شارون حل ضيفاً مكرّما ومهابا ومطاعاً على بيوتات «الكتائب». تصوّر معهم فوتوغرافياً. مشاهد المعانقات لا تُنسى... حدث ذلك كله فيما كانت المقاومة اللبنانية تتراجع والمقاومة الفلسطينية تحاصر
كان يلزم أن تلتئم المحكمة، في وقت ما على مدار اثنين وثلاثين عاماً، لكن ذلك لم يحصل. الصمت على الحدث، غيَّب «القضية» واحتفظ بـ«الجريمة» في الأدراج المقفلة... التناسي المتعمد أراح كثيرين، أفسح المجال لقيادات الأمر الواقع، العسكري والسياسي والطائفي، بعقد صفقة مصالحات بتراء، وإصدار عفو ظالم بحق الأبرياء الضعفاء، وحماية الأقوياء و«حقوقهم» عندما تحين الفرصة.
نصري الصايغ/ جريدة السفير
مات نبيل العلم بلا حكم بحقه. السردية القضائية تفيد بأن الرئيس المنتخب بشير الجميل قد قتل، وان لنبيل العلم ضلعاً في القضية. كان يجب أن يفتح الملف وتجري المحاكمة، فلا يبقى العلم معلّقاً على خشبة الاتهام، وأن يظل النظر إلى الجميل على أنه «شهيد الوطن».
لو عقدت جلسات للمحاكمة، لكان بالإمكان متابعتها واعتبارها محاكمة تاريخية. من المفترض أن يقف المدعي العام، ويتلو القرار الاتهامي، مفنداً بالوقائع والإثباتات والأدلة الدامغة والاعتراف الموثق من قبل من اعتبر منفذ الاغتيال، حبيب الشرتوني.
لنا أن نتصوّر خلو القرار الاتهامي من الأسباب السياسية والوطنية والظروف العسكرية. سينأى الادعاء بنفسه عن وقائع الاحتلال الإسرائيلي، ويركز على شخصية بشير الجميل، «الوفاقي» «الوطني» الراغب ببناء الدولة الحديثة، مخلص لبنان من الاحتلال الفلسطيني، ومنقذ لبنان من الامّحاء، ليكون وطنا بديلاً للفلسطينيين. ستغيب عن مضبطة الاتهام، السيرة الذاتية لبشير الجميل، كقائد عسكري ميداني، وعملياته في الصفرا وإهدن و...سيطالب الادعاء، استناداً إلى مواد قانونية حاف، بإعدام العلم مراراً. فالقضاء يفضل عصمة النص على الاجتهاد الوطني والمرجعية القيمية.
لنا أن نتوقع سيلا من المرافعات. سيتقدمهم المحامي الشهير جاك فرجيس، صاحب الاختصاص بالصراحة والوقاحة معاً، وذو الخبرة في تناول قضايا المناضلين العالميين، ومنهم جميلة بوحيرد. ومن المحتمل أن يبدأ الدفاع بما يلي: «ماذا لو قررت المحاكم الفرنسية تطبيق النصوص القانونية الفرنسية، بحق بطل المقاومة الفرنسية جان مولان؟ بالطبع، هذا غير معقول.
على أن لب الدفاع سيتركز على رسم المشهد الواقعي والحقيقي التي جرت فيه الأحداث: «جيش الدفاع الإسرائيلي (وإسرائيل عدو، ومن يتعامل معها يتعرض لعقوبة الإعدام وفقا للنصوص اللبنانية التي تصف التعامل بالخيانة)... جيش الدفاع الإسرائيلي يغزو لبنان في العام 1982 بالتعاون والتحالف السياسي والتنفيذ الميداني مع «القوات اللبنانية» وحلفائها، بقيادة بشير الجميل آنذاك... لا صعوبة أبداً في إبراز الأدلة الثبوتية الشفهية والعملية، من قبل الجميل وأعوانه. لم يكن غزو لبنان سراً، كان علنياً وفادحاً وقاتلا، وبالاشتراك مع «القوات».
الغزو دمّر بلدات وقرى وأحياء. حاصر بيروت براً وجواً وبحراً. جوّع المدينة، منع عنها الغذاء والدواء، بإدارة المعابر من قبل «القوات». ارييل شارون ولوبراني وقادة العسكر يتجولون في المناطق المحتلة وكأنهم في «بلدهم» (ليس البلد بلدهم أصلاً). شارون حل ضيفاً مكرّما ومهابا ومطاعاً على بيوتات «الكتائب». تصوّر معهم فوتوغرافياً. مشاهد المعانقات لا تُنسى... حدث ذلك كله فيما كانت المقاومة اللبنانية تتراجع والمقاومة الفلسطينية تحاصر لتجبر على الانسحاب من بيروت ولتفرض على الجيش السوري إخلاء مواقعه. سيطالب جاك فرجيس إبان مرافعته تسجيل الأرقام. أرقام الضحايا، القتلى والمعتقلين والجرحى والمقتلعين.
كل هذا لا جديد فيه. هو معروف ومغيب، ولا ترغب النيابة العامة بالالتفات إليه. لكن الدفاع سيجد حقا قانونيا دوليا، يدفعه إلى المقدمة: «لقد أعطت القوانين والمواثيق الدولية الحق للشعوب بمقاومة الاحتلال وأعوانه، هذا حق كفلته الأمم المتحدة. ولقد كان ذلك طبيعيا، الجيش اللبناني لم يدافع. أرهقته وفتّتته الحرب اللبنانية وميليشياتها، وصار لاجئاً في الثكنات الطائفية. مشلولاً عن أي دفاع.
سيشيد الدفاع بالمقاومة التي نشطت في بيروت، ماذا لو كان هناك فرضية إصدار مذكرة جلب بحق خالد علوان، بطل عملية الويمبي؟ ماذا لو أصدرت مذكرة أخرى بالبطل نزيه القبرصلي الذي واجه الاحتلال في صيدا؟ ماذا لو أصدرت مذكرة توقيف بالشهيد أحمد قصير مفجر مقر الحاكم العسكري في صور؟.
سيضيف الدفاع حججا كثيرة: الاجتياح لم يكن هدفه احتلال الأرض، بل احتلال الإرادة السياسية. كان غزوا عسكرياً بغايات سياسية، تهدف إلى إقامة سلطة في لبنان حليفة أو موالية أو متعاونة أو مطيعة.
سيهزأ الدفاع من الحجة الدستورية التي يعتمد عليها الادعاء، لاعتبار بشير الجميل رئيساً منتخباً بأكثرية نيابية. من سيصدق ذلك؟ إن الحصول على صوابية الشكل لا يلغي الطعن بالمحتوى. فهذه انتخابات ملغاة بأسباب لاغية. هذا انتخاب على الملأ، بإرادة إسرائيلية وتحت الحراب الإسرائيلية ـ القواتية معاً.
إن موكلي بريء. لأنه لم يقتل رئيساً للجمهورية، بل قاتل رأس الحربة في مشروع الاحتلال الإسرائيلي.
لنا أن نتصوّر انقسام أعضاء المحكمة إبان المذاكرة. فريق يصر على أن الجميل شهيد ورئيس وبطل، وفريق ينظر إلى الاحتلال والحرب الأهلية وظروف المقاومة. لنا أن نتوقع أن يكون رئيس المحكمة على مثال القاضي، العاصي على التأثر بأحد، إميل أبو خير، الذي أكد أن الحركة الانقلابية العام 1962 فعل سياسي. ولنا أن نتوقع إعلان براءة نبيل العلم، استناداً إلى المعايير الوطنية والمواثيق الدولية.
لنا أن نتصوّر هذا الانقسام الذي لا يزال يشطر البلد نصفين، نصف مع البطل ونصف مع المجرم.
مات نبيل العلم ولم يحظ بقرار ينصفه. مات العلم ملعوناً، مطارداً، مجهولاً، ممنوعاً ومتخلّيا عنه.
المحاكمة المفترضة أعلاه، ليست حلا. هناك خلل في المنظومة القيمية الناظمة للقضايا الوطنية. لبنان، دولة منقسمة بين «خيانتين». هناك دائما من يخون الآخر. من يستقوي عليه بالخارج، ثقافة التخوين سائدة وهي مأساتنا. لم ننتظم في سلّم قيم موحدة في القضايا الوطنية... بلد مشلّع بين خيارات وانتماءات ومحاور. لا يلتئم إلا على زغل.
لذلك، لم تتوقف عملية القتل في لبنان. لم تتوقف عمليات الاغتيال. بلد يحل مشكلاته بالدم، فيزداد إشكالا... هل سيعي اللبنانيون أن الاغتيالات المتمادية هي نتيجة لفقدان النصاب الوطني... علاج القضايا الوطنية الكبرى، ليس بالتسويات السياسية، ليس بالميثاق الوطني ولا باتفاق الطائف... المشكلة تحل بالثقافة. ثقافة تؤكد حل المشكلات بالحوار والديموقراطية وتطبيق القوانين...
مات نبيل العلم ولم يحظ بالتذكّر طوال إقامته البعيدة في المنافي المجهولة. هناك ظلم كبير بحقه وظلم ذوي القربى وذوي الأحلاف وذوي الرفقة، أشد مضاضة...
من يفي نبيل العلم حقه، ويصدر قراراً يتناسب ودوره في ضرب رأس المشروع الإسرائيلي، الذي كلف المقاومة اللبنانية والإسلامية زهاء 18 عاماً في مقاتلته حتى انسحابه من بوابة فاطمة؟.