26-11-2024 10:59 AM بتوقيت القدس المحتلة

انبعاث التكفيريين: أزمة الدولة و«قومنة» الدين

انبعاث التكفيريين: أزمة الدولة و«قومنة» الدين

تشكل الجماعات التكفيرية التي تتخذ من العنف وسيلة لها خارج الدولة يرجع إلى سببين: الأول هو عدم قدرة الدولة العربية على بناء الأمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى القيام بدورها في تحقيق مصالح مواطنيها

المسلحون التكفيريون يأتون من كل حدب وصب إلى سورياظل السؤال حول نشوء الجماعات التكفيرية التي تتخذ من العنف وسيلة لها حاضراً بكثافة في العقود الأخيرة، وقُدِّمت إجابات متعددة على هذا السؤال، لكن الإجابة الأكثر شيوعاً والأقل منهجية في آونة واحدة، والتي انتشرت في بعض الصحف ووسائل الإعلام العربية بنَفَس استشراقي لا يواري تماهيه مع الغرب، هي إرجاع نشوء هذه الجماعات إلى النصوص الدينية والشرعية والفتاوى الفقهية التي بدورها شكلت ثقافة كارهة للآخر المختلف دينياً وزرعت في معتنقها استعداداً لقتل هذا المختلف.

 أحمد الجنيدل/ جريدة الأخبار

وعلى إثر هذه الإجابة بإمكاننا فهم كثير من الإجراءات التي اتخذها العديد من الدول العربية لعلاج مشكلة نشوء الجماعات المسلحة التكفيرية من تغيير مناهج التعليم وتشجيع الخطاب الديني الأكثر تسامحاً ومراقبة منابر الجمعة وغيرها. فالدول العربية رأت أن المشكلة ثقافية وبالتالي لابد من علاجها بخطاب ثقافي مضاد يستقي قوته من المرجعية نفسها، أي المرجعية الدينية.

رغم أننا نقرّ أن هذه التأويلات للنصوص الدينية بحد ذاتها تعاني من كثير من السلبيات وتشوه قلب معتنقها وتجعله يجسد دور الرب بشكل أو بآخر، لكن هذا لا يعني أنها هي التي تفسر نشوء الجماعات التكفيرية خارج الدولة لسببين: الأول أن ظهور هذه النصوص الدينية والتراثية وشيوعها هو بحد ذاته يحتاج إلى تفسير، وهذه النصوص كانت موجودة منذ وقت طويل لكن لم تشع إلا من فترة قريبة نسبياً. وفي كل دين بالإمكان إيجاد نصوص أو تأويلات لنصوص تدعو إلى القتال، لكن هذه النصوص لا يتم إظهارها إلا في حزام محدد من الدول. فالبوذية تنتشر في دول كثيرة لكنها ارتبطت بالعنف في ميانمار وليس اليابان على سبيل المثال، وعليه فإن التفسير الثقافي لا يفسر شيئاً، لأن وجود هذه الثقافة عينها هو الآخر يحتاج إلى تفسير من خارجها.

أما السبب الثاني (المرتبط بالأول) فهو أن التفسير الثقافي يتجاهل الدور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تشكل هذه الجماعات بل وحتى في تشكل هذه الثقافة التي تعيد إنتاج النصوص الدينية لتتوافق مع رؤاها الإيديولوجية ومطالبها السياسية والاجتماعية المختلفة. وفي هذا الصدد يؤكد فيلسوف التواصلية الألماني يورغان هابرماس أن هذا النوع من العنف هو ردة فعل روحية على الظلم الناتج من العولمة غير العادلة وغير المنصفة، فهو يؤكد أن العولمة غذت حركة العنف عبر تقسيمها العالم من دون رحمة إلى رابحين وخاسرين، وانقطاع التواصل بين الطرفين، وأن مسؤولية تفجر العنف يقع على عاتق الأمم الأقوى، وعليه فإن دوافع العنف هذا اقتصادية ـ سياسية وليست ثقافية، وما يجب على الغرب فعله هو أن يسعى إلى تحسين صورته حتى تتوقف الدول النامية عن رؤيته بوصفه جبهة امبريالية تسعى إلى توسيع مصالحها المالية.

في نظرنا، إن تشكل الجماعات التكفيرية التي تتخذ من العنف وسيلة لها خارج الدولة يرجع إلى سببين: الأول هو عدم قدرة الدولة العربية على بناء الأمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى القيام بدورها في تحقيق مصالح مواطنيها والدفاع عنهم، والأمر الثاني هو قومنة الدين.

إن الدولة العربية لم تكن بحدودها هذه تعبيراً عن أمة، لكن على الأقل، وفي بداية تحررها من الاستعمار ونشوء الدولة القطرية تبنت هذه الدول إيديولوجيا وحدوية تحمل شعارات قومية تدعو إلى الاستقلال والكرامة وتحرير فلسطين. فيما بعد جرى تفريغ هذه الإيديولوجيا من أي معنى وأصبحت مجرد شعارات فارغة وتبريرية للتعسف السلطوي في بعض الدول العربية، وبالتالي تحولت الدولة القطرية العربية بعد أن تخلت عن مشروع بناء الأمة إلى مجرد «سلطة» وليس «دولة – أمة/ Nation State» يتم فيها التعبير عن إرادة الأمة وسيادتها واستقلالها عن الدول الكبرى.

يجري تجاهل حقيقة أن هذه الحركات التكفيرية هي ليست جماعات عقائدية صرفة، بل هي حركات سياسية بالدرجة الأولى ولديها مطالب سياسية. وهذه المطالب جزء كبير منها يدور حول الاستقلال والكرامة، فمثلاً أسامة بن لادن تحدث في أشهر خطاباته أن الأميركيين لن ينعموا بالراحة والأمان حتى يشعر بذلك الفلسطينيون، وكذلك ينقل الباحث النرويجي «توماس هيغهامر» عن أحد الجهاديين قوله «الجهاد هو سبيلنا الوحيد لكي نعيد للأمة كرامتها»، ويقول ناصر البحري حارس أسامة بن لادن الشخصي «وأدركنا أننا أمة لها مكانتها المتميزة بين الأمم». الشعور بالذل والإهانة لدى الشعوب هو ما يقود إلى تشكيل جماعات مسلحة خارج الدولة سواء كانت هذه الجماعات دينية أو غير دينية، بل وأكثر من ذلك قد يقود الشعور بالذل إذا انتشر في أمة إلى أن تنزلق في مجملها في خطاب شوفيني متطرف، ونحن نعلم أنه لولا هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى والشروط المذلة التي وضعها الحلفاء ضد ألمانيا ما كان لهتلر أن يحصل على كل هذه الجماهيرية فيها ويصل إلى الحكم بتأييد شعبي ويقوم بكل جرائمه. فلا يجب علينا أبداً الاستخفاف بما قد تفعله الكرامة المهدورة لدى الشعوب.

اتفاق كامب ديفيد المذلإن الدولة يجب أن تقوم بدورها في محاولة استرداد الكرامة ولا يجري هذا بالضرورة من خلال الحروب بل من خلال الاستقلال الوطني في القرار السياسي والاقتصادي، وألا تكون الدولة ملعباً يلعب فيه ما يسمى بالدول الكبرى، بل تكون لاعباً مؤثراً في السياسة الدولية. إن الدولة العربية في الخمسينيات والستينيات كانت هي التي تقوم بدور المقاومة ضد الاستعمار بأشكاله المختلفة، وكثير من الأنظمة العربية اكتسب شرعيته من خلال مقاومته الاستعمار وتحريره البلاد، لكن تراجع دور الدولة في مواجهة الاحتلال أدى إلى نشوء حركات مقاومة خارج إطار الدولة، وإن قامت بعض الدول العربية بدعمها، فهي كانت تقوم بالدور الذي تخلت عنه الدول العربية، خصوصاً بعد كامب ديفيد وتخلي النظام العربي الرسمي بشكل واضح عن القضية الفلسطينية.

الدول العربية في العقدين الآخرين لم تعد تطبب جرح الكرامة العربي النازف، بل تحولت إلى جرح آخر من جروح الكرامة بسبب مواقفها واستبدادها وإهانتها المتكررة للمواطنين. وهذا أدى إلى نشوء الحركات المسلحة خارجها لتسترد هذه الحركات الكرامة التي تعتقد أنها أُهْدِرت. وفي نظرنا أن الشعور بالكرامة المهدورة هو الذي يقود إلى تبني الأقوال التكفيرية المتطرفة وليس العكس، فالفرد لا يصبح تكفيرياً ثم يشعر بالكرامة المهدورة، وكلام ناصر البحري وغيره من الجهاديين يدل على ذلك.

وإضافة إلى فشل الدولة في القيام بدورها في بناء الأمة وتحقيق الكرامة والاستقلال وحفظ الحدود، فإنها كذلك أغلقت قنوات التعبير عن الرأي ولم تعطِ المواطنين حقوقهم السياسية التي من خلالها يشعرون أن النظام السياسي يمثلهم ولو بشكل نسبي. الدولة العربية حينما تتخذ القرار ولا تُشرِك المواطنين في اتخاذه فالمواطنون يشعرون باغتراب عن الدولة، وبأن قرارهم السياسي مسلوب من قبل النظام. لقد أدى ذلك إلى تآكل شرعية الدولة ونشوء شعور بالامتعاض من الدولة العربية. فالحركات التكفيرية لم تكن ثأر الذات المقموعة من الغرب الذي انتهك الكرامة فحسب، لكنها أيضاً كانت ثأراً من الدولة العربية التي أغلقت الباب السياسي والقنوات التعبيرية.

السبب الآخر الذي ـ في نظرنا ـ أدى إلى نشوء هذه الجماعات التكفيرية التي تتخذ من العنف وسيلة لها، هو تحويل الدين من ممارسات دينية اجتماعية إلى قومية، وتصور أن كل مسلم ينتمي إلى هذه القومية، وتصور أن المسلمين جماعة سياسية متعالية على الحدود والجنسيات. خطاب عبدالله عزام يؤكد ذلك، فهو يرى أن كل المسلمين جماعة واحدة ولا عبرة بالإقليم الذي يعيشون فيه، لذلك قال بأن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل مسلم لأنه اعتداء على جماعة مسلمة.

إن تحويل المسلمين إلى جماعة سياسية بدل أن تكون دينية روحية هو مأزق فكري وواقعي، فهو يفكر بمنطق الإمبراطورية وليس بمنطق الدولة والسياسة الحديثة، وهذا ما يؤكده «توماس هيغهامر»، إذ يقول إن القاعدة هي «تعبير عن التيار الوحدوي الإسلامي المتشدد» والقاعدة عللت لجوءها إلى العنف بشكل دائم تقريباً بأنه «تعبير عن تضامنها مع المسلمين الذين تضطهدهم جهات غير مسلمة».

إضافة إلى ذلك، فإن تسييس الدين وادعاء تمثيل الجماعة السياسية المسلمة من قبل التيارات الجهادية أدى إلى حالة انشطارية قامت بتكريسها هذه التيارات عبر خوضها حروباً مع المختلف معها مذهبياً داخل الدائرة الإسلامية، ومع المختلف معها داخل المذهب، وصولاً إلى خوضها حروباً مع بعضها بعضاً كما يحدث اليوم في سوريا.

التطرف الديني باسم الإسلام بلغ ذروته في سوريااستند بعض الأنظمة العربية إلى الشرعية الدينية لمواجهة المد القومي، وبعض الأنظمة العربية تبنى خطاباً دينياً مع سقوط الشرعية الجماهيرية، وبعد تبين رسوخ القيم الدينية لدى المجتمعات العربية قامت هذه الأنظمة بالاستناد إلى الرمزية الدينية لتحافظ على مكانتها. هذا الاعتماد على الخطاب الديني في شرعنة سياسات الدولة أدى إلى المزايدة على الدولة التي تستند إلى الرمزية الدينية في دينيتها، وساعد في طرح سؤال: ما هو الإسلام الحقيقي وهل فعلاً هذه الدولة تمثله؟!

ما نريد أن نؤكده أن نشوء الجماعات التكفيرية التي تتخذ من العنف وسيلة لها هو ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى وليس ظاهرة ثقافية يتم علاجها من خلال إعادة إنتاج التأويلات للنصوص الدينية بحيث تكون أكثر تسامحاً.

ونذكِّر هنا أن الجماعات التي تتخذ العنف وسيلة لها لتحقيق أهداف سياسية هي ظاهرة تاريخية ولم تكن مرتبطة بالدين دائماً، فالماركسيون والأناركيون _الفوضيون_ والقوميون ارتكبوا كثيراً من العنف في بدايات القرن العشرين، وسبب كون الدين هو الدافع الرئيسي في هذه الجماعات في الوقت الحالي هو مجرد نشوء مزاج ديني عالمي يأتي كرد فعل على الحداثة وما تفرضه من تجريف للهويات الأولية. لكن إذا كان وضع الدولة العربية بمثل ما هو عليه الآن سيستمر ظهور الجماعات التي تتخذ من العنف وسيلة لها، وهي قد تتبنى إيديولوجيات مختلفة عن الإيديولوجية الدينية.

لا يمكن حل إشكالية قومنة الدين إلا من خلال بناء الأمة عبر مؤسسات الدولة التي تعطي المواطنين فرصة المشاركة في بنائها وتشغيلها لتحصيل منافع مشتركة في القضايا الداخلية والخارجية، وهذه الدولة تمثل مواطنيها ومصالحهم وتدافع عنهم.

 موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه.