والتمثال هو لرجل يقف وظهره إلى عمود طويل، مرتدياً إزاراً ذا ثنيات (شينتي) يتدلى من وسطه حزام ضيق يمتد من الخصر إلى الحاشية
لا يزال تاريخ صيدا يُتكشف يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، ولم ترو المدينة حتى الآن قصتها الكاملة، وهي تواصل إدهاشنا بمكتشفاتها التاريخية الأثرية بعد ستة عشر عاماً من أعمال التنقيب في موقع أثري واحد.. فكيف إذا ما فتحت بقية المواقع أمام أعمال التنقيب؟.
فقد عثرت أمس بعثة التنقيب عن الآثار التابعة للمتحف البريطاني، بالتعاون مع المديرية العامة للآثار في لبنان، على قطعة أثرية فريدة في صيدا، في موقع حفرية الـ«فرير» في المدينة، التابع لمكتب المديرية.والاكتشاف الجديد هو عبارة عن تمثال لكاهن، طوله 115 سنتيمتراً، يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد.
وتؤكد رئيسة بعثة المتحف البريطاني الدكتورة كلود ضومط سرحال أنه «لم يعثر في لبنان على نموذج أو مكتشف اثري مماثل لما اكتشفناه منذ بداية ستينيات القرن الماضي»، مشيرة إلى أنه «ليس هناك سوى ثلاثة نماذج أخرى مماثلة مصدرها صيدا وأم العمد وصور، وهي موجودة في متحف بيروت الوطني».
والتمثال هو لرجل يقف وظهره إلى عمود طويل، مرتدياً إزاراً ذا ثنيات (شينتي) يتدلى من وسطه حزام ضيق يمتد من الخصر إلى الحاشية، وينتهي بنقش لثعبانين متضادين (اورائي). أما ذراعه اليسرى فتتدلى على طول جسمه، وتنتهي بقبضة تمسك بجسم اسطواني، يرجح أن تكون لفيفة ورقية أو منديلاً. وهذه التفاصيل المستوحاة من الفن المصري يمكن رؤيتها في تماثيل معروضة في المعابد الفينيقية في قبرص، كجزء من إطار ديني فينيقي أوسع.
وتشير سرحال إلى أن «عمليات التنقيب هذه السنة جرى توسيعها وتمديدها بشكل استثنائي لفترة ستة أشهر، وكانت قد بدأت في كانون الثاني هذا العام وستستمر حتى آب المقبل تحضيراً لانطلاق ورشة بناء المتحف في صيدا في الموقع، عينة من قبل الشركة العربية للأعمال المدنية».
لكن قصة التمثال لم تنته هنا، وفق ما تشير سرحال، فبعد إهماله في القرن الثاني بعد الميلاد، أعاد الرومان استخدامه ووضعوه تحت سقيفة رخامية جميلة ليقفلوا به مصرفاً مائياً ثنائي الجدار. وهكذا عثر عليه المنقبون مقلوباً على وجهه. وإضافة إلى ذلك، تظهر مجموعات مختلفة من صفين متوازيين من خمسة ثقوب محفورة في حجر الرملة، ما يشير إلى أن الرومان استخدموا أيضاً ظهر التمثال في لعبة «المنقلة»، وهي كلمة مأخوذة من الكلمة العربية «نقل»، كما عثر على رمز الإله «تانيت»، وهو إله فينيقي معروف أكثر في ما كان يعرف قديماً بـ«فينيقيا الغربية»، أي تونس وقرطاج منذ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد.
يذكر أن عمليات التنقيب هذه السنة شملت اكتشافات مهمة أخرى، من بينها ثلاث غرف إضافية في مبنى عام من الألفية الثالثة قبل الميلاد، كان يُعتقد انه يضم عشر غرف فقط. كما تم استخراج أكوام عدة من باطن ارض الموقع من المحاصيل المحفوظة إلى حد ما، بالإضافة إلى العثور على مخزون من مئتي كيلوغرام من قمح بري مشوي يدعى «اينكورن» (كلمة ألمانية تعني «وحيد الحبة») في غرفة للمؤونة مبنية من الطين. ويتوافق هذا مع اكتشافات سابقة لمخزونات كبيرة أخرى من القمح المدجن مثل قمح «ايمر» (اي «ثنائي الحبة»)، والشعير المشوي.
وهناك اكتشاف مهم آخر هو البقول المفضل في صيدا، أي الفول الذي عثر على 160 كيلوغراماً منه. لكن حبوبه كانت أصغر بشكل لافت من الفول في أيامنا هذه، (مما يدل على أن طبق صحن الفول الشعبي المحبب عند الصيداويين هو طبق متوارث عبر التاريخ، وليس مستجداً في المأدبة الصيداوية). وعثر المنقبون أيضاً على رفات 20 بالغاً وطفلاً دفنوا في قبور مبنية، وعلى جرار دفن فيها أطفال تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة، كانت طقوس الدفن تشكل نشاطاً اجتماعياً مهماً وتشمل توزيع الطعام والأكل، إلى جانب المدفن، تكريماً للميت.
وبالعودة إلى متحف صيدا الوطني، فقد أعلنت سرحال أن متحف صيدا سيكون «الأول من نوعه في الشرق الأوسط، ومن دون شك فإن هذه القطعة الأثرية النادرة التي اكتشفت بالأمس، ستحتل مكاناً محورياً في المتحف الصيداوي، الذي سيستضيف أيضاً ما يزيد عن 1200 قطعة أثرية في طبقته الأولى»، مضيفة أن «ذلك سيسمح للزوار بالنزول إلى الموقع نفسه للتمتع بمشاهدة الأطلال، وان يروا بأنفسهم كيف حفظت التنقيبات تحت المتحف».
وتشير سرحال إلى أن «هذه الرحلة الرائعة عبر الزمن ستغطي ضمن أروقة المتحف نحو خمسة آلاف سنة من الاكتشافات تبدأ من نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد وتنتهي بصيدا القرون الوسطى»، معتبرة أن إمكانية بدء مشروع المتحف وتمديد عمليات التنقيب حصلت بفضل هبة «الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية»، كما أن «شركة الاسمنت الوطنية - ترابة السبع» و«مؤسسة الحريري» تموّلان عمل بعثة فريق علماء الآثار الأساسي، الذي ضم جهوده إلى الفريق الأوسع.