26-11-2024 01:48 PM بتوقيت القدس المحتلة

معاً من أجل الحريّة

معاً من أجل الحريّة

ومثل مرتكبي المقالات الكيديّة أو المتشفية على بعض المواقع الرخيصة ـــ يصفّي حساباته مع الخصوم، وينتظر بفارغ الصبر «لحظة الانتقام» منهم، وآخر همّه حريّة الاعلام.

في اللقاء التضامني يوم أمس مع حرية الصحافةهناك إنتقادات عدّة يمكن أن تُوجّه إلى رمزي جريج، وزير الاعلام اللبناني الحالي. علماً أن عمره القصير في الوزارة، لا يكفي ـــ رغم المؤشرات غير المطمئنة ـــ لاصدار حكم عادل على تعاطي معاليه مع هذه المهنة الشاقة التي تحمل أوزار الحياة السياسيّة، العبثيّة، في موطن الأرز.

بيار أبي صعب/ جريدة الأخبار

على ذكر العبثيّة، كان جريج، نقيب المحامين السابق، ليأخذ راحته أكثر في وزارة أخرى، كالعدل مثلاً، لولا أن الخلطات السحريّة والمعادلات السورياليّة التي تتحكّم بالحياة السياسيّة اللبنانيّة شاءت غير ذلك. علينا إذاً، حتّى اشعار آخر، أن نكتفي ببرنامجه الطموح: «تحويل وزارة الاعلام إلى وزارة حريّات».

لكن ما نيل «الحريّات» بالتمنّي كما يعرف الجميع. وفي انتظار أن «تؤخذ الدنيا غلابا»، اكتشفنا أن معاليه يتمتّع بروح النكتة، أو يبرع بحسّ المفارقة. فقد اختار توقيتاً غريباً أمس، ليوصل إلى الرأي العام فلسفته الخاصة جدّاً حول الحريّات. لم تسمح الظروف للوزير جريج أن يشارك شخصيّاً في مؤتمر التضامن مع «الجديد» و«الأخبار» الذي أطلقه ناشر «السفير» الزميل طلال سلمان ولاقى تجاوباً واسعاً، ومطمئناً، على المستوى الوطني. وما كان من معاليه إلا أن وجّه رسالة قرأها نقيب محرري الصحافة إلياس عون.

رسالة موجّهة إلى الاعلاميين المجتمعين أمس في نقابة الصحافة دفاعاً عن السيادة الوطنيّة والحريّات العامة في لبنان، وضدّ بولدوزر القمع الدولي وترهيب الاعلام، يقول فيها ما معناه: أنا مع الحريّات، ولكن... ليس هذه المرّة! رسالة قاطع الحاضرون قراءتها بصيحات الاستنكار، فأكالوا لوزيرهم للأسف صفعة سيتذكّرها لبنان طويلاً.

بعد مقدّمة لطيفة تؤكّد على نواياه الطيّبة تجاه الحريّات، نصح وزيرنا الزميلين كرمى خيّاط وابراهيم الأمين، أن يذعنا للمحكمة الدوليّة، «لأن هذا هو السبيل الوحيد لإثبات براءتهما»! كيف ذلك وهو يصرّ على أنّهما غير متهمين؟ بتعبير آخر، قال الوزير للاعلاميات والاعلاميين المحتشدين في النقابة: لا داعي لوجودكم هنا، إفرنقعوا الى بيوتكم، لا سيادة للدولة اللبنانيّة ولا كلمة لها في حضرة المحكمة الدوليّة (وهذا غير دقيق، إذا استعدنا المادة 178 من قانون الاجراءات والإثبات للمحكمة الخاصة بلبنان). حسب «وزير الحريّات»، فإن الحريّة الوحيدة هي الخضوع لهذه المحكمة. وحدها تعرف مصلحة لبنان، وتقرر أين تبدأ وأين تنتهي حريّة الصحافة.

إنّها المصدر الأوحد للعدالة، والضمانة الأعظم لحريّة الاعلام في لبنان. المحكمة نفسها التي يذكّر المحامي رشاد سلامة بأنّها تعدّل القانون كلّما تَغيّر اتجاه الريح، ليناسب مقاسها وينسجم مع أجندتها وأهوائها، مستغرباً اليوم، في هذه القضيّة الشاذة، أن تقف «العدالة» في مواجهة مع «الحريّة». الوزير جريج يفضّل «العدالة» ولو على حساب الحريّات والسيادة الدستوريّة. لعلّ معاليه لا يعرف الملفّ جيّداً كما أوحى للوفد الاعلامي الذي التقاه مساء أمس، أو لعلّه متأثّر ببعض تجارب الفنّ المعاصر التي تقوم على إلغاء الحدود بين الواقعي والمتخيّل.

في لقاء تضامني مع حرية الصحافة في لبنان يوم أمسيبقى تفسير آخر: إنّ رمزي جريج يتحرّك على خلفيّة سياسيّة بالمعنى الأضيق للكلمة. وأنّه، لا سمح الله ـــ مثل نبيّ الليبراليّة الذي أفتى على صفحته حول ما يجوز أو لا يجوز اعتباره «حريّة»، ومثل مرتكبي المقالات الكيديّة أو المتشفية على بعض المواقع الرخيصة ـــ يصفّي حساباته مع الخصوم، وينتظر بفارغ الصبر «لحظة الانتقام» منهم، وآخر همّه حريّة الاعلام. لكن لننتظر تجاوبه مع مطالب الهيئة المنبثقة من مؤتمر التضامن، قبل أن نحكم عليه.

كلا أيّتها السيّدات والسادة، ليس وقت الخلافات السياسيّة، ولا حتّى المنافسة المهنيّة، بل ان التحدّي مطروح على كل الاعلام اللبناني، وعلى كل اللبنانيين. وعند هذا المحكّ يظهر فعلاً من هم الغيارى على حريّة التعبير. ولعلّ من مصادر اعتزازنا كاعلاميين أن يكون في عداد المتضامنين يوم أمس مع «الجديد» و«الأخبار» في نقابة الصحافة، وجوه من المجتمع المدني وشخصيّات اعلاميّة وحقوقيّة قد نختلف معها هنا أو هناك في الرأي أو في الموقف. بيار الضاهر رئيس مجلس ادارة «المؤسسة اللبنانيّة للارسال» لفت الأنظار، حين لاحظ أن جزءاً من أهل الاعلام تخلّف عن الموعد.

كأنّنا به يوجّه دعوة إلى الجميع كي يلتحقوا بالركب عند المحطة المقبلة: لنقف معاً دفاعاً عن حريّتنا ومهنتنا، بمعزل عن كل الاختلافات. «إنّها فرصة لوحدة اللبنانيين بالتضامن مع الحرية الاعلامية»، كما قال نقيب الصحافة محمد البعلبكي. إنّها فرصة ثمينة أمام الاعلام اللبناني اليوم ليثبت لنفسه وللرأي العام أنّه على مستوى الامانة، وعلى مستوى الصيت الذي ما زالت تتمتّع به بيروت، عاصمةً للاعلام العربي، وموئلاً للحريّات.