مريم هي التي تحمل الكلمة كما يحمل الرسول محمد القرآن الكريم. وفي قصة طفولة مريم المميزة، قدّمت نقاشاً منطقياً من موقع اسم ونسب عيسى الأمومي، الذي تفرّد به القرآن الكريم مما يبرز الرؤية القرآنية لنبوة مريم،
يحسب لصاحبة كتاب "مريم في القرآن الكريم، قراءة أدبية"، للباحثة الدكتورة حُسن عبود، أن أحداً ما سبقها إلى دراسة موضوع السيدة مريم العذراء (ع) مستقلاً في القرآن الكريم لا من المسلمين ولا من المستشرقين أو علماء الدراسات المقارنة. ويرجع ذلك إلى عدم تنبههم لاستقلالية مسألة السيدة مريم وشخصيتها في النص القرآني والمعالجة القرآنبة.
ومن المثير أن نلفت ان هذا الكتاب هو أطروحة الدكتوراه للباحثة في جامعة "تورنتو" في كندا، وكانت قد قررت القيام بها بعدما قوي اتجاه في الأكاديمية الغربية إلى قبول الرواية الإسلامية والدراسات القرآنية خصوصا بعدم تعزز الدفاع عن تاريخية النص القرآني، إذ كان هناك اتجاه عريض ينزع إلى رفض الرواية الإسلامية للجمع العثماني. والأطروحة نوقشت في العام 2006، وصدرت عن دار الساقي في العاصمة اللبنانية بيروت.
لماذا تخصيص البحث حول السيدة مريم ؟:
ولماذا تخصيص البحث حول شخصية السيدة مريم (ع) ؟!.. ذلك أن شخصية السيد المسيح (ع) أخذت الحيز الأكبر من اهتمام الدارسين والعلماء. وتميزت هذه الدراسة باعتمادها المنهج الأدبي في قراءة النص القرآني، وهو ليس أمرا جديداً إنما ما تفرّدت به هو الربط بين المنهج الأدبي في قراءة النص والمنهج النِسوي والجندري. فكان المنظور شاملاً للأنثى والأم والنسوية مع تركيز كاشف على مريم وشخصيتها المركّبة ومقتضياتها ونتائجها، ضمن العالم القرآني والعالم اللغوي واللساني العربي.
وترى الباحثة ولديها في ذلك شواهد من السردية المريمية بدءاً ونهاية، أن القرآن الكريم، في أحد استخداماته وتوظيفاته لمعاناة مريم مع قومها، يقيس في ذلك وضع النبي محمد (ص) على وضعها، ويخرج من ذلك إلى أن النبي (ص) سيخرج بتوفيق الله كما خرجت مريم من ظاهرة الذيل قدسية فالحضور المريمي في أحد وجوهه هو حضور محمدي.
قسّمت الباحثة دراستها إلى سبعة فصول، تعددت في كل فصل عناوين أساسية وفرعية مثّلت غنى وافراً في بنية دراسة النص القرآني الذي يتحدث عن تجربة السيدة مريم(ع). فقد تنوعت أساليب البحث في دراسة شكل الوحدات الأدبية من حيث الوحدة والبناء والموضوع، وتحليل الأسلوب والسرد القصصي، إلى شكل الوحدات الأدبية في العناصر الحكائية وأنواع "الموتيفات"، وتحليل الأسلوب في آيات قصة طفولة السيدة مريم (ع)، إلى تحليل عناصر السرد القصصي في قصة طفولتها والقراءة على التناص: بين قصة طفولة مريم حسب الرواية القرآنية من جهة وحسب الرواية اليعقوبية من جهة أخرى. وتتوقف في هذا الجانب من الدارسة عند الوعي الديني عند المرأة والمساواة في حق العبادة بين الذكر والأنثى: تحليل من منظور الجندر، لينتهي الكتاب على فصل سابع يتمحور حول المفسرون ومسألة "نبوة مريم".
قصة مريم بين إنجيل يعقوب والقرآن:
ولكننا في هذه القراءة سنتوقف عند الفصلين الأخيرين. فقد قدّمت الباحثة تحليلاً من معيار "الجندر"، يختص بدخول السيدة مريم (ع) أقدس الأقداس وأظهرت الخصوصية الكتابية للمساواة بين الذكر والأنثى (مساواة جندرية) إضافة إلى الحجة التي تقوم بها النساء المسلمات على أن الإسلام يركز على البعد الروحي والأخلاقي للوجود والمساواة بين البشر.
وينقض حتماً أفضلية الذكر على الأنثى في "نذر المولود للخدمة في المعبد" الذي جاء في سياق حكائي واحد في الخطاب السردي القرآني. وفي تعريف المشهد العام للقصة بالمحراب، وفي المشاهد المتسلسلة بعضها ببعض، وفي تسمية الأسماء أو الأشياء بأسمائها محاولة جدية لإزاحة عنصر الأسطورة، لكنه يبقى ضروريا في العنصر الزمني المختزل بين أحداث القصة وفي خلق عيسى من أم مع الغاء دور الأب. ويبرز استحضار مريم مرة أخرى لأهمية الدور الذي تؤديه بصفتها أماً في نسج المشاهد الحوارية للشخصيات الرئيسية (امرأة عمران وزكريا ومريم وعيسى) بعضها ببعض كما يربط الحبل السري الجنين بالأم. بالظبط كالكتاب الذي يشير إلى التوارة والأنجيل وما نزل على النبي محمد (ص) من أصل واحد هو "أم الكتاب". فإذا كانت مريم في سورة مريم قد قدّست لأهمية خصوبة الأنثى فإن مريم في "أل عمران" قد قُدّست للأمومة والدور الذي تؤديه في الجمع والنسب.
وعرض الكتاب سيرة طفولة مريم المشهورة في التراث الشفهي والتقوي الذي يسجله مؤلف إنجيل يعقوب التمهيدي في القرن الثاني الميلادي، والرواية القرآنية كما أبّن التناص مع الرواية اليعقوبية بالتواقف والتغاير في ما بيهما. ويبدو إن إنجيل يعقوب يتبع قانونا أدبيا إنشائيا أوجده كتاب لمدح الأشخاص يسمى "أنكونيوم" بينما يدمج القرآن الكريم في القص نصوصا متحولة مع نصوص جديدة ليخلق تجانسا وسياقا جديدا للسرد. لأن القرآن الكريم لا يهتم بعرض التفاصيل ويميل إلى الحذف والإضافة. فهناك القليل من التفاصيل الأصلية التي ترد، مما يدلّ على أن الخطاب السردي إما أنه يفترض أن لدى المتلقين كثيرا من المعلومات حول القصة، أو لآن إعطاء هذه التفاصيل هو خارج عن اهتمامات القرآن القصصية الهادفة إلى سرد قصص الأنبياء لغرض الدعوة وإقامة البراهين الكلامية والحجج العقدية لها.
"نبوة" السيدة مريم :
في الفصل السابع والأخير خصصته الكاتبة للبحث في قضية "نبوة" السيدة مريم وتلقى مريم الوحي من الله. إذ اجتهدت في تقديم قراءة نقدية توضح الإتجاه الذي ياخذ به المفسر داخل النص (الشاهد القرآني) وخارجه (شاهد الحديث أو السيرة) ليساوي او يفرّق في الاستخلاف الذي يعدّ مفهوماً حاكماً يشمل الرجال والنساء الصديّقين. وتعدّ ما أسمته الكاتبة "نبوة" مريم، من السمات المريمية التي نوقشت بسبب تلقي السيدة العذراء البشارة من الله تعالى عن طريق تكليم الملك له، وبسبب رزقها العجائبي الذي كان يأتيها من عند الله، واعتبرت من خوارق العادات. وأخذ هذا الموضوع سجالاً حاداً ولاسيما بين المفسرين الأندلسيين لأن بعضهم وجد فيها النبوة وبعضهم لم يجدها. وقد ناقش كذلك المفسّرون المشارقة، من أهل السنة والشيعة، الحجاج في هذه المسألة. ولقد قامت الكاتبة بتقديم قراءات كل هؤلاء وتحليلها وفق المنهج الأكاديمي العلمي.
إلا أن الباحثة توقفت ملياً عند ابن حزم الذي فرّق بين النبوة والرسالة وحصر النبوة في النساء لا الرسالة التي تقتصر على الرجال. وأشارت إلى ريادة ابن حزم في القول بموقع قصة مريم بين قصص الأنبياء، وفي تقديم الشاهد على إلقاء لقب "الصديّقة" على مريم مثلها مثل النبي يوسف(ع) في قصته حين قالوا في نبوته وانه لُقب أيضاً بـ"الصديّق". لتقدم الباحثة بعد ذلك علامات نبوة مريم في استحضار ذكرها من الكتاب السماوي مع ذكر الأنبياء الأخرين، وفي الاحتفال السردي بها لتلقيها الوحي من الله عن طريق الملك، وفي قصة صراعها مع قومها الذي له صلة مباشرة مع هالة النبي محمد (ص) المعنوية في صراعه مع قومه في مكة في بدايات دعوته إلى التوحيد والتكليف. مما جعل القياس بين محمد ومريم يؤكد على الدور المثال الذي تؤديه السيدة العذراء (ع) بالنسبة إلى النبي (ص). فمريم هي التي تحمل الكلمة كما يحمل الرسول محمد القرآن الكريم. وفي قصة طفولة مريم المميزة، قدّمت نقاشاً منطقياً من موقع اسم ونسب عيسى الأمومي، الذي تفرّد به القرآن الكريم مما يبرز الرؤية القرآنية لنبوة مريم، بحسب الكاتبة.
وتنهي الباحثة حسن عبود كتابها هذا بأننا تعلّمنا أن التفاسير نتاج ثقافي قائم على الممكن والنسبي لأنه رهن بشروط تاريخية وزمانية وبظروف ذاتية وإنسانية بحتة لذلك يستحسن قراءتها في كل عصر وتأويلها تأويلاً جديداً. ولكنها تميل إلى الاعتقاد بأن إقصاء مريم من النبوة قد أقصى هؤلاء المفسرون النساء من سلطة دينية تتعلق بالتكليف الذي ساوى بين الرجال والنساء فتوارت الشخصية المريمية إلى خلف الحدث القرآني.
حجية ناقصة :
وهي هنا تقف إلى جانب القول بنبوة السيدة مريم (ع)، وأخذت تعمل بتجمع ما أسمته الأدلة البحثية والعلمية لتعزز اعتقادها. مع أن ما قدّمته من أراء لكبار من علماء الشيعة والسنة حول هذا الأمر، لم يرضها. وهي ربطت بأن مجرد أن كلّمها الملاك أصبحت نبية. "إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ". هذا يشهد أنّ مريم أوحي إليها وكلّمتها الملائكة، ولم تكن نبياً ولا رسولاً، فالتحديث لم يقتصر على النبوة بل يكفي فيه أنّه من حجج الله سبحانه وتعالى أو لغرض الهي.
وحجية مريم مما صرح به القرآن بقوله تعالى : "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً". والآية هي الحجة، أي جعلنا عيسى (عليه السلام) وأمه حجة، كما ورد عن الإمام الصادق (ع) عن هذه الآية قال: (أي حجة). فحجيتها في عرض حجية عيسي (ع) بل أسبق ؛ من حيث أنها المبلغ الأول لبعثة النبي عيسي وشريعته ، حيث إنّها أُمرت من قبل الله تعالي بتحمل مسوؤلية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون بعل، ليمهد الطريق لبيان المعجزة لنبوة عيسي وشريعته، فما جري للسيدة مريم (عليها السلام) من المخاطرة بحرمتها وقدسيتها لأجل هذه الحجية، لأجل نبوة عيسي (عليه السلام).
وهذا التحديث قد حصل لأم موسى (ع)، قال تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ". والباحثة إن استدلت بالاصطفاء لمريم (ع)، فلقد أُصطفيت مريم وطهرت لقابليتها للاصطفاء وقدرتها علي تلقي إرادات الله تعالي، وکانت هذه القابلية لمريم (ع) لما نذرت نفسها لطاعة الله وعبادته والانقطاع له سبحانه وتعالي، ولقد کان هذا الإعداد لکي تکون مريم بهذه المکانة تحت رعاية الله سبحانه وتعالي وبقيمومة زکريا (ع) الذي أو کل بمهمة الإعداد هذه.
ثمّ قالوا بأنه قد جاء في القرآن أن مريم صديّقة، ولم يأت أنها نبية. والجواب: أنها داخلة في قوله تعالى "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين" وهذا هو عمومٌ لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم. وليس قوله عز وجل "وأمّه صديّقة" بمانع من أن تكون نبية. فقد قال تعالى "يوسف أيها الصديّق". وهو مع ذلك نبي رسول. وكل نبي هو صدّيق. فقالوا: إن مريم وُصِفت بالصديقة في مقام المدح، ولو كانت نبية لكان الأولى أن توصف بالنبوة لا بأقل منها، بخلاف يوسف، فالذي وصفه بذلك صاحبه.