بعد إثنين وثلاثين عاماً على حكاية هذا المواطن اللبناني الجنوبي، حكاية من عالمٍ آخر يعيشه العرب في ساحات "ربيعهم"
أمين أبوراشد
يطيب على أبواب عيد المقاومة والتحرير في الخامس والعشرين من أيار/مايو، أن نستذكر شيئاً من البدايات، مع حكاية ذلك المواطن اللبناني الجنوبي الذي هرول خلال اجتياح العام 82، ووقف بوجه جرافة إسرائيلية تقتلع أشجار بستانه المحاذية لطريق، فنهره ضابط إسرائيلي قائلاً: نحن نؤمِّن هذه الطريق لقواتنا من المشاة، وقد يختبىء مسلحون أو تُوضع ألغام بين هذه الأشجار، فأجابه المواطن الجنوبي: "هذا يعني أنكم جُبناء"، فقال الضابط : لا، ولكن دماء "جيش الدفاع الإسرائيلي" غالية علينا.
قد تكون هذه الحكاية وسواها من التجارب الطويلة الطويلة مع العدو الإسرائيلي، الذي لا يجرؤ على دخول أرضٍ قبل أن يجعلها محروقة، أنها كانت الحروف الأولى التي أسَّست لاحقاً لأبجدية العمليات النوعية للمقاومة، بإيذاء العدو عبر جنوده ومجتمعاته التي اعتادت الأمان، وطُبِّقت في حرب التحرير عام 2000 وردع عدوان تموز عام 2006، وبات صَهرُ فولاذ الدبابات والمدرعات الإسرائيلية مع أشلاء المعتدين في "وادي الحُجير" يترافق مع الرسائل الصاروخية الموجعة، وتناغمت تكتيكات المقاومة مجتمعةً، بِنَقلِ الحرب الى الداخل الإسرائيلي، وغارة تُقابلها باقة من الصواريخ، ومدينة مقابل مدينة ومرفق عام يقابله مرفقٌ عام، تماماً كما "قِسمة الحقّ"، وأُنزِلَ المدنيون الإسرائيليون الى ملاجىء باتت مسكنهم مع وزرائهم ونوابهم، وباتت الحياة اليومية للإسرائيلين جحيماً، وبدأت هجرتهم المرتدّة الى أوروبا وأميركا والتي بلغت منذ العام 2000 وحتى نهاية العام 2012 ما يفوق 600 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل بتذكرة ذهاب دون عودة، وبات على إسرائيل أن تعيش الهلع وأن تُجري مناورات دفاعية بالإشتراك مع أميركا كما يحصل منذ أيام تحسُّباً لهجمات صاروخية من "محور الشرّ".
بعد إثنين وثلاثين عاماً على حكاية هذا المواطن اللبناني الجنوبي، حكاية من عالمٍ آخر يعيشه العرب في ساحات "ربيعهم"، ووردت على لسان مواطنٍ سوري عائد الى أهله من صفوف ما يُسمِّى بـ "الجيش الحرّ" منذ نحو ثلاثة أشهر، وقال في معرض سرده للصدمات خلال رحلته "الجهادية": وجدت نفسي بين جماعات غالبيتها غير سورية، ولم أعمل أبداً تحت أمرة ضابط سوري بل كنا دائماً تحت أمرة "أمراء" غير سوريين، يتحدثون إلينا عن الجهاد، ويُصدرون فتاوى لا نفهمها ولا قرأناها في كتابنا ولا اعتدنا سماعها من أئمّة المساجد في قرانا وأحيائنا، وعندما سألناهم عن توقيت الجهاد نحو فلسطين كان الجواب: الجهاد نحو القدس ما زال غير مقروء بالنسبة لنا حتى الآن!
أردنا سرد الحكايتين، ليس للمقارنة بين الفِكرِ المقاوِم الشريف، وبين الكُفرِ الذي تحمله كُثبان "الربيع العربي"، بل لنرصد من على تلال "مارون الراس" الشامخة، لقطاتٍ من ثورات الرؤية القاصرة، والبوصلة الخاطئة، والإنتفاضات التي لا ترى العدو الرابض على الأرض والمقدسات، والثورات التي تفتقد القائد الواحد والأهداف المحدّّدة، لشعوبٍ عربية تنتحر منذ ثلاث سنوات ونصف على مذبح الصراعات الغوغائية في مشروع إنشاء "الإسرائيليات المذهبية" خدمة لـمشاريع أميركا والغرب وضماناً لأمن "دولة إسرائيل"، وسط دفقٍ من المليارات الخليجية والتسهيلات العثمانية والمؤامرات العربية، ووسط التحريض المذهبي المقيت والفتاوى الداعية الى الجهاد وتكفير الأخ في الوطن، وهدر الدم والنحر والتشريد والتدمير، وانتهاك حرمة المساجد والكنائس والأضرحة وهتك الأعراض تحت مسمّيات لا تمتُّ للدين والقِيَم بِصِلة.
ولأن بداية ما يُسمَّى بالربيع العربي كانت من تونس، نَقِف على توصيف أحد علمائها لما حصل هناك وماذا جَنَت تونس وليبيا واليمن من ثمار ربيعها حيث قال: "الإسلام السياسي" تعبيرٌ خاطىء، وشكَّل "فوبيا" للشعوب العربية، لأن الدين أسمى من أن ننحدر به الى نزاعاتنا الدنيوية، وليس هناك إسلام سياسي بل سياسة إسلامية تنطلق من الشرع وكتاب الله وتنسحب على الحياة اليومية في تسيير الأمور بما يُرضي الله، لكن كل ما فعلناه في ثورات بلداننا التي تستمدُّ دساتيرها أصلاً من الشريعة الإسلامية، أننا زرعنا الخوف في الناس من دينهم، واستوردنا التكفير لنتصارع معه على أرضنا!"
الى ليبيا، التي قضت على ظُلم سفّاح لتستبدله بثقافة السفح على امتداد صحرائها المترامية، نَقِف عند مفتي "الربيع العربي" يوسف القرضاوي عندما قال كلمته المُشينة: لو النبي محمد (عليه السلام) على قيد الحياة لَتَحَالَف مع "الناتو"! فكان للقرضاوي ما أراد، وباتت ليبيا مسرحاً للدمى التي يتلاعب بها الغرب وأميركا و"الناتو"، وغَدَت بؤرة لتصدير الإرهاب والسلاح الى محيطيها العربي والإفريقي وصولاً الى أبواب أوروبا عبر المتوسط.
الى اليمن، بلد الستين مليون بندقية، والشعب الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة ولا يمتهن سوى مضغ "القات" في نهاراته ولياليه، وأقصى ما يمكن تحقيقه في هذا البلد الذي صنعت "الوهَّابية التكفيرية" ربيعه، أن تتقاسم العشائر مائدته الفارغة من القوت اليومي، الى العراق الذي لم يكفِه ما عانى خلال أكثر من عقد، من القتل والتشريد والتدمير خلال الغزو الأميركي عبر صحارى وأجواء ومياه بلدان الخليج، التي رقص ملوكها وأمراؤها بالسيوف للفاتح الأميركي على بقايا الكرامة، لِنَقِف أيضاً مع فتاوى الشيخ القرضاوي العابرة للحدود ودعواته لنُصرة أهل السنة وذبح الشيعة، ولنقول أن الشعب العراقي ردَّ على القرضاوي في صناديق الإقتراع التي ظهرت نتائجها منذ أيام.
نتوقَّف عند مصر، التي نفضت عنها أخطر ظاهرة تتمثّل بـ"جماعة الأخوان"، هذه الجماعة التي نشأت بالأساس عام 1928 كردَّة فعلٍ لإنهيار أمبراطورية بني عثمان، ومع الأمل في أن سحق رأس الأفعى في مهدها سيكون البداية لنهاية مدارس التكفير، وأن تعود مصر الى عروبتها وقوميتها ودورها الطليعي الذي بدأت بشائره من خلال المواقف الرصينة للقيادة المصرية القادمة، في تقييمها للحرب الكونية القائمة على سوريا، عبر أكثر من ألفي فصيل مسلَّح أمعنوا على مدى ثلاث سنوات بارتكاب كل الموبقات بحق البشر والحجر والحضارة والتاريخ، لأن حجم الحرب على سوريا جاء بحجم وزنها ودورها الممانع والمقاوم للعدو الإسرائيلي والداعم للمقاومة الشريفة.
ختاماً، إذا كان العرب لم يقرأوا إحدى الوثائق التي تسرَّبت من الغرف السوداء في واشنطن، "إن العرب قد جمعتهم الأرض فلتفرِّقهم السماء"، فهنيئاً للعرب إسرائيلياتهم المذهبية خدمة للمشروع الأميركي وعروش الخليج العائلية وأحلام السلطنة العثمانية، وهنيئاً لنا نحن اللبنانيين بكافة أطيافنا ما قاله الناشط المُناضل جورج غالاويه : "إن ما أنجزته المقاومة عامي 2000 و 2006، قصَّة تستحقُّ أن تُكتب على النجوم وعلى العرب قراءة هذه القصَّة" ...
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه