منذ آب من العام الماضي ، بدأت عمليا المعركة الثانية الفاصلة في الحرب السورية ، وذلك مع انطلاق " عملية درع العاصمة " في طوق الغوطتين الشرقية والغربية
حسن شقير
منذ آب من العام الماضي ، بدأت عمليا المعركة الثانية الفاصلة في الحرب السورية ، وذلك مع انطلاق " عملية درع العاصمة " في طوق الغوطتين الشرقية والغربية... كان ما كان من تداعيات لتلك المعركة التي أسميتها يومها ، بأنها القصير الجديدة .. توقفت يومها تلك المعركة عند أبواب العتيبة التي قطعت الوصل الاستراتيجي بين هاتين المنطقتين من ناحية ، وأمنت إلى حد كبير العاصمة دمشق من المحاولات المتكررة لإحياء الجبهة الجنوبية من درعا باتجاه دمشق.
استدارت سوريا بجيشها والقوى المساندة له إلى المعركة الفاصلة الثالثة في القلمون ، والتي حُسمت سريعا ً ، الأمر الذي جعل ما أشرنا إليه - في مقالة " ما بعد يبرود والجولان .. دلالات استراتيجية " - إلى حتمية تسريع المصالحات في مناطق الريف الدمشقي ( قلب سوريا ) ، وحمص القديمة وتوابعها ( وسط سوريا ) ... لهو حقيقة واقعة ، عشنا ، ونعيش فصولها اليوم تحديدا في حمص القديمة ...
لن نسرد بنود تلك الإتفاقية ، التي جرى التوصل إليها فيما بين الجيش السوري والعصابات المسلحة ..إنما سنقرأ ذاك الإتفاق من زاويته الإستراتيجية الواسعة .. والتي أخرجت سوريا نهائيا من عنق الأزمة ودخلت بالفعل ، في زمنٍ ،أقلُ ما يُقال فيه أنه زمن إرسال الرسائل الهادرة إلى كل من يعنيهم الأمر من دول تحالف العدوان على سوريا .
رسائل السياسة
يعتبر اتفاق حمص القديمة بين الدولة السورية ، ممثلة بمحافظ المدينة ، والمسلحين بداخلها ، الإتفاق الأبرز حتى اليوم في الحرب السورية بين الطرفين ، لأنه ينطوي على دلالات استراتيجية في أكثر من ميدان ، وتحديدا في السياسة ، فهذا الإتفاق يوجه رسالة حازمة وحاسمة إلى كل أولئك من المتباكين من العرب ومن خلفهم ذوو الصفة الدولية والأممية ، ممن يدعون أنهم يجهدون للولوج في الحل السياسي للأزمة السورية ... وبعضهم يصول ويجوب في العالم ، مسرّبا تارةً ، ومعلنا تارة أخرى أن " التعنت ، والأعمال الإستفزازية " ستدفع بهم إلى التخلي عن مسؤولياتهم تجاه الوصول إلى ذاك الهدف .. وتدفع ببعضهم الأخر من دول متأمرة على سوريا برفع الحظر عمّا يسمونه عن الأسلحة غير الفتاكة للمعارضة المعتدلة ! ، وكأن تلك الدول كانت تعيش العفة من كل ذلك فيما مضى ، طوال سني الحرب على سوريا ...!
ولكن ، أيّاً يكن من أمر ، فإن اتفاق حمص الأخير ، وجّه لكل أولئك رسالة قوية ، مفادها أن زمن التباكي على الحل السياسي للأزمة السورية ، أصبح مكشوفا، وأن اللعب بورقة التهديد بإيقافه أصبح كارتاً محروقا في ميدان المقامرة عندهم ... وأن سوريا اليوم ، قد دخلت - بفعل انتصارات جيشها والقوى المساندة له - في عصر اجتراح الحلول السياسية المجزأة على أرضها ... وأن أقصى ما يمكن أن ترضى به سوريا في هذه الأيام ، هو توقيع ثالث لممثل الأمم المتحدة ، وفقط الأمم المتحدة ، وذلك في عملية عزلٍ سياسية ماهرة وحاذقة لرعاة من ضلوا من أبناء سوريا الذين التحقوا ببعض الجماعات المسلحة .. إنه نصر سوري جديد ، حيكت خيوطه العسكرية والسياسية بمهارة عالية .
رسائل الجغرافيا
لا تقل الرسائل الجغرافيا في اتفاق حمص الأخير ، عن نظيرتها في السياسة ، وذلك لأن الجغرافيا السورية ، كانت محط أنظار العين الصهيونية أكثر من غيرها من عيون باقي أطراف دول تحالف العدوان على سوريا ، لأن حلم تقسيم سوريا إلى كيانات مجزأة ، برز في الأدبيات الصهيونية منذ اليوم الأول للأزمة فيها ، وذلك كي تتماهى هذه الكيانات المفترضة مع حلم الصهاينة الأبدي ، في قيام الدولة اليهودية - الصرفة ، على أرض فلسطين ..
جاءت مقدمات ذاك الإتفاق ، في تيئيس الخيارات العسكرية لمن تبقى من مسلحي حمص ، وكذا النتائج التي تمخض عنها ضربة قاسمة لحلم الصهاينة في تفتيت الدولة السورية ، وفرز أهلها ديموغرافيا ... ذلك لأن هذه المحافظة تشكل وسط سوريا الممتد من الحدود اللبنانية حتى الحدود العراقية والأردنية .. فضلا عن تماس هذه المحافظة مع غيرها من المحافظات ، والتي لا تزال في كنف الدولة السورية ... كل هذا وذاك بعث برسالة قوية إلى الصهاينة ، وإلى من يقومون بتغذيتهم في الجولان. المحرر من عصابات إرهابية ، مفادها أن إقفال قطع من الجغرافيا السورية خارج إطار الدولة ، هو خط أحمر ، وأن نتائج ما جرى في حمص القديمة ، لن يكون أقل مما قد يجري في الجولان لاحقا..
ما الذي يُعزز هذا التحليل ؟ هو كشف الصهاينة مؤخراً عن أكثر من عبوة اكتشفت. في منطقة الجولان كانت مزروعة للدوريات الصهيونية على تخوم ، ما يُسمى بالجدار الطيّب ، الذي يعمل على إنشائه الكيان الصهيوني هناك .
رسائل الديموغرافيا
اتفق المتابعون للشأن السوري ، أن من بين الأهداف التي توختها تركيا من خلال دعمها للهجوم العنيف لناحية كسب في ريف اللاذقية ، وكذلك للهجوم المتعدد الجبهات في حلب ،إنما كانت تهدف من خلال ذلك ، إلى إفقاد الإنتخابات الرئاسية السورية القادمة ، الشرعية الوطنية والشعبية ، فضلا عن الدولية لتلك الانتخابات ، وذلك قبل أن يحوّل الجيش السوري تلك الهجمات إلى فرصة للإنقضاض على تلك العصابات ، وتكريس مواقعه، وكسب مواقع جديدة ..
اللافت في اتفاق حمص ، أنه انطوى على بند يتعلق بمنطقة الشمال السوري ، وتحديدا بمنطقتي نبل والزهراء ، والإصرار على فتح ممر أمن لتلك البلدتين المحاصرتين منذ فترة طويلة ، والتي كان هدف الجماعات الإرهابية ، ومن يدعمها ، إخراج أولئك السكان من السوريين منهما ، على أساس تمييز طائفي ومذهبي بغيض ، وذلك تماماً لما كان هدفهم في حطلة - دير الزور ، والقصير ، ما قبل تحريرها ...
لن نتهم تركيا بأنها تعمل من حيث تدري ، بأن تكون أداة تنفيذية لمشروع الباحث الصهيوني ميخائيل ملشتاين ، والذي أعد دراسة حول الثورات العربية وأثرها على الكيان الصهيوني ، وذلك في نيسان من العام ٢٠١٢ ، وقد خلص فيها أن الدول العربية اللامتجانسة مذهبيا، يمكن أن تعنف فيها الأزمات ، وتتشظى إلى كيانات عدة على أساس مذهبي وديموغرافي !! ولكن سنكون حسني الظن بأن دعم تركيا لتلك الجبهات تحديدا ، يخدم بشكل كبير الأهداف الصهيونية التفتيتية للجغرافيا والشعب السوري الواحد ...
إذا جاءت هذه الرسالة الديموغرافية في اتفاق حمص بخصوص هاتين البلدتين ، معطوفة على تكريس حلب ضمن الاستحقاق الرئاسي القادم ، صفعة سورية قوية للهدف التركي في إفقاد ذاك الإستحقاق بُعده الوطني المتنوع ، والذي سيكون له تداعياته على أبعاده الخلفية من وراء الحدود أيضاً .
رسائل عسكرية وأخلاقية
بعثت الدولة السورية من خلال اتفاق حمص ، برسالة إلى كل أبنائها السوريين ، وتحديدا إلى أولئك الذين خدعوا بالانضمام إلى ما يسمى فصائل الثورة المسلحة ، مفادها بأن الدولة الوطنية في سوريا ، لا تحكمها عقلية ثأرية مع رعاياها الذين ضلّوا الطريق ، لا بل أن باب العودة إلى الوطن والأهل ، وحتى إلى الخدمة العسكرية ، لهو بالأمر المتاح في كل لحظة ...وهذا الإنجاز اليوم ، وما سبقه في بعض بلدات الريف الدمشقي ، هو تعبير صادق عن التوجه الاستراتيجي للقيادة السورية في هذا الجانب ، بعيدا عن البعد التكتي قصير المدى ... وهو في الوقت عينه برهانٌ ساطع على الإرادة الصادقة في إعادة لم شمل الوطن بجميع بنيه ، في سبيل بناء سوريا الجديدة ، وذلك كله بهدف طمأنة المشككين وتيقن المتقينين ، وتيئيس المعرقلين في الخارج قبل الداخل ...
نخلص إلى القول ، أن اتفاق حمص المنجز ، ليس سوى مدماكاً صلبا يوضع في أساس بنيان سوريا الجديدة ، ومؤشرا دالا على التصميم على بناء الدولة السورية الحاضنة والمتسامحة والمنفتحة على أبنائها ..... وهو - أي اتفاق حمص- في الوقت عينه ،. خنجرا مغروزا في مخططات ومؤامرات قوى تحالف العدوان على سوريا ، في نموذج فريد من نوعه على مر التاريخ ، بأن تُوضع مداميك دولة جديدة ، وهي تقبع في قلب حربٍ ضروس تُشن عليها! إنه لنموذجٌ يستحق التأمل .
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه