هذا على الأقل ما يؤكده المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أليكس فيشمان، في مقالة نشرها في ملحق «عيد الفصح».
حلمي موسى
خلافاً للانطباعات التي سادت مؤخراً، وفي ظل تعاظم تقنيات التجسس الإلكتروني، فإن الاستخبارات الإسرائيلية لا تزال تستمد القسم الأكبر من معلوماتها من مصادر علنية ، هذا على الأقل ما يؤكده المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أليكس فيشمان، في مقالة نشرها في ملحق «عيد الفصح». لكن هذا التأكيد ينطلق أيضاً من تنامي مصادر المعلومات العلنية التي تستفيد منها إسرائيل، وخصوصاً من الشبكات الاجتماعية على الإنترنت.
ويكتب فيشمان أنه «مع الاحترام للعملاء ولأجهزة التنصت والرصد المختلفة فإن القوة الصاعدة في الاستخبارات الإسرائيلية في السنوات الثلاث الأخيرة، هي جمة، اضافة الى تحليل المعلومات العلنية من الصحف والشبكات الاجتماعية».
وأشار فيشمان إلى أن «زمن التوقعات الخائبة ولى، وأن هناك الآن من يضع إصبعه طوال الوقت على نبض الشارع العربي لفهم آفاق الأزمة السياسية وما إذا كانت ستقود إلى انتفاضة ثالثة أم لا».
وكتب أن «أول ما يقرأه رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية كل صباح ليس تقريرا سريا للغاية وإنما تقرير، نبدأ الصباح، من عناوين الصحف العربية. أما التقارير عما فعله، ربما، الحكام أو القادة العرب في الليلة السابقة أو القرارات التي اتخذوها أو التي سيتخذونها فهذا شأن آخر».
لكن المعلومات العلنية تسمح للاستخبارات الإسرائيلية بجس نبض الجمهور العربي ومعرفة مشاعره وأمزجته السياسية. والأمر هنا لا يتعلق بمعلومات عن منظمات تعتبرها إسرائيل إرهابية تنوي إطلاق صواريخ أو تنفيذ عمليات من غزة أو سيناء أو لبنان، وإنما رأي الناس في الأحداث الجارية مثلاً في الصدامات بين «حزب الله» ومعارضيه في لبنان وهي «معلومات ذات أهمية استراتيجية بعيدة المدى بالنسبة إلى إسرائيل».
ويعرض فيشمان لمثال على ما سبق، كيفية تعامل الاستخبارات الإسرائيلية في العدوان الكبير على غزة أواخر العام 2012، والذي أطلق عليه اسم «عمود السحاب». ويرى أنه لم يكن واضحاً في عهد الرئيس المصري الإخواني المعزول محمد مرسي، كيف سيتعامل الشارع المصري مع الحرب وما هي الضغوط التي سيمارسها على النظام المصري للرد على الغارات الإسرائيلية على غزة.
وعرض رجال الاستخبارات العلنية في ذلك الوقت معطيات تفيد بأن الجمهور المصري مشغول تماماً بحادث الطرق الذي أودى بحياة 54 طفلاً. وشهدت الشبكات الاجتماعية حينها دعوات لمرسي لـ«الكف عن كونه رئيس فلسطين والبدء بالانشغال بالهموم المصرية».
ومن تحليل المعلومات من الإذاعة والتلفزيون والصحف والشبكات الاجتماعية، خلصت الاستخبارات الإسرائيلية إلى تقدير بأن «عمود السحاب» حدث هامشي لدى الجمهور المصري، ولذلك فإن أحداً لن يضغط على النظام للإضرار بالعلاقات الإسرائيلية المصرية.
واعتبر فيشمان ذلك نجاحاً قاد شعبة الاستخبارات العسكرية، مثل أي مؤسسة بحثية، للاهتمام أكثر بتقدير نتائج الانتخابات المصرية في أيار الحالي، ومحاولة الإجابة عن أسئلة تشغل بال القيادة السياسية والعسكرية: هل سيفوز المشير عبد الفتاح السيسي؟ ماذا ستكون نسبة التصويت؟ وإلى أي حد ستعتبر الانتخابات شرعية؟ فقد انتهى عهد حرص المنظومة الحزبية والأمنية المصرية على فوز المرشح بـ99 في المئة من الأصوات، واليوم توجد منافسة وحملات انتخابية بطابع غربي لكسب تأييد الجمهور.
ومن أجل معرفة ما سيحدث، أنت بحاجة إلى معلومات على مستوى غربي، ولذلك تلجأ الاستخبارات إلى تجنيد ضباط ذوي خبرة في مجالي علم الاجتماع و«سيكولوجيا الجماهير» بل و«الأنثروبولوجيا».
والاستخبارات تفحص طريقة عرض المرشحين في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وموقف الأزهر ومدى صدقية استطلاعات الرأي التي تجريها منظمات دولية ومراكز مختلفة في مصر.
والحديث يدور عن عشرات بل مئات ألوف عناصر المعلومات العلنية، التي لا تحوي أية أسرار، ولكن يتم تحليلها ودمجها في تقديرات مواقف سياسية ذات أثر بعيد المدى.
وبحسب فيشمان فإن اختبار النار الذي مر به الجنرال أفيف كوخافي في شعبة الاستخبارات كان صعباً. فقبل توليه مهمات منصبه لم يكن الجيش كثير الاهتمام بمزاج الجمهور العربي، وتعاملت شعبة الاستخبارات على أن هذا ليس من وظيفتها، حيث فضل رجالها رصد الأحزاب، قادة الحكم ومنظومات السيطرة، ولم يظن أحد أن لرجل الشارع تأثيرا في الخطوات السياسية.
صحيح أن اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري في شباط العام 2005 أظهر كيف أن هيجان الشارع يمكن أن يخلق تظاهرات هائلة، ويقود في النهاية إلى خروج السوريين من لبنان، لكن بقيت هذه المعلومات في إطار أكاديمي فقط ولم تتغلغل في الأداء العسكري اليومي.
وبقيت الاستخبارات العسكرية وفية لفرضية الأساس المستترة والقديمة القاضية بأن القادة والأحزاب يحركون عجلة المنظومات، ولذلك استمرت الجهود وأموال طائلة في محاولة الاقتراب من النخب. ولكن كل ذلك تغير ذات يوم: 25 كانون الثاني 2011.
حدثان وقعا في ذلك اليوم: انفجرت الاضطرابات في مصر ووقف رئيس شعبة الاستخبارات الجديد، كوخافي، وهو ضابط قدير جداً لكن من دون خلفية استخبارية واضحة، لأول مرة أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.
واقتبست عناوين الصحف في اليوم التالي عن اللقاء قول رئيس شعبة الاستخبارات، بأن لا خطر على استقرار الحكم في مصر. وقبل مرور ثلاثة أسابيع في 11 شباط استقال الرئيس الأسطوري، حسني مبارك.
وحدثت جلبة في لجنة وزارة الخارجية والأمن وصدرت اتهامات ضد رئيس شعبة الاستخبارات وأنه فشل في تقدير الموقف. بل كان هناك من طالب بتشكيل لجنة تحقيق، وتحدثوا على شاكلة يوم الغفران والتحقيق في الإخفاق الاستخباري.
بعد أيام زعم كوخافي أنه فهم بشكل خاطئ وأن الاقتباسات خرجت عن سياقها، لكن الصورة النهائية كانت أن إحدى نقاط الدرك الأسفل للاستخبارات حدثت في عهده.
وقد حاول رئيس لجنة الخارجية والأمن، حينها، رئيس الأركان الأسبق شاوول موفاز الدفاع عن كوخافي، موضحاً صعوبة التنبؤ بخطوات مدنية لشبان يديرون صراعهم عبر الفيسبوك والانترنت. وبالرغم من هذا الدعم فقد فهمت الاستخبارات العسكرية أن هناك مشكلة.
وتم تحديد الهدف. وبحسب فيشمان، فإن كوخافي لم يترعرع في شعبة الاستخبارات، وهو غير ملزم بالمفاهيم وعادات العمل القديمة. وقد فهم أن ثمة «ثقبا أسود» هائلا يسمى «الشارع العربي»، وهو يحتاج إلى معالجة من دون آراء مسبقة.
وخلافاً للاستخبارات الأميركية التي توصلت لهذه الخلاصة في الوقت نفسه تقريباً، لم تتوفر للاستخبارات الإسرائيلية مليارات الدولارات لاستثمارها في بناء أدوات لفهم سلوك الشارع. وبدلاً من ذلك، شرعت وحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات ببناء منظومة بحثية جديدة، بقيادة أحد أبرز الضباط حالياً، العميد إيتي بارون. وتقرر أنه بسبب وقوف شعبة الاستخبارات في مقدمة رصد الهزة الإقليمية، فإن عليها فهم الميول السياسية السائدة لدى الجمهور العربي.
واليوم بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وبينما بات رئيس الشعبة ورئيس وحدة الأبحاث في نهاية ولايتهما، توجد موجات متقدمة من رصد وتحليل المزاج في «فايسبوك»، والمدونات، والحوارات وكل مادة علنية في الهواء، ابتداء من مكالمات الهاتف وصولاً إلى بث القنوات التلفزيونية.
والكميات التي يتم رصدها يصعب استيعابها: عدد هائل من أشرطة يعرضها البدو في سيناء على اليوتيوب، مثلاً، ومثلهم جهات إرهابية تسيطر على الأرض وتعرض أشرطة على شاكلة تنظيم «القاعدة» هم نجومها.
http://www.assafir.com/Article/5/349130
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه