24-11-2024 08:51 PM بتوقيت القدس المحتلة

«نوح» في سينما «ما بعد الحداثة»: انفصام الذات الإلهية

«نوح» في سينما «ما بعد الحداثة»: انفصام الذات الإلهية

وفي لحظات هستيرية يفقدون بها كل صلة بعالم السماء يقررون تحدي قرار الرب بالنجاة والصعود إلى السفينة رغماً عن الوصي المخلص «نوح».

 للمخرج الأميركي «دارين أرنوفسكي» حول فيلمه الأخير «نوح».«في فيلم Pi سألوني لماذا استعملت الأبيض والأسود. وفي فيلم Requiem For Dream لماذا تكلمت على المخدرات وفي The Fountain لماذا خلطت الأزمنة. أنت تعرف، أن كل ما يعدّ بلا معنى ومضخم لا يعود كذلك بعد مدّة، وعليّ أن أعطي الانطباع بأني أفعل كل شيء لأطرد من هوليوود». هذا تصريح للمخرج الأميركي «دارين أرنوفسكي» حول فيلمه الأخير «نوح».

زينب الطحان/ جريدة الأخبار

يبدو فيه للوهلة الأولى انبعاث ثورة ما على قيم سينما هوليوود التي سطّرت عبر عقود طويلة خطاً ثقافياً انقلابياً لمفاهيم العقل التنويري الغربي، مدّعماً برؤى رأسمالية «حداثية» تدفعها إلى الأمام السياسة الأميركية المهيمنة على العالم. وفي قراءة متأنية لهذا التصريح تظهر معان أخرى في دلالات تعبيره «المفشكل» التي لا يظهر منها أي ترابط فكري منطقي في عملية إعادة إحياء فنية مبهرة لثورة النبي «نوح» (عليه السلام) والتي اتفق اصطلاحا دينياً على تسميتها بالطوفان.

في قوله «إن كل ما يعد بلا معنى ومضخم لا يعود كذلك بعد مدّة»، يتمظهر بوضوح في تقديمه قراءة سينمائية شبكية معقّدة تضرب بعمق فلسفة أصالة وجود الإنسان وانتمائه الرسالي الى السماء الى قصة تاريخية اعتدّت بها أساطير شعوب ما قبل الحضارات قبل أتباع الأديان السماوية بعصور. ويلفت الآن نفسه إلى مفهوم التشظي والتفكيك الذي نشأت عليه «ما بعد الحداثة» والقدرة على قلب العوالم الإنسانية نحو الانفصال التام عن الشكل والصيرورة لعملية المعرفة التراكمية لتاريخ الشعوب وحضاراتها من جهة وإنشاء قطيعة مع كل مرجعية تؤمن الإحساس بالتوحيد، الذات المركزية والفردية والهوية التوحيدية، بالاتجاه نحو الإحساس بالذات المتشظية وغير المتمركزة ونحو هويات مضاعفة متصارعة من جهة أخرى.

فما معنى أن يصور تلك الفاجعة الوحشية حيث يتضارب البشر فيما بينهم، القوي يستعبد الضعيف ويبني لنفسه عالمه ليحصنه من الانتقام المحتم الآتي، لا يجد من يستكين إليه أو يلجأ لرحمته متروكاً لمصيره الأسود، وبعد اشتداد الأزمة يبدأ الجميع بأكل بعضهم بعضاً لأن «نوحا» الوصي من الرب المكلّف بتنفيذ مشيئته الإلهية حرمهم من مصدر مأكلهم وهم الحيوانات التي انساقت بقدرة قادر باتجاه السفينة «الفلك» التي صنعها لإنقاذهم من شرور الإنسان نفسه. وهم حين راحوا يطالبونه بحقهم بالنجاة أفشل أملهم بأي رحمة من ربهم «المتشفي» بهم. وتزداد ضراوة هؤلاء في الدفاع عن حياتهم عندما يدركون تماماً أنهم صنفوا على أنهم الأشرار ووحده نوح وعائلته الأخيار الذين يستحقون النجاة... وفي لحظات هستيرية يفقدون بها كل صلة بعالم السماء يقررون تحدي قرار الرب بالنجاة والصعود إلى السفينة رغماً عن الوصي المخلص «نوح».

في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، تأكيدٌ أن طوفان النبي «نوح» كان عبارة عن تشكيل انطلاقة جديدة لبنى الإنسان، مؤلفة من نوح وبعض أفراد عائلته مع زوجاتهم وفي الرواية القرآنية إضافة إليهم كان هناك عدد لا يتجاوز المئة من أصحابه وأتباعه وزوجاتهم أيضاً الذين أمنوا برسالته، أما بقية البشر فقد رفضوا الانضمام إليه بل كانوا يسخرون منه. وهذا مضمون مغاير تماماً لرواية أرنوفسكي السينمائية، التي أوحت منذ اللقطات الأولى أن البشرية تسير باتجاه العدمية والبقاء وحده وحق التناسل من نصيب الحيوانات «البريئة»...

فأي رب عادل هو هذا الذي يأخذ الضعيف بجريرة القوي الشرير ويأخذ المسكين المستضعف بخطئية المسعتبد المجرم؟! ويحصر نعمة الحياة بالبهائم. وتزداد الصورة سواداً عن الرب عندما يعاقب ملائكة من السماء تعاطفوا مع الإنسان الأول «المخطئ» رغم إرادته فعاقبهم أن أنزلهم إلى الأرض على شكل حجارة عملاقة، وبقوا مئات السنين يستغفرونه ولكنه أبى الرحمة والمغفرة حتى عادوا مرة أخرى وتعاطفوا مع الإنسان «الخيّر» هذه المرة وضحوا في سبيله حتى غفر لهم خطيئتهم الأولى واعادهم ملائكة إلى «الوطن».

هذه الثنائية، الرحمة والعقاب، جسّدها «أرنوفسكي» في رؤيته الفنية حيثية من الصفات «المزاجية» للإله والتي لا تعتمد على معايير محددة إنما هي ملحوظة بمدى رضاه أو غضبه. وهنا لا يعرف الإنسان متى وفجأة يغيّر الرب مزاجه بين الرضا والغضب من جهة وبين تغيير قراراته بين الحين والآخر. وما يفجّر غضب الإنسان على ربه أنه قاس ومنتقم، وهذا ما يدفعه نحو مزيد من التعنت والتحدي. وكأن الصراع الأساسي هو بين هاتين الإرادتين في تساو بين الذات الإلهية والطبيعة البشرية.

فتستحيل الروح البشرية كلها عديمة الفائدة وغير ذات قيمة لأن مجموعات من أفرداها مارسوا الظلم وارتكبوا الفواحش وأسالوا الدماء في الأرض، فتستحق بذلك عقاباً إلهياً شديداً لا مثيل له على الإطلاق وهو إفناء جنس الإنسان بشكل أبدي. قد يرى بعض في هذه الصورة تقديماً لأسطورة من الميثولوجيا ولكنها، وهي التي تبتعد حتى عن نص التوارة الحالي والمحرف، وفيه ما يتضمن نتفاً من هذه الرؤية الصدامية بين الرب ومخلوقه، ولكنها رؤية متقصدة في إسقاطها على عصرنا الراهن بأن مشيئة الرب نحو الهلاك الأبدي للإنسان دائماً واردة وانتقامه سيعاد تمثيله في أجيال لاحقة. والمخرج والسيناريست يعترفان أن هذا النص السينمائي يحتل مكانا ضئيلاً في التوارة، ويستطردان في تأكيدهما أنهما اقتبسا هذه القصة من أجل جمهور اليوم، فماذا أرادا به القول لنا؟!

نوح وعائلته في الفيلم الأميركياعتقد أنّ الصورة واضحة في خاتمة الفيلم إذ تنتصر إرادة الانسان في حب الحياة على رغبة الرب في فنائه، عندما يعفو «نوح» فجأة عن حفيدتيه اللتين ترمزان إلى استمرار البشرية ويضرب عرض الحائط بقرار الرب الذي عاد، على ما يبدو، فاستحسن رأي «نوح» ومنح البقاء لذريته.

وتلفتني في الفيلم إشكالية أخرى، تعدّ من منتجات فكر ما بعد الحداثة، هو ضربه مركزية المكان وتهميشه في سبيل عولمة الانزياح إلى الكونية الواحدة المختزلة للتاريخ وتشويهه، عندما لا يأتي على أي ذكر لمكان الحوادث التي يجري فيها الطوفان وقصة نوح مع قومه، ما يحيلنا إلى الاعتقاد بتجهيل متعمّد للمشاهد حول مركزية الشرق، ومعه المشرق العربي، في احتضان كل الرسالات السماوية بدءاً من قصة الخلق الأولى ونزول آدم وحواء إلى لأرض انتهاء برسالة الإسلام.

وفي المضمون البنيوي لنص الفيلم تظهر المنظومة الدينية أنها تواجه التفكك والتشظي على أساس إلغاء هوية الإنسان وتأكيد اللامعنى واللامعقولية، والتفكيك والهدم هو الطابع الأساسي لما بعد الحداثة، إضافة إلى التلفيق والخلط ومزج الأشكال وتداخل المفاهيم ورفض النسقية وإنكار النظريات الكبرى وتفكيك مقولة الذات ومركزية العقل والثنائيات الميتافيزيقية والتشديد على فكرة المسافة والابتعاد والانزياح.

وكلما توغلت في عالمنا رؤى ما بعد الحداثة، وعُمل على ترسيخها في جنبات حياتنا، تقاعس أرباب الأديان في الدفاع عن أصالة التأريخ والانتماء وحق المقاومة في تثبيت الهويات المحلية، الفاتيكان في صمته «السكوني» إزاء الفيلم تراجع فظ عن دور الكنيسة المسيحية المشرق في هداية البشرية نحو الرب العادل والرؤوف، والإسلام الذي جسّد الأزهر الشريف موقفه كان اختزالاً مخجلاً لكل هذه الرؤية الخطيرة بتحريم تجسيد الأنبياء!.

لا بد من مشاهدة الفيلم، على أن ترافقه ندوات تثقيفية فاضحة لكل مقولات الهدم لنظريات الدين والتاريخ والمعرفة، كي نوقف اتجاه التاريخ نحو الفوضى الخلاقة. هكذا يكون فعل حرية الرأي والرأي الآخر وليس في القمع على أساس الهروب إلى الأمام لأننا عاجزون عن التحدي والدفاع عن معتقداتنا!..