ما الذي يفعله كلّ أولئك المراسلين في مجلس النوّاب، اثنان أو ثلاثة على الأقلّ عن كلّ شاشة؟ ولماذا يتمّ التعاطي مع هذه المسرحيّة بكلّ جديّة، رغم أنّ جميع المحطّات اتفقت على سيناريو موحّد، حول مجريات الجلسة ونتيجتها، قبل انعقادها؟ وما دام «السكريبت» مكتوب سلفاً، وقد نفّذ بحذافيره تقريباً، من أين جاءت التلفزيونات بكلّ تلك اللهفة غير المتوازنة مع حجم الحدث؟.
تماماً كما انهبلت الشاشات قبل أشهر بعاصفة أليكسا، كذلك فعلت مع «جلسة الانتخاب».. وما تمّ التعاطي معه كإعصار، لم يكن إلا سحابة عابرة في شتاء قاحل. فباستثناء النائبة ستريدا جعجع، المتمكّنة من دورها كقائدة فريق مشجّعات الحكيم، كان الجميع، وحتى في صفوف مناصري جعجع، متفاجئين بحجم الاهتمام الإعلامي المصبوب على حدث سياسي، أجمع الإعلام نفسه على أنّه لن يؤثّر على دورة المجرّة.
انقسمت شاشة معظم القنوات إلى مربّعين، مربّع يتابع جلسة الانتخاب داخل البرلمان، وآخر يركّز الكاميرا على وجه جعجع، وهو يترقّب خبر فوزه المحتّم. وضع رئيس حزب القوّات، وجه الموناليزا. حيّرنا ونحن نتأمّل سحنته المثقلة بسنوات صلاة في الحبس، لم يعكّرها إلا استذكار أغاني عمرو دياب. أهذه ابتسامة أم عبسة على وجه الحكيم؟ لم تتبدّل تقلّصات وجهه عندما سمع أسماء جيهان طوني فرنجيّة، ورشيد كرامي، وداني شمعون، وطارق داني شمعون، والياس الزايك. شاهد جميع اللبنانيين ذلك على الشاشات، وتفاعل بعضهم مع المشهد بالشتائم على مواقع التواصل.
صحيح أنّ جعجع خسر كما هو متوقّع في الصندوق، لكنّه نجح في جرّ كلّ التلفزيونات اللبنانيّة، من معه ومن ضدّه، إلى لعبته. رضخت الشاشات، سهواً أو عمداً، للعبة فيها ما يكفي من حنكة إعلاميّة يفتقدها خصوم القوّات غالباً. الجميع يعرف تاريخ الحكيم، وهو تاريخ من «تاريخ لبنان» كما قال للصحافيين الذين تهافتوا على مجسّم زنزانته في معراب قبل أيّام. ربما يصير ذلك المجسّم مزاراً، حين يتمّ تطويب جعجع قديساً يوماً ما. وذلك ليس بعيداً عن الواقع، في نظر كثر من مناصريه. وربما، تضمّ اليونيسكو المجسّم إلى لائحة التراث العالمي، لأنّه أظهر موهبةً جديدة لدى الحكيم، وهي درايته في شؤون الفنّ المعاصر، وصناعة التجهيزات وتطعيمها بالـ«الفيديو آرت».
منذ نجاحه في جرّ الكاميرا إلى زنزانته، وحتى نجاحه بتحويل نفسه إلى بطل الشاشة لساعات طويلة بالأمس، كان جعجع يفرض على الجميع صورته كمرشّح محتمل لا بل مقبول، كخصم ندّ، كمانديلا لبناني. نقلت الكاميرات ذلك بكلّ طيبة خاطر، كي لا نقول تواطؤ، ولم يتجرّأ أحد على التجاهل. كاميرات الخصوم، بتركيزها على صورة جعجع المجرم، وترديد أسماء ضحاياه التي وضعت في صندوق الاقتراع، لم تكن إلا جزءاً من «بازل» تلذّذ رئيس حزب القوّات في تركيبه، جاعلاً من نفسه المرشّح الإعلامي الأبرز والوحيد.
فقاعة إعلاميّة بحجم وطن، ولكنّها إنجازٌ لرجل يريد أن يكون في مركز الضوء، رغم علمه بأنّ ألف عفو لن يمحو ذاكرة ضحايا الحرب، ولن يجعل المقابر الجماعيّة تختفي في باطن الأرض. جرّ جعجع الجميع إلى حبكة إعلاميّة تليق بنجوم هوليوود. وربما الأجدى بخصومه، ممن يتمتعون بحظوظ أكبر للرئاسة شعبياً وبرلمانياً، أن يبحثوا عن فريق إعلامي ينتج ما هو أذكى بقليل من برامج «أو تي في». أمّا وسائل الإعلام اللبنانيّة المتحمّسة دوماً لاستهبالنا، فهنيئاً لها هذا الدور الذي ترتضيه لنفسها، كأداة لتلميع صور مدانين بجرائم قتل.