يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا يفكر الإسلام بجانب واحد من الموضوع، بل له حكم في جميع الأبعاد، سواء تلك المرتبطة بالدنيا كالسياسة والاجتماع والاقتصاد، أو ما يرتبط بالعالم الآخر والذي يجهله أهل ...
الإسلام دين شمولي
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا يفكر الإسلام بجانب واحد من الموضوع، بل له حكم في جميع الأبعاد، سواء تلك المرتبطة بالدنيا كالسياسة والاجتماع والاقتصاد، أو ما يرتبط بالعالم الآخر والذي يجهله أهل الدنيا. لقد جاءت الأديان التوحيدية للنظر إلى كلا الجانبين، وطرحت أحكاماً لكليهما. فهي لم تنظر إلى هذا الطرف وتفضل ذاك، أو تنظر إلى ذاك وتفضل هذا، بل تنظر إلى الجانبين معاً، وخاصة الإسلام الذي اهتم أكثر من الأديان بهذا الموضوع".
إن الآخرة بنظر الإسلام هي انعكاس للدنيا، وتتأثر بها بكل تفاصيلها، وهذا ما أكدت عليه الروايات، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "فليتزود العبد من دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة"(1).
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "نعم العون الدنيا على الآخرة"(2).
ولا يقتصر ذلك على الصلاة والصوم وغيرها من العبادات، بل يشمل كل حركة يقوم بها الإنسان أو سكون يلتزم به "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤول"(3)، حتى طريقة التحدث والمشي في الشارع "ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور"(4).
ومهما كان هذا الأمر ثانوياً بنظرنا سيظهر أثره في الآخرة "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"(5).
لذلك نجد الإسلام يتدخل في كل كبيرة وصغيرة ليضع لها الأحكام وينظمها ويوجهها بالشكل الصحيح، مما يعطي كمالاً في الدنيا وفوزاً في الآخرة.
فمن الطبيعي إذاً أن نجد العمل حاضراً ضمن المفاهيم والأحكام الإسلامية، فما هي قيمة العمل ضمن المنظومة الإسلامية؟
قيمة العمل في الإسلام
أي شرف هذا الذي ناله العامل، وأي رسالة يريد أن يوصلها سيد الكائنات من خلال ذلك؟
نجد الجواب عند الإمام الخميني قدس سره الذي تناول قصة تقبيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ليد أحد العمّال في بعض كلماته وعلق عليها قائلاً: "انظروا إلى تلك المكانة التي وضعها الإسلام لكم، ولا بد أنكم سمعتم ما ورد عن الرسول الأكرم من أنه قبل يد العامل، أي تلك اليد التي أصبحت خشنة بسبب العمل، وهذه الحادثة تعكس مكان العامل على طول التاريخ، فالنبي الأكرم الذي هو أعظم إنسان كامل، وهو أول أفراد الإنسان، تواضع للعامل بهذا الشكل، وقبّل يده التي هي علامة للعمل، وقد قبّل باطن اليد لا ظهر اليد، وهذه ملاحظة مهمة إذ أن آثار العمل تظهر في باطن اليد، وإنه يريد من ذلك أن يبين قيمة العمل لبني الإنسان، ويقول للمسلمين بأن قيمة العمل تتجلى هناك حيث عمل العامل، وقد ظهرت علامة بسبب العمل، وأنا أقبّل ذلك المكان لكي تدرك الشعوب الإسلامية والبشرية قيمة هذا العمل".
فالاسترخاء والقعود والتخمة... ليست أخلاقاً إسلامية أو قدوة للمسلمين ينبغي تقليدها، بل الذي يستحق الاحترام وينبغي تسليط الضوء عليه وتوجيه الناس نحوه هو العمل والكد والتعب لتحقيق الأهداف "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة"، وغيرها من النصوص الشرعية التي تدعو إلى العمل والبناء بجميع أنواعه وأقسامه ضمن الأهداف والوسائل الشرعية التي تحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
الإمام علي عليه السلام إمام العمال
يقول الإمام الخميني قدس سره: "قبّل النبي موضع القيمة وأعلن عن قيمته، وكان الرجل الثاني في الإسلام وهو علي بن أبي طالب سلام الله عليه عاملاً، أي كان يحفر بئراً ويستخرج منه الماء، كان عاملاً، وكان يعمل من أجل إعاشة نفسه أيضاً، ورغم أنه قد حفر تلك الآبار بيده فإنه قد حمل في نفس اليوم بحسب النقل الذي بايعوه فيه بالخلافة والإمامة وعندما انتهت البيعة، فقد حمل المسحاة بيده وذهب للعمل! فيجب أن نقتدي جميعاً بهذين الرجلين العظيمين، وهما الرجلان الأولان في الإسلام، أنظروا إلى هذا الاحترام الذي حصل عليه العمل في الاسلام بواسطة عمل هذين العظيمين والقيمة التي أعطاكم إياها، حيث قد جعل نفسه في مستواكم، ولم يقتصر ذلك على الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه، بل إن الإمام الصادق والباقر كانوا كذلك فقد نقلوا أنهما كانا يعملان في مكان، ونُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنه كان يعمل في مكان ما رغم عمله الكثير، رغم عمله المعنوي الكثير وعمله الإعلامي، فقالوا له كما يُنقل اترك لنا هذا العمل لكي نقوم به، لكنه أجابهم: إنني أحب أن أشعر بحرارة الشمس في بدني إزاء ذلك العمل الذي أريد أن أقوم به بنفسي، ويا لها من قيمة كبرى أن يقوم الرجل الأول في زمانه ورغم امتلاكه لتلك المنزلة بممارسة العمل بنفسه، مما يعلمنا قيمة العمل".
قد يتصور بعض المتخمين أن العمل منقصة، وأنه عيب لا يليق بشأنهم، وأن العمال هم طبقة دونية، لذلك قد تجد بعضهم يتجنب العمل ويتحرز عنه رغم حاجته، بل بعضهم ربما يفضل أن يمد يده ويتسول بشكل أو بآخر على أن يعمل!.
هذه الحالة المرضيّة واجهها الأئمة عليهم السلام بممارستهم للعمل، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام في نفس اليوم الي بايعه الناس للخلافة حمل المسحاة وذهب للعمل! وهذا الإمام الصادق عليه السلام يعمل رغم عدم حاجته، يعمل فقط ليحس بحرارة الشمس في بدنه الشريف!
هكذا أراد أن يبين الأئمة عليهم السلام أن العمل هو كمال يجب أن لا نتنازل عنه في أي ظرف من الظروف، وأن القعود والاسترخاء هو العيب وهو المنقصة وهو المرض الذي علينا أن نتجنبه.
من سيتكبر على العمال وفيهم أمير المؤمنين عليه السلام ! ومن سيتحرج من التشمير عن سواعده وقد شمرها إمامه الصادق عليه السلام !.
العمل قيمة إنسانية ترفع الإنسان وتجعله أقرب وأكثر شبهاً بالأئمة المعصومين عليهم السلام وبالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، الذي أمرنا الله تعالى بالتأسي به "لكم في رسول الله اسوة حسنة".
العمل والجهاد
ما الرابط بين العامل والمجاهد؟
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنكم تكدحون من أجل إحياء البلاد أيضاً، وقطع تبعيتها للخارج، وتحقيق استقلال البلد الإسلامي، والذين في الجبهات يكدحون من أجل الدفاع عن بلد إسلامي، وعن الإسلام، فهم عمّال مثلكم، وأنتم مجاهدون مثلهم".
ويقول قدس سره: "فكما أن القوى المسلحة تحمي حدودنا وتدافع عن الإسلام بشجاعة وشهامة، وتقدم شباباً أعزاء من أجل ذلك، ورغم ذلك فهي مشغولة بالدفاع بمنتهى الشجاعة عن البلد والإسلام، وكذلك فإن العمال المجاهدين والفلاحين المجاهدين يمارسون جهادهم داخل البلاد نظير ذلك الجهاد، إذ أن أولئك يحمون الحدود من الأخطار وأنتم تحمون داخل البلاد من التبعية". فالعامل والمجاهد هما في الحقيقة جناحين يطير من خلالهما طائر الأمة ليصل إلى قمم القوة والعزة والاستقلال.
تضاعف قيمة العمل
لا شك أن آثار العمل تطورت كثيراً من زمن النبي صلى الله عليه وآله إلى زمننا هذا، وصار دور العامل أخطر بكثير في هذا الزمن، فوسائل الاتصال والنقل والتبادل تطورت كثيراً بالنسبة لما كانت عليه في تلك العصور، حيث صار العالم كله وكأنه مدينة واحدة، ويتفاعل ويتأثر كله بأي طارئ يحصل بجزء من أجزائه، ومن هنا تضاعفت خطورة العمل والاقتصاد بشكل عام حتى صار قادراً على تغيير مصير الشعوب! وصارت الحروب الاقتصادية من أصعب الحروب وأخطرها.
والعامل هو القادر على الامساك بزمام المبادرة في هذه الحروب الفعالة، ويشير الامام الخميني قدس سره إلى هذه الحقيقة قائلاً: "إن عامل اليوم يختلف جداً عن العامل في تلك الفترة، ففي ذلك الزمن الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وعاش ضمنه والأماكن الأخرى التي عاش فيها الناس، وخاصة الحجاز حيث كان يوجد الرسول الأكرم، لم تكن ثمة علاقات بين الدول، أو أنها كانت ضعيفة، ولو برزت حاجة معينة في مدينة ما، فعليهم أن يوفروا حاجتهم بأنفسهم ومن داخل بلادهم...
أما اليوم فقد تغيرت الحياة عن السابق بسبب الارتباط الموجود في العالم، إذ ترتبط الدول ببعضها البعض، وترتبط البلدان بالدول الكبيرة سواء الرأسمالية أو الشيوعية. وهذا ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله".
وعلى هذا الأساس يقول الإمام الخميني قدس سره: "فقيمة عملكم اليوم لا يمكن مقارنته بعهد رسول الله في ذلك المحيط الذي كان يعيشه، ولا بد من الالتفات إلى جميع الأجواء المحيطة فعندما قبّل باطن كف العامل ومحل العمل في ذلك المحيط فذلك لكي يبيّن قيمة العمل على طول التاريخ".
العامل بين الاسلام والأنظمة الوضعية
لقد اختلفت الأنظمة الوضعية في نظرتها للعامل، وفي ترتيبه ضمن طبقات المجتمع بحسب تقسيماتهم لها، فمن مجتمع رأسمالي جعل العمال طبقة دونية مسخّرة في خدمة الرأسماليين، إلى مجتمع شيوعي رفع شعار العمال وجعلهم طبقة أولى ضمن شعاراته، أما الإسلام فأعاد للعامل مقامه وطموحه ويحقق له حقوقه المشروعة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "انظروا إلى هذين القطبين الرأسمالي والشيوعي كيف يتعاملان مع العامل وإلى الإسلام كيف يتعامل معه... انظروا إلى زعماء القطب الشيوعي فما أكثر الشعارات والادعاءات التي أطلقوها خلال زمن طويل، ولكن عندما تشاهدون وضعهم كيف هو وتعاملهم مع العمال وسلوكهم معهم وكيف ينظرون إليهم،. ونفس الشيء بالنسبة للرأسمالية، فكلا القطبين جعل من العامل وسيلة لهم للاستفادة منه. فهذا القطب يمارس ذلك بشكل معين والقطب الآخر يمارسه بشكل مختلف، وكل ذلك من أجل تحقيق مصالحهم ومنافعهم. في الدول الشيوعية، الأصل للعامل ولا استطيع أن أعبر عن ذلك افترضوا العامل كالحيوان الذي يجب أن لا يملك أي شيء. إنهم يعطونه الطعام فقط، وعليهم العمل للحصول على الطعام، ويتعرضون إلى الطرد عندما لا يتمكنون من العمل، بل يجب القاءهم في البحر كما عبر البعض وأما القطب الرأسمالي فإنه احتال على العامل، ومارس النهب من طريق آخر.
أما الإسلام فإنه يهتم بالعمل، ويضع قيمة للعمل والعامل ويحترمهما، فكما ينظر إلى المجاهد والعالم فإنه ينظر إلى العامل والمزارع ولا يفرق بينهم، وإنهم كالمشط الذي تتساوى أسنانه، ويصرح القرآن الكريم أيضاً أن الأفضلية هي ليست لامتلاك الثروة أو القوة وأمثال ذلك، بل هي للتقوى وللقيمة الإنسانية، وان هذين القطبين نسوا القيمة الانسانية، ولا يعتبرونهم بشراً مثلنا.
إن ستالين عندما ولد لم يكن ليختلف عن أي إنسان عادي، ولكنه عندما وصل إلى الحكم، فإنه فعل ما فعل، واضطر هؤلاء المساكين أن يخضعوا للظلم ويعملوا له، ونفس الشيء يقال بالنسبة للقطب الرأسمالي، فهو لا يضع للإنسان قيمة، إنهم يضعون قيمة لقدرتهم فقط ويساندون أية دولة تكون تحت نفوذهم".
هذه القيم التي أعطاها الإسلام للعمل والعامل لم تكن من فراغ بل كانت تتماشى مع دور العامل الخطير والمهم في حياة الشعوب.