24-11-2024 06:21 PM بتوقيت القدس المحتلة

الشاشات اللبنانيّة: صفاً واحداً لتبرير خطيئة الراعي

الشاشات اللبنانيّة: صفاً واحداً لتبرير خطيئة الراعي

«الجديد» منحت لدفاعها عن الراعي صبغةً شاعريّة، وقالت في مقدّمة النشرة: «إن الراعي هو بطريرك لبنان وسائر المشرق، وتحتم عليه رسالته السماوية والوطنية معاً، الإمساك بمفتاح الشرق الذي يبدأ من أرض مقدسة

الشاشات اللبنانيّة: صفاً واحداً لتبرير خطيئة الراعي«بغضّ النظر عن نواياكم من تلك الزيارة، إلا أنّ خروجكم عن المقاطعة، يؤمّن بروباغندا للحكومة الإسرائيلية، ستستخدمها لتلميع سياسات نظامها الظالم والعنصري». هذا ما كتبه مؤسّس فرقة «بينك فلويد» روجر ووترز، ولاعب الطبلة في الفرقة نيك ماسون، في رسالة مفتوحة وجّهاها لزملائهم في فرقة «رولنغ ستونز»، الأسبوع الماضي.

يعدّ ووترز من أبرز المناصرين لحملات مقاطعة «إسرائيل»، وقد امتنع عن الغناء في الأراضي المحتلّة، وها هو يدعو ميك جاغر ورفاقه لأن يحذوا حذوه، ويلغوا حفلتهم المقرّرة في أحد متنزهات تل أبيب، في 4 حزيران/ يونيو المقبل.

سناء الخوري/ جريدة السفير

لم يخسر روجر ووترز عائلته في تمّوز 2006، ولم يختبر زنازين معتقل الخيام، ولم يهجّر من قريته في العام 1948. رغم كلّ الحملات التي تتهمه بمعاداة الساميّة، ورغم خسارته الملايين بسبب إلغائه حفلات في الأراضي المحتلّة، تجده يردّد ما تخاف معظم القنوات التلفزيونيّة اللبنانيّة من قوله اليوم: زيارة «إسرائيل» هي تلميع لسياساتها الظالمة والعنصريّة. ما يجده ووترز بديهياً، واضحاً، مفهوماً، يبدو غير بديهي، وغير واضح، وغير مفهوم، بالنسبة للإعلام اللبناني المحتار في كيفيّة التعاطي مع ملفّ زيارة البطريرك الراعي إلى القدس المحتلّة.

تبنّت التلفزيونات اللبنانيّة، بدرجات متباينة، نبرة اعتذاريّة تجاه الزيارة، في نشراتها الإخباريّة. مساء أمس الأول السبت، اتفقت «المنار» و«أو تي في» و«تلفزيون لبنان» و«المستقبل»، على تجاهل الأمر بشكل كامل. لا أحد يريد توريط نفسه في موقف ضدّ رأس الكنيسة. فهو رجل دين، ويحقّ له بالتالي ما لا يحقّ لغيره، ولا نقاش في ذلك، حتى لو كان على وشك تقديم أوّل اعتراف لبناني على هذا المستوى، بدولة «إسرائيل».

«الجديد» منحت لدفاعها عن الراعي صبغةً شاعريّة، وقالت في مقدّمة النشرة: «إن الراعي هو بطريرك لبنان وسائر المشرق، وتحتم عليه رسالته السماوية والوطنية معاً، الإمساك بمفتاح الشرق الذي يبدأ من أرض مقدسة (...) هي زيارة ستؤكد أن الأرض لنا والقدس لنا، وأن بأيدينا سنعيد بهاء القدس». بحسب «الجديد» إذًا، سيعيد الراعي مفاتيح القدس بيده اليسرى، حتى لو كان ذلك يعني أنّه قد يصافح باليمنى رجل أمن إسرائيلي يحرص على سلامة تنقّلاته في المدينة المحتلّة. تخيّلوا، رجل أمن إسرائيلي لطيف، يحرص على سلامة رجل دين عربيّ. يا لها من دولة متسامحة، ومنفتحة، «إسرائيل». ومشاركة الراعي في إبراز ذلك، ليس بموقف سياسي، أبداً، إنّه موقف ديني، لأنّ ذلك سيرفع من معنويّات أهل القدس، المسيحيين منهم والمسلمين، ممن يتعرّضون يومياً لعنصريّة المستوطنين.

ولكن، لحظةَ يدخل الراعي القدس، برعاية إسرائيليّة، سيدرك المقدسيّون الصامدون من دون جميلة أحد، أنّ رأس الكنيسة المارونيّة، لا يعرف عن قضيّتهم أكثر بكثير من سكارلت جوهانسون. فالراعي، بارتضائه أن يكون أوّل بطريرك عربي يزور بيت المقدس، يقدّم دليلاً قطعيّاً على تسامح الدولة اليهوديّة مع أتباع جميع الأديان. انسوا حفريّات مسجد الأقصى، وانسوا محاولات تهويد القدس، وانسوا صمود المطران عطالله حنا ورفاقه لسنوات. فلا أحد يجادل الراعي، حين يقرّر أن يدير خدّه الأيسر.

من جهتها، قرّرت «أم تي في» رفع السقف، ونصّبت نفسها مدافعاً عن «دمّ الموارنة»، قائلةً في مقدّمة النشرة: «... بدأ البطريرك الراعي يتعرّض لحملة مبرمجة معروفة المصادر ومكشوفة التوجهات، على خلفية قراره مرافقة البابا فرنسيس في زيارته الأراضي المقدسة، في عملية فحص دم جديدة لنسبة الوطنية في عروق الموارنة بدءاً برأسهم». تلعب القناة لعبتها المفضّلة، في منح المسيحيين دور الضحيّة/الهدف. تستأثر بموقف الموارنة، مفترضةً أنّهم جميعاً موافقون على قرار الراعي، وأبعد من ذلك، تقرّر تحميلهم وزر الموافقة على خطيئته تلك. فكلّ من يهاجم البطريرك «معروف المصادر». لا مشكلة إن لم تعرف أيّها المشاهد المصادر المقصودة. التفسير سهل، فكلّ من ينضمّ إلى «الحملة المبرمجة» على البطريرك، هو من أعوان الشيطان بلا شكّ. ولكي تكمل «أم تي في» رقصتها الدفاعيّة، تخرج منديل «فحص الدمّ». ربما نسيت أنّ تقارير مراسلها مجدي الحلبي من القدس المحتلّة، تعفيها من كلّ الفحوص، وتجعل موقفها في الشأن الإسرائيلي واضح المصادر ومكشوف التوجهات.

«أل بي سي آي» أرادت توخّي الدقّة والموضوعيّة، كما عوّدتنا في تعاطيها مع الشأن السوري على وجه الخصوص، حيث تقدّم دوماً الرأي والرأي الآخر (ونقصد بالرأي هنا، الرأي المعارض حصراً، وطبعاً لأنّه الرأي الصحيح وحده). ارتأت «أل بي سي آي» في مقدّمة النشرة التهرّب من نبرة التحشيد، رغم أنّها لا تقصر في اعتمادها حين يتعلّق الأمر بملفّ مطلبيّ، أو مدنيّ. تقول في مقدّمة النشرة: «تأتي الزيارة في ذروة النشاط الذي بلغته حملة المقاطعة لإسرائيل حول العالم. لذلك، كان من الطبيعي أن تثير زيارة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى القدس جدلاً كبيراً. لكن، في المقابل، نجح البطريرك في تحييد زيارته عن السجالات السياسية.

فلم يرتفع حتى الساعة أي صوت ذي ثقل سياسي ضدها، فيما وضعت أوساط الكنيسة الزيارة في إطارها الرعوي، وأكدت عدم مشاركة البطريرك بأي من اللقاءات الرسمية مع ممثلي دولة إسرائيل». القناة نفسها، التي رفضت الامتثال لأيّ «صوت ذي ثقل سياسي» وقف ضدّ القضايا المطلبيّة المدنيّة المحقّة، والتي بادرت إلى تعرية رجال الدين المتسترين على ملفات التعنيف والاغتصاب الزوجي والبيدوفيليا، رمت سلاحها حين وصل الأمر إلى ممثّل الموارنة. القناة التي اعتذرت قبل أشهر عند دخول مراسلتها أمال شحادة مطاراً عسكرياً إسرائيلياً، غيّرت رأيها، لتنضّم إلى جوقة تبرير زيارة الراعي.

يمكن للقنوات اللبنانيّة أن تخوض ما تشاء من معارك تخدم ذلك الطرف السياسي أو ذاك، لكنّ حريّتها تقف عند حريّة رجال الدين. نبرتها المرتفعة لمواجهة الفساد في المؤسسات الدينيّة، أو لدعم الزواج المدني، أو لرفض تدخّل رجال الدين في الرقابة، حرّة في الشكل فقط. في الجوهر، لا أحد يجرؤ على تجاوز الحدود المرسومة في عقليّة «الصيغة»، والتي تجعل كلّ الشاشات ملزمةً بتبنّي نبرة اعتذاريّة عن أخطاء رجال الدين، أصل السلطة، ورأس السيستم. يبدأ الأمر بالبيدوفيليا، ولا ينتهي عند الاعتراف بـ«إسرائيل». تصفيق.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه.