لم يوفق القيمون على حملة «الذهب الأزرق»، منافسو الدولة على الاستثمار في المياه باختيار شعار حملتهم. فالمياه ليست سلعة ولا تقارن بالذهب. المياه أهم بكثير من الذهب... ومن النفط والغاز أيضا. المياه ...
لم يوفق القيمون على حملة «الذهب الأزرق»، منافسو الدولة على الاستثمار في المياه باختيار شعار حملتهم. فالمياه ليست سلعة ولا تقارن بالذهب. المياه أهم بكثير من الذهب... ومن النفط والغاز أيضا. المياه مادة حياتية تماما كالهواء ولا يفترض ان تصبح ملكا لأحد. وهي جزء من نظام ايكولوجي طبيعي لا يخضع الا لقوانين الطبيعة. ولا فضل لأحد على استمرار هذا النظام. فالذهب (والنفط) يمكن أن ينضب، ان يأتي ويذهب كمصدر للادخار والازدهار، ولكن الماء ضروري من أجل البقاء، ولا يفترض ان نتركه ليتعرض للاستغلال والاستنزاف والتلوث والندرة... وبالتالي التجارة.
حبيب معلوف / جريدة السفير
لا شك في ان أصحاب الفكرة مبدعون حقا، وقد استطاعوا جمع عدد كبير من المستثمرين المساهمين فيها والداعمين لها من مشارب ومصالح مختلفة، من شركات إعلانات إلى شركات نفط إلى مصارف وفنادق إلى صناعيين إلى شركات للمياه المعبأة وشركات للمياه الغازية الى شركات المطابع ... الخ. خلطة لا يستطيع خلطها إلا طباخون ماهرون. وللمزيد من الإبداع في فن الطبخ والاستثمار، تم تبهيرها بتشكيلة من المهندسين والخبراء في طليعتهم مدراء عامون ومستشارون وممثلون عما يسمى المجتمع المدني ... كتغطية، ليصبح استخدام تسمية «ملتقى التأثير المدني» مباحا وجاذبا ورافعا لأية شبهة استثمارية في مادة حيوية.
لن يسكت الفلاسفة، القيمون على القيم عندنا عن هذه الاهانة التي لحقت بالمياه بالتأكيد في تشبيهها بالذهب. هذا المعدن السخيف الذي لوث الأرض في طريقة استخراجه وتسبب بأمراض لآلاف العمال من نساء وأطفال لتنظيفه وتنقيته بمواد غاية في الخطورة على صحتهم وعلى البيئة وعلى المياه السطحية والجوفية على الخصوص.
كما لا يفترض ان يسكت المجتمع المدني وقواه الحية التي طالما حملت قضايا سامية، عن استغلال اسمه، لا سيما تلك القوى التي ناضلت طويلا من اجل حماية البيئة وحقوق الإنسان لا سيما الحق في الوصول الى المياه واعتبارها ملكية عامة لا يفترض التعامل معها كسلعة قابلة للاتجار او الخصخصة في أشكالها كافة.
لن تنفع مع هؤلاء محاولة تصوير الدولة عاجزة او فاسدة في ادارة هذا المورد الحيوي، لتبرير الخصخصة المقنعة بألف قناع. فالدولة العاجزة والزبائنية والفاسدة، يفترض تقويتها ومحاولة محاربة الفساد فيها، لا تجريدها من مسؤولياتها وادوارها وصلاحياتها... ومنحها لغيرها.
كما على المجتمع المدني الذي طالما شكك بالدراسات التي قدمها القطاع الخاص (شركات استشارية) للحكومة ان يشكك ايضا بدراسات هذا القطاع حين يعتمد على الشركات نفسها. ثم كيف تستعين هذه الحملة بمدراء رسميين طالما تم اتهامهم بالفشل في الادارة (كأقل اتهام)؟
تحاول حملة «مياهنا ذهب» ان تصور الخطط الحكومية لادارة المياه بانها مكلفة ويمكن التوفير فيها من اكثر من سبعة مليارات دولار أميركي إلى ما يقارب خمسة مليارات، ومن الحاجة الى 44 سدا للتنفيذ (بحسب خطة الحكومة) الى 14 سدا فقط... على ان تبقى المياه ملكا للدولة التي ستؤمن مردودا لها بنسبة 23% وللقطاع الخاص المستثمر 12.5 %.
تستفيد الحملة فعلا من مبالغات الخطط الحكومية لإقناعنا بأنها أكثر واقعية وشفافية. لكن من قال اننا بحاجة لكل هذه الاستثمارات سواء اقترحتها وزارة الطاقة والمياه (والحكومات) او اقترحها القطاع الخاص (مخففة)؟ وما دخل المجتمع والمواطن اللبناني في هذا الصراع بين الشركات والمكاتب الاستشارية التي «تنغل» بين الوزارات والقطاع الخاص للاستثمار؟
ليس دور المجتمع المدني ان يصبح شريكا لا للدولة ولا للقطاع الخاص، تحت أي عنوان مموه، بل عليه ان يشكل قوة ثالثة بين الدولة (القاصرة) والقطاع الخاص (الطامع) وان يناضل من اجل تصحيح الخطط الحكومية واستراتيجياتها وجعلها اقرب إلى الواقع والحاجات الحقيقية والتبديل في أولوياتها. فمن قال اننا بحاجة الى كل هذه السدود والى كل هذه الكلفة ما دامت الأرقام حول ما هو معطى من مياه عذبة عندنا سواء من المياه السطحية او الجوفية مشككا في مصداقيتها، وهناك من حجم في أرقام المباح من المياه وبالغ في زيادة الحاجات والطلب عليها، مع توقعات تغيرات مناخ وجفاف... ليبرر الحاجة إلى مشاريع كبيرة؟ فإذا كان متوقعا أن تزداد درجات حرارة الأرض، فهل يكون الحل بإنشاء سدود مكشوفة وتعريض المياه للمزيد من التبخر والتلوث؟! أم نساعد الطبيعة ونزيد من قدرتها على تخزين المياه تحت الأرض؟
فمشكلة المياه العذبة في لبنان هي في سرقتها وهدرها وتلويثها وسوء ادارتها وليس في ندرتها. والمطلوب حماية مصادرها وحسن توزيعها ووضع الخطط لوقف الهدر والحد من السرقة كأولوية على اية استثمارات ... وكل ذلك يحتاج الى الارادة السياسية وليس الى المزيد من المشاريع الكبرى والمال؟ لا بل ان وقف السرقة واسترداد الملكية او استيفاء الرسوم الحقيقية على المياه المعبأة، على سبيل المثال، امر يمكن ان يؤمن مداخيل مهمة لخزينة الدولة طالما حرمت منها... لا سيما اذا علمنا ان سوق المياه المعبأة يزدهر وينمو بشكل مستمر ما يجعل لبنان (الغني بمياهه) يحتل المرتبة الثامنة في السوق العالمي للمياه المعبأة، بحسب بيانات العام 2010.
فهل تشكل هذه القضايا عناوين لحملة مدنية مضادة تعيد الاعتبار للمياه كملكية عامة وتحمل الدولة مسؤولياتها وتوقف القطاع الخاص عند حده؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه