حينما تكون "السرقة" هي التهمة المتبادلة على المنابر، يمكن للخيال تخمين أي معارك تدور في الغرف المغلقة. في ظروف كهذه، لم يستطع المفوض الأوروبي للطاقة غونتر أوتنغر
وسيم ابراهيم
حينما تكون "السرقة" هي التهمة المتبادلة على المنابر، يمكن للخيال تخمين أي معارك تدور في الغرف المغلقة. في ظروف كهذه، لم يستطع المفوض الأوروبي للطاقة غونتر أوتنغر، تطمين الخائفين إلا بهذه العبارة: "لقد تلقينا تعهدات من روسيا بأن إمدادات الغاز لن تنقطع ما دامت المباحثات مستمرة". جاء ذلك بعد أول مباحثات ثلاثية، بين الأوروبيين وروسيا وأوكرانيا بداية الشهر، لحل أزمة ديون الأخيرة المتراكمة إلى موسكو.
اليوم، في بروكسل، يعود أوتنغر ليشارك في مؤتمر خاص عنوانه "نحو استراتيجية أوروبية لأمن الطاقة". الهدف هو ذاته الذي يكرّره الأوروبيون، منذ تصاعد الأزمة الأوكرانية: تقليل التبعية للغاز الروسي. لكن الارتهان لا يتوقف على الصادرات المباشرة، بل على مشاكل بلد العبور الأهم، أوكرانيا.
لم تعد المخاوف مجردة، بل صارت واقعاً حددته روسيا بأرقام وتواريخ. جاء ذلك أبكر من المنتظر، ورغم أنها أيام، لكنها عكست نفاد صبر الكرملين تجاه عدم مبالاة كييف.
بعد الاجتماع الثلاثي في وارسو، أعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، أنه بحلول 16 أيار الجاري، سيتم الانتقال إلى نظام "الدفع المسبق". وقال إن تفادي ذلك ممكن إذا دفعت كييف ديونها المتراكمة. بيد أن موسكو خرجت عن طورها، وأعلنت أن نظام "ادفع ثم استلم" سيطبق في 13 من الجاري.
ثمة ما جعل رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف، يكسر موعد وزيره. فقبل أيام فقط كانت الحكومة الأوكرانية قد استلمت 3,2 مليارات دولار، كأول دفعة من قرض صندوق النقد الدولي بحجم 17 مليار دولار. لم توجه قيادة كييف ولا دولاراً واحداً لتسديد الدين الروسي، وأعلنت أن الأموال ستذهب لدعم احتياطات الدولة ودفع رواتب ومصاريف أخرى.
بدورهم، حاول الأوروبيون تجاهل حركة التنبيه الروسية الصارمة، لكن خلف الكواليس كان القلق كما لم يكن سابقاً. ديون أوكرانية صارت مشكلة أوروبية أيضاً. فبسبب شبكة النقل المعقدة، سيؤثر انقطاع الغاز عن أوكرانيا على واردات الغاز الأوروبية التي تأتي عبر أراضيها. حوالي 50 في المئة من صادرات الغاز الروسي إلى السوق الأوروبية تمر بأراضي الجارة المُستنكفة عن دفع الفواتير. هذا مُثبّت في العقود، فمسؤولية ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا يتحملها الجانب الأوكراني.
أما الشركة المسؤولة فهي "نفطوغاز" الأوكرانية، وتملك مجموعة من أكبر منشآت العالم للتخزين تحت الأرض. نسبة امتلاء هذه الخزانات مهمة للحفاظ على تدفق الغاز، والأوروبيون الآن عينهم على الشتاء المقبل. هذه الهواجس يؤكدها مسؤول أوروبي يعمل على ملف الطاقة. في حديث مع "السفير"، قائلاً: "لا أريد إظهار مخاوف مبالغ فيها، لكن ما يُضخّ في الخزانات مهم الآن لتأمين حاجات الشتاء المقبل".
وفي إشارة إلى المشاكل المباشرة، لفت إلى أن "عدم وجود مخزون كاف لدى أوكرانيا سيسبب بعض المشاكل، خصوصاً للدول التي تعتمد كثيراً على الواردات الروسية". ما الحل إذاً؟ يأتي الرد: "لا حل سوى إيجاد تسوية للخلافات قبل نهاية الشهر. علينا تجنب أي انقطاع في بداية حزيران كما هددت روسيا".
في الإجمال، تعتمد ست دول أوروبية اعتماداً شبه كامل على الواردات الروسية؛ منها دول البلطيق الثلاث، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، ومثلها بلغاريا وفنلندا والسويد. إضافة لذلك، يشكل الغاز الروسي حوالي ثلث استهلاك السوق الأوروبية.
من ناحيتها، تضع عملاق الغاز الروسي "غازبروم" نقاط هذه التبعية على حروف إحصاءاتها. فقد استهلكت دول الاتحاد في العام 2013 حوالى 541 مليار متر مكعب من الغاز، ومنها نحو 161 مليار متر مكعب من روسيا. نصف هذه الكمية (تقريباً 80 مليار متر مكعب) تمر عبر شبكة أنابيب الأراضي الأوكرانية. لإنجاز عملية "الترانزيت"، لدى شركة "نفطوغاز" الأوكرانية 13 منشأة تخزين تحت الأرض، سعتها القصوى حوالي 32 مليار متر مكعب.
بالطبع، الحكومة الأوكرانية وحدها تعرف ما هو موجود بدقة في هذه الخزانات. هناك ما تستورده أوكرانيا لاستهلاكها المحلي، والشبكة نفسها تنقل استهلاك أوروبا وتضخّ إلى مستوعبات التخزين الضخمة. القضية لم تكن خارج الشكوك، وسبق أن أُرسل فريق تفتيش، بعد شكاوى روسية، للتدقيق في ما تم تخزينه وما تم استهلاكه.
المسألة تعود الآن، فأخيراً أشارت الشركة الروسية إلى تبدلات مفاجئة في تدفق الغاز العابر من أوكرانيا إلى أوروبا الغربية.
هذه الاتهامات كان يتم تجاهلها، لكن الأوروبيين الموضوعين في الزاوية اضطروا إلى أخذها بالحساب.
مفوض الطاقة الأوروبي التقى أمس الأول في برلين وزير الطاقة الروسي، وأعلن أن اجتماعاً ثلاثياً سيُعقد الاثنين المقبل. إضافة إلى مشكلة الديون، قال أوتنغر إن برنامج عمل الاجتماع يشمل بحث "طرق لزيادة الشفافية والموثوقية في تخزين الغاز وتدفقه".
المواقف متباعدة، وفوق ذلك العناد على أشده. الاتهامات المواربة بالسرقة تقابلها كييف باتهامات صريحة. فرئيس حكومتها، أرسيني ياتسينيوك، قال الأسبوع الماضي في بروكسل: "لن ندفع" فواتير روسيا.
حاجج ياتسينيوك بأن موسكو ضاعفت تقريباً سعر الغاز، إلى 486 من 268 دولارا للألف متر مكعب. موسكو تقول إنه السعر في العقود الأصلية، وإن السعر المُخفض هو امتياز أُلغي.
قال ياتسينيوك إن روسيا "سرقت أرضنا، سرقت القرم، هذا يعادل عشرات ومئات مليارات الدولارات، إضافة إلى شركة النفط الوطنية هناك".
لكل هذا يبحث الأوروبيون عن أمن الطاقة، لكن المسألة ليست سهلة. سيحضر مؤتمر اليوم ضيف مهم، هو رئيس وزراء بولندا دونالد توسك، الذي خرج أخيراً بمبادرة لإقامة "اتحاد أوروبي للطاقة". لكن الأوروبيين تجنبوا إطلاق هذه التسمية على المؤتمر، تحاشياً لإغضاب شركات الطاقة الأوروبية، خصوصاً في بريطانيا. اتحاد كهذا سيعني توحيداً لسياسات الطاقة، التي يحددها كل بلد الآن. لكن شركة "بي بي" البريطانية، وهي من أهم لاعبي السوق، قالت في الفترة الأخيرة إنها تفضل بقاء الوضع على حاله.
روسيا أيضاً تبحث عن أمنها. كان الأوروبيون يردون على منتقديهم بأن موسكو أيضاً مرتهنة لهم كزبائن، وأن نصف خزانتها تأتي من مبيعات الطاقة. لكن الاتفاق لتوريد الغاز الروسي إلى الصين صار جاهزاً، ويتضمن تصدير 38 مليار متر مكعب، تشكل ربع استهلاك الصين السنوي.
هذه السوق فرصة واعدة لاحتراز روسيا من السوق الأوروبية. بكين تخطط لزيادة اعتمادها على استهلاك الغاز، لتستبدل الفحم الذي فاقم مشكلة التلوث، إذ وصل 400 مليار متر مكعب في 2020.
في هذا الوقت، ستستفيد كييف من ورقة القلق الأوروبية على تدفق الصادرات، وسيحاول الأوروبيون أقصى جهدهم لإيجاد تسوية مع روسيا. لكن الأخيرة سبق وقطعت الغاز في 2006 و2009، وليس بسبب أزمة عاصفة، بل لخلاف على السعر وشروط التوريد.
لكن الخبر الجيد، ربما، أن هذا ملف التبعية المتبادل، نسبياً، يكبح حتى الآن التمادي في التصعيد من الجانبين. الملاجئ ليست جاهزة بعد لاستفزاز حرب اقتصادية، ما لم تكن الخيار الأخير.
http://assafir.com/Article/5/351504
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه