27-11-2024 04:44 AM بتوقيت القدس المحتلة

تطهير حمص والبصمة الاستخباراتية

تطهير حمص والبصمة الاستخباراتية

كثيرة هي التساؤلات التي أفرزتها عملية تطهير مدينة حمص من المسلحين وعودتها إلى حضن الوطن

 

 
* حسن أحمد حسن

كثيرة هي التساؤلات التي أفرزتها عملية تطهير مدينة حمص من المسلحين وعودتها إلى حضن الوطن بعد سنوات من التغني بها عاصمةً لما أسموه زوراً وبهتاناً "الثورة"، ومن المسلم به عسكرياً وسياسياً أن سقوط العواصم يعني الهزيمة الاستراتيجية النهائية لكل من يدعي الانضواء تحت لواء تلك العواصم، وهذا يعني أن خروج المسلحين على اختلاف مسمياتهم ومرجعياتهم من جميع أحياء حمص القديمة يعني انتصار منطق الدولة السورية المستند إلى القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة اللذين يؤكدان على ضرورة اضطلاع الدولة بمهامها الدستورية في الحفاظ على حرية مواطنيها والدفاع عن سلامتها وسيادية قرارها الوطني، وقد كان واضحاً أن الخطاب الرسمي السوري الذي رافق عملية استلام حمص القديمة خالية من السلاح والمسلحين كان خطاباً متزناً يحذف من قاموسه كل ما له علاقة بالتباهي أو الانتقام، ويؤكد منطق الدولة التي لا تتعامل بردود الأفعال بل بالعقل البارد لا المنفعل، ولا تسعى لتصدير انتصارات إعلامية وإنما تحرص أشد الحرص على كل قطرة دم سورية، وترى في الحفاظ على كل لبنة في أي جدار لأي بيت من بيوت الوطن أو منشآته مكسباً للدولة، فضلاً عن حرصها على التقيد التام والصارم بما يتم الاتفاق عليه، مع امتلاك القدرة على إلزام من يفكر باللعب في الوقت الضائع على إعادة حساباته وإرغامه على تنفيذ ما تعهد به بعيداً عن المماطلة والمراوغة والتسويف وتسويق الذرائع للتخفيف من مرارة الهزيمة تكتيكياً واستراتيجياً.

لا شك أن خروج المسلحين من كامل أحياء حمص القديمة يشكل سابقة في طريقة تعامل الدولة مع من حمل السلاح ضدها، كما أنه منعطف جوهري في مسار الحرب المفتوحة على سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وسيترك آثاره وتداعياته على الميادين المفتوحة للمواجهة عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، ولفهم حقيقة ما حدث لابد من تقديم إجابات واضحة على العديد من التساؤلات المشروعة، وفي مقدمتها سر زمن الانسحاب في هذا التوقيت، وهل قبل المسلحون بالخروج لأسباب ذاتية صرفة، أم أن من يشغلهم أوعز لهم بالموافقة للتستر على رجال استخبارات أجنبية تعذر عليهم الخروج من حمص بعد تضييق الخناق والتقدم النوعي للجيش العربي السوري وعلى الجبهات كافة، أي بعد استعصاء أمني مطبق كما يتم تداوله في العديد من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية؟ وإذا كان بين المسلحين ضباط استخبارات من دول خليجية أو إقليمية أو أطلسية أو أمريكية أو غير ذلك، فهل يعقل أن العقل الاستخباراتي السوري يجهل ذلك؟ وإذا كان الأمر معلوماً للسوريين فما الغاية من الموافقة على خروج أولئك بدلاً من تضييق الخناق أكثر فأكثر وطرح القضية على الرأي العام لفضح حقيقة التورط الخليجي والعثماني والأطلسي في الحرب على سورية خدمة للكيان الصهيوني؟ وما الذي حصلت عليه الدولة السورية مقابل ذلك، وهي التي أثبتت أنها لا تقدم على أمر خاسر قط، وأنها الأبرع في سياسة عض الأصابع والصبر الاستراتيجي لتحقيق الأهداف الأثمن والأشمل؟؟

بعيداً عما يتم تداوله من تحليلات أو معلومات ترتدي لبوس التحليل فنحن أمام احتمالين: إما أنه كان بين المسلحين رجال استخبارات أجانب، وكان المطلوب ضمان خروجهم الآمن، أو أنه لم يكن في تلك الأحياء إلا المسلحون الذين وافقوا على الخروج كنتيجة طبيعية للحصار الخانق الذي يفرضه الجيش على تلك الأحياء مما اضطرهم لتناسي أنهم "فرسان عاصمة الثورة" الذين كانوا يرددون على مدار الساعة شعار " الموت ولا المذلة".

وإذا أخذنا بهذا الاحتمال فإن الدولة السورية قد حققت الكثير من المكاسب في هذه الجولة من الحرب المفتوحة، حيث حقنت دماء السوريين واستطاعت الحفاظ على ما تبقى من بنية تحتية في تلك المنطقة الأثرية، وجنبت الجيش أية تبعات أو خسائر بشرية ومادية، كما أنها أراحت المواطنين في الأحياء القريبة من قذائف الهاون والقذائف الصاروخية ورصاص القنص والسيارات المفخخة التي حصدت أرواح الكثير من الأبرياء في بقية الأحياء الحمصية، كما أن انتقال المسلحين إلى الدار الكبيرة أو تلبيسة أو غيرها لن يحميهم من متابعة الجيش لفلولهم على امتداد الجغرافيا السورية، ما لم يلقوا سلاحهم ويعودوا إلى حضن الدولة الراعية لجميع مواطنيها، وفوق هذا وذاك إطلاق سراح العشرات من المخطوفين من مدنيين وعسكريين وإدخال قوافل الإغاثة والمساعدات الغذائية والدوائية إلى ثماني بلدات تابعة لحلب من بينها نبل والزهراء، ولا يغيب عن الذهن أن عودة الأمن إلى كامل أحياء حمص سيساهم في تهيئة البيئة المطلوبة لتمكين السوريين من ممارسة حقهم الديمقراطي في انتخاب من يريدون لمنصب رئيس الجمهورية.

الاحتمال الآخر لفهم ما حدث أن يكون بين المسلحين الذين أخرجوا من حمص المدينة بعض ضباط ورجال استخبارات أجانب، والسؤال المشروع هنا: ما هي مكاسب الدولة السورية مقابل الخسارة أو التكلفة؟ والجواب واضح ويتضمن إضافة إلى كل ما ذكر من إبجابيات الاحتمال الأول أن ما حدث قد تم إنجازه بشهادة الأمم المتحدة وحضور ممثلها الرسمي وطواقم الهلال الأحمر التي اطلعت على حقيقة الإرهاب الذي كان يضرب حمص القديمة.

كما أن تلازم خروج المسلحين بإطلاق سراح المخطوفين وإيصال قوافل الإغاثة إلى عدة قرى وبلدات حلبية يؤكد أن هناك مايسترو يشرف على عمل تلك الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها، وما عرقلة وصول القوافل في اليوم الأول إلا مسرحية هزيلة لاستبعاد هذه النتيجة، فمن أوقف المساعدات فصيل في ما يسمى الجبهة الإسلامية التي وافقت على خروج المسلحين وعلى بقية البنود التي تم الاتفاق عليها، والسماح في اليوم التالي لتلك القوافل بالعبور والوصول إلى نبل والزهراء يؤكد أن هناك من يرغم كل العصابات المسلحة على التنفيذ عندما يريد، وهذا يثبت صحة الرواية السورية منذ آذار 2011، ويدحض كل الأكاذيب والأباطيل والافتراءات التي كان يتم تعميمها وتصوير ما يحدث على أنه حراك داخلي، وها هو العالم برمته يرى بأم العين أن جهات محددة تقود الإرهاب الموصوف والمصنف رسمياً على أنه إرهاب، واللافت للانتباه أن هذا الأمر يأتي في الوقت الذي بدأت فيه كل الدول تتحسس خطورة الإرهاب الذي تم تصديره إلى سورية، وما تحمله عودة من ينجو من أولئك الإرهابيين من أخطار وتهديدات في حال تمكنهم من العودة إلى الدول التي غضت البصر عن خروجهم وقدمت لهم التسهيلات وكل أنواع الدعم لتفتيت سورية، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها العدوانية الشريرة.

الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا هو  دقة التعامل الرسمي السوري وبخاصة العقل الاستخباراتي في التعامل مع مثل هذه الحرب التي لم تشهد لها البشرية مثيلاً، وقد أثبتت الوقائع أن هذا الفكر لا يترك صغيرة أو كبيرة للصدفة، لأن أمن الوطن لا يحتمل الغفلة، وبالتالي لو سلمنا جدلاً أن بين المسلحين الذين خرجوا شخصيات استخباراتية أجنبية فلماذا تم السماح لها بالخروج بدلا من القبض عليها وتقديم الأمر للرأي العام العالمي لإثبات تورط دول خارجية في الحرب على سورية؟.

ولعل الجواب الأبلغ على هذا التساؤل بسؤال مشروع هو: ألم تفرز وقائع الحرب المفتوحة عشرات الشواهد الحية التي لا تقبل الجدل على تورط السعودية وقطر وغيرهما من دول الخليج وحكومة أردوغان ودول الغرب الأطلسي في هذه الحرب على سورية؟ وهل بإمكان تلك الأطراف التنكر لمسؤوليتها المباشرة عن كل قطرة دم سورية أسفكت على امتداد ما يزيد عن ثلاث سنوات؟ إذن تقديم شاهد جديد لا يقدم قيمة مضافة على الأوراق العديدة التي تمتلكها الدولة السورية، ثم من غير المعقول أن يكون تم السماح بخروج أولئك ـ إن وجدوا ـ من دون مقابل ومقابل ثمين، ومن غير المستبعد أن تكون هناك معلومات على غاية من الأهمية تم الحصول عليها مقابل السماح بخروج من كان في حمص القديمة، ومنطق التحليل السياسي والعسكري المستند إلى الواقع يشير إلى جهود عديدة تبذل للتعاون مع الاستخبارات السورية بعد اتضاح حقيقة المخاطر والتهديدات التي يخلفها الفكر التكفيري الذي لا يستثني أحداً، وهذا يقود إلى احتمال حصول الدولة السورية على كنوز من المعلومات عن الجماعات الإرهابية المسلحة وطرق تواصلها  وما لديها، وبخاصة تلك التي يرى فيها الجميع خطراً داهماً يهدد الأمن القومي لأية دولة يعودون إليها.

من كل ما تقدم نستنتج أن عودة حمص إلى حضن الوطن مكسب استراتيجي على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، وهو يشكل رافعة ضرورية لانهيارات دراماتيكية متتالية فيما تبقى من مجاميع مسلحة على امتداد الجغرافيا السورية، وواهمٌ مَنْ يظن أن أطراف التآمر والعدوان قد توافق على خطوة كهذه إلا بعد اليقين المطلق بحتمية انتصار المشروع المقاوم على المشروع التفتيتي، وتداعيات هذا الانتصار تتجاوز الجغرافيا الإقليمية إلى المستوى الدولي، فأقطاب المقاومة من طهران إلى بغداد فدمشق فلبنان ففلسطين هم اليوم أكثر حضوراً وفاعلية، واشد قرباً من انتصار استراتيجي تتبلور خواتيمه في واسطة العقد المقاوم سورية الصامدة، وما حدث في حمص وعودتها خالية من السلاح والمسلحين ما هو إلا البوابة الرئيسة المطلة على أفق لا محدود من الإنجازات الميدانية الكفيلة بخروج سورية منتصرة وتقهقر المشروع الصهيو ـ أمريكي بكل أدواته وأشكاله في هذه المنطقة الجيو إستراتيجية من العالم.

* باحث سوري متخصص بالدراسات الجيو بوليتيكية
البريد الالكتروني:   dr.hasanhasan2012@gmail.comأوdr.hasanhasan@yahoo.com