وضع السيد نصرالله العرب، وللمرة الأولى منذ النكبة، أمام رؤية ثورية عربية محلية أصيلة وخالية من تأثيرات «التنوير الكولونيالي» الذي شوه الخيال المعادي للاستعمار للجيل الأول من الثوار العرب
«مساراتنا نحو المستقبل لم ترسم بعد، فهي لم تُكتشف بعد ومسؤولية اكتشافها تقع على عاتقنا نحن فقط».. «نحن بحاجة إلى أن نتحلى بالصبر لتولي المهمة من جديد، بحاجة للقوة لإعادة بناء ما تم هدمه، بحاجة للقوة للإبداع بدل الاتباع، بحاجة للقوة لاكتشاف مسارنا الجديد وتخليصه من كل الأشكال الجاهزة والمتحجرة التي تعرقله» ..(ايمي سيزير، «رسالة إلى موريس ثوريز»)
سيف دعنا/ جريدة الأخبار
ما بين الحربين العالميتين، وما بعد الثانية بقليل، جاء غاندي وماو تسي تونغ وهوشي منه وجمال عبدالناصر ومبشرو القوميات العالمثالية ومعهم وفي أعقابهم، تفجرت الثورات المعادية للاستعمار. ومعهم أيضاً، بدأت تتشكل روايات جديدة للتاريخ القومي والعالمي أعادت سرد الماضي بطريقة غير مسبوقة. ماض جديد بدأ يظهر للعالم وللشعوب والامم. ومعهم، وبعدهم أيضاً، لم يبدأ التاريخ الإنساني والقومي يبدو مختلفاً بشكل راديكالي عما بدا عليه قبلهم بقليل فقط، بل (وكما كتب ألفريد كروسبي في «الإمبريالية الإيكولوجية») معهم ومع ثورات شعوبهم الرائعة أصبح نقد ونقض، وحتى التهكم على مؤرخي المرحلة الفكتورية ليس سهلاً فقط، بل وتمرين ممتع كذلك.
في 1948، حدثت نكبة العرب في فلسطين، يقول فضل النقيب في «عاطفة المقاومة»، فكانت «كصاعقة، كانفجار، كزلزال، لم يكن أي شعبٍ عربي، أو أي حزبٍ عربي، أو أي فردٍ عربي قادراً على مواجهتها. ولقد نجم عن العجز العربي الكامل على مواجهة التحدي تمزق العلاقة بين الأزمنة الثلاثة في الحياة العربية. فمع قيام إسرائيل، تفكك «الماضي»، وتبعثر «الحاضر»، وغاب «المستقبل» في متاهات من القلق والخطر وعدم اليقين» (أعمال غسان كنفاني الكاملة، المجلد الخامس، ص:4). بعدها بأربع سنوات فقط، جاءنا عبدالناصر في 1952، وأطلقت ثورته العنان لحركة التحرر العربية، فبدت الإجابة العربية المثلى على النكبة حينها. للمرة الأولى بدت «أزمات الحاضر أحجار زاوية المستقبل»، كما ذكر إدوارد سعيد (تأملات في المنفى، ص: 48)، وأصبح إمكان تجاوز القطع الذي أحدثته النكبة بين تاريخ العرب ومستقبلهم وعودتهم إلى التاريخ ممكنة.
بعد ستة وستين عاماً، عاد سؤال الحاضر يؤرقنا مرة اخرى. فالماضي الثوري المعادي للاستعمار لا يُفَسِّرْ، بل وليس من المفترض في المقام الأول أن يقود الى حاضرنا المأساوي الذي يبدو مسدود الافق (كانت الثورات العربية فرصة، لحظة ناصرية جديدة يمكن لها أن تفتح آفاق المستقبل، لكن الثوار العرب هَمَّشوا فلسطين ففشلت ثوراتهم).
ورغم أن هذه النتيجة لا تنطبق على الحالة الفلسطينية فقط، بل ربما يمكن تعميمها على حاضر كل ما يسمى بـ«مجتمعات ما بعد الاستعمار»، التي خاضت ثورات استقلالية قادتها أيضاً حركات تحرر اعتُبر بعضها إلهاماً لمن بعده، فهذا لا ينفي ضرورة التساؤل: كيف انتهت الثورة الفلسطينية، التي كانت في وقت ما أحد أروع التجليات الثورية في تاريخ المنطقة الحديث، إلى التنسيق الأمني مع العدو وإلى حراسة المستعمر؟ هل نحن بحاجة، مرة اخرى، إلى إعادة كتابة التاريخ؟ وهل سيقودنا تمرين إعادة تركيب التاريخ وإعادة سردنا للماضي، وفق النتائج التي نراها اليوم وليس وفق الرغبات التي سادت حينها، لتفسير حاضرنا بالضرورة إلى الاستنتاج: أن الثورة الفلسطينية حملت بذور هزيمتها فيها منذ البداية؟ الأهم، هل يمكن أن يقودنا تمرين مثل هذا إلى أي مسار جديد يعيد أو يبث الحياة في حاضرنا وحتى يستولد فيه ومنه آفاقاً من الإمكانات التحويلية، تماماً كما فعلت الثورة الناصرية قبل أن ينقلب عليها السادات وأعوانه؟ وأخيراً، هل لدينا أصلاً الأدوات المعرفية واللغوية لمثل هذا التمرين؟ هذه محاولة تطرح أسئلة أساساً وتحاول أن تشير لقصور الخيال الثوري المعادي للاستعمار، الذي ألهم التجربة الفاشلة، والذي أظن أنه أحد بذور الهزيمة.
نكبة العرب: في المعنى مرة أخرى
هكذا حاول إدوارد سعيد في «النثر والنثر القصصي العربي بعد 1948» التدليل على جسامة حدث النكبة: «إن القول إن 1948 قد وضعت العرب أمام متطلبات ثقافية وتاريخية استثنائية هو ارتكاب لذنب التبخيس الشديد» (تأملات في المنفى، ص: 46).ومتطلبات «استثنائية» هنا لا تعني «غير عادية» بالنظر للتجربة العربية التاريخية فقط، أو حتى بالمعنى الإنساني الواسع نسبة إلى تجارب الأمم الأخرى. فالنكبة وضعت العرب جميعاً، ومن دون استثناء، أمام ثلاثة تحديات هائلة لم تواجهها مجتمعة أي أمة أخرى على الإطلاق.
التحدي الأول تمثل في ضرورة التصدي لحالة من القطع التاريخي العنيفة أحدثتها النكبة بين الماضي والمستقبل، خصوصاً أنها حدثت في مرحلة تاريخية حاسمة من تاريخ تشكل الجماعة العربية وتحول العرب لأمة. خطر النكبة الحقيقي هنا أنها «أظهرت صدعاً بين العرب وإمكانية استمرارهم التاريخي كشعب» (ص: 45)، كونها حدثت بالذات في مرحلة استقلال الشعوب المستعمرة، وفي أوج سعيها إلى تشكيل الأمم وبناء الدولة الحديثة. ولهذا كانت النكبة ولا تزال في أساس كل ما حدث لاحقاً من تشكل القطريات وصعود إيديولوجيات التفتيت وأيضاً الارتداد الذي نراه أحياناً لتشكيلات ما قبل حديثة ومتخلفة (كالطائفة والمذهب). طبعاً هذا الانقطاع التاريخي مرتبط بالضرورة بالتمزيق الجغرافي للوطن العربي وتحديداً فصل مصر وسوريا عبر استعمار فلسطين، وهو ما عبّر عنه وعن تبعاته بأشكال مختلفة العديد من المفكرين العرب من أنور عبدالملك إلى ياسين الحافظ. هل يفسر هذا، جزئياً على الأقل، فشل الانتفاضات العربية حين همشت فلسطين، وفشل الثورة الفلسطينية حين رفعت شعار الهوية الوطنية الفلسطينية وهمشت العروبة؟.
التحدي الثاني أنه كان على العرب في الوقت ذاته أيضاً مواجهة «واحدة من أكبر مشاكل الحضارة الغربية، التي لم تحل بعد، بوصفها مشكلتهم الخاصة بهم، والتي أخذت شكلاً مستفزاً بشكل خاص، وهي المسألة اليهودية» (46). والتحدي الثالث، المرتبط جدلياً ليس فقط بنتائج التحدي الأول ومحاولة التصدي له والإجابة عليه، بل وأيضاً في محاولة استيعاب التحدي الثاني كذلك، هو سؤال الحاضر السياسي (الذي هو برأيي من أهم التحديات الراهنة للعرب على الإطلاق وهو جوهر هذه المحاولة).
حسناً، هل توجد كلمة واحدة، أو مفهوم واحد في كل اللغة العربية، أو أي لغة اخرى، يمكنها أن تحمل في معناها حتى جزءاً صغيراً من كل هذه التحديات الهائلة التي واجهت العرب مع النكبة؟ فالنكبة بالمعنى الاصطلاحي كما نجده في المعاجم حتماً لا يكفي. والنكبة كمفهوم استخدم لتوصيف تجارب تاريخية سابقة محددة (نكبة البرامكة مثلاً) أيضاً قاصر جداً ولا يقترب في معناه من حدث 1948 بسبب الظروف التاريخية مكانياً وزمانياً.
لهذا، لم يكتب قسطنطين زريق «معنى النكبة» لأنّ المعاجم العربية خلت من تعريف اصطلاحي للكلمة بحد ذاتها، بل لأن كل تعريف كان قاصراً عن الإشارة إلى أسباب وطبيعة وتبعات الحدث الجسيم. فتجربة العرب التاريخية الطويلة التي أغنت لغتهم وشكلت الخلفية لمعاني وتعريفات كل كلماتها باستمرار وشكلت الأساس لخيالهم الجمعي، كانت قاصرة جداً برغم كل ذخيرتها وغناها عن إمكانية الإلمام، ولو من بعيد، بطبيعة وحجم الكارثة التي أصابت كل العرب في فلسطين في 1948 في مصطلح واحد. فما حصل لم يكن حدثاً تاريخياً انتهى مهما حاولنا وصفه بالفرادة والكارثية، أو حتى كصيرورة مستمرة حتى اليوم كما يعرف الجميع الآن، لأن النكبة مستمرة كحدث وفعل حتى اليوم فعلاً.
كان على زريق أن يعيد تعريف إحدى أقسى كلمات اللغة العربية جذرياً ليجعل منها دلالة لمعان متعددة ومختلفة، لا معنى واحد، وليطرح عبرها أسئلة أجاب عليها وأسئلة لا تزال حتى الآن بحاجة لإجابة لعلها تشير مجتمعة إلى جسامة الحدث وتؤسس «لخريطة طريق» حول كيفية التعاطي معه. فما حدث تجاوز الجغرافيا والحرب والهزيمة والاستعمار واللجوء والتطهير العرقي والسياسة. وبالتأكيد، ما حدث تجاوز فلسطين والفلسطينيين. كانت النكبة، ولا تزال، سؤال العرب الوجودي بامتياز، وسؤال إمكانية استمرارهم التاريخي كشعب وثقافة وتحولهم من أمة في طور عملية تاريخية من التشكل أصابتها حالة قطع عنيفة إلى أمة تدخل مسرح التاريخ. كانت النكبة ولا تزال سؤال الحاضر والمستقبل السياسي للعرب جميعاً. فليس الصراع وجودياً لأن بإمكان العصابات الصهيونية فعلاً القضاء على مئات الملايين من العرب، بل لأن الكيان الصهيوني لا يزال المعيق الأساسي لاكتمال مشروع تشكل الجماعة العربية والعقبة الاساسية في طريق استمرارها الثقافي.
سؤال الحاضر السياسي
هكذا ينهي «سي. ل. ر. جايمس» تصديره العبقري لما قد يكون واحداً من أكثر وأهم الكتب الثورية عبقرية على الإطلاق، «اليعاقبة السود» (و«اليعاقبة السود» كتب بالذات في عصر مقاومة الاستعمار، في عصر ساد فيه الفكر المعادي للاستعمار، كرواية لحوادث ثورة هاييتي (1791- 1804) بوحي الحرب الأهلية الإسبانية 1936):
«في هدوء ضاحية ساحلية (في اسبانيا) حيث كان يمكن بكل وضوح سماع ارتفاع صوت مدفعية فرانكو، وحركة فرق إطلاق النار الستالينية، والاضطرابات الحادة والشرسة للحركة الثورية الساعية من أجل الوضوح والتأثير كان هذا الكتاب. هذا هو عصرنا (عصر مقاومة والثورة على الاستعمار) وهذا الكتاب هو من ذلك العصر (كتاب ثوري معادٍ للاستعمار). هذا الكتاب هو تاريخ الثورة، ولو كتب في ظروف مختلفة كان يمكن أن يكون مختلفاً، ولكن ليس بالضرورة يمكن أن يكون أفضل».
هذه ربما تكون ليس فقط أكثر العبارات سحراً وعبقرية في كتاب جايمس، ولكنها تصل حد النبوءة أيضاً. صحيح أنّ الكتاب قدم تاريخ «ثوري معاد للكولونيالية» متميّز يجعل منه ذي فرادة خاصة. وصحيح أيضاً أنّ العبارة السالفة، كما الكتاب، متخمة بسخط متميز على الاستعمار وبروح تمرد وتحد مثلت الكتاب بمجمله. لكن العبارة الأخيرة في التصدير فريدة حد العبقرية لأنها، كما قال عنها «ديفيد سكوت» في «مجندو الحداثة: مأساة التنوير الكولونيالي»: «بكل وضوح، وبشكل ملموس ومباشر، ومن موقع الوعي بالذات تضع جايمس في المشهد الدرامي لكتابة التاريخ». لكن هذه الفقرة تبدو اليوم وبعد قراءتها في عصر «ما بعد الاستعمار» والمعنى الجديد الذي تكتسبه وكأنها تقبض بشكل عبقري على جوهر الظروف التي نعيشها في المنطقة العربية هذه الأيام. مرة اخرى، يقول جيمس: «هذا الكتاب هو تاريخ الثورة، ولو كتب في ظروف مختلفة كان يمكن أن يكون مختلفاً، ولكن ليس بالضرورة يمكن أن يكون أفضل».
كأن جايمس كان يعلم أنه لو كتب هذا الكتاب في ظروف غير ظروف كتابته، في ظروف غير ظروف الحالة الثورية المعادية للاستعمار التي كان يعيشها، لكان الكتاب فعلاً مختلفاً، فـ«اللحظة التاريخية للعالم» حينها (كما وصفها جايمس) وبما يميزها من السخط على الاستعمار وعنفه وعنصريته، تنتمي لجايمس أو لزمنه أو لـ«حاضره السياسي» بطريقة لا يمكن الزعم بأي شكل أنها تنتمي لنا ولحاضرنا السياسي اليوم – إلا إذا اعتبرنا طبعاً عشق كمال اللبواني للكيان الصهيوني ونظرياته الثورية العظيمة استكمالاً فذاً لأعمال فرانز فانون وتشي غيفارا (الكتاب نشر في عام 1938). فاللحظة التي كتب فيها جايمس هذا الكتاب الفذ، أو «الحاضر السياسي» الذي شكّل وأثر فيما كتبه هي لحظة ثورات سياسية واجتماعية وفكرية شكلتها الحرب الأهلية الإسبانية، محاكم موسكو (محاكم ستالين لخصومه)، والأهم، صعود الحركات الثورية المعادية للاستعمار. ما يميز هذا الحاضر أو أهمية ما سماه «الحاضر السياسي» أنه بالضبط حدد لجايمس «مفاهيم وأدوات معرفية - سياسية وسياقاً مؤسسياً وتنظيمياً بديلاً من حاضره» (ديفيد سكوت: مجندو الحداثة). هذه المفاهيم والأدوات شكلت إلى حد كبير الرواية التي بين أيدينا عن واحدة من أعظم الثورات على الإطلاق (حتى لا نظل أسرى «عظمة» و«فرادة» الثورة الفرنسية).
أيضاً، والأهم في فكرة الحاضر السياسي (الحاضر الثوري بالنسبة إلى جايمس) بكل لغته وأدواته المعرفية وسياقه المؤسسي والتنظيمي أنه وفر له إمكانية تخيل مستقبل بديل وجعل من افق المستقبل يبدو مفتوحاً على خيارات تحررية عبر الصياغة المفهوماتية للحاضر. لكن ذلك الحاضر ليس حاضرنا نحن اليوم، ولا يمكننا أن نرى العالم من خلاله أو أن «نسكن فيه»، كما قال ديفيد سكوت. في الواقع، ما شكّل الحاضر لجايمس وكتابه حينها هو بالضبط الماضي الفعلي بالنسبة لنا. وعلى العكس من ذلك، ما شكّل المستقبل لجايمس حينها، ليس حاضرنا اليوم على الإطلاق – فحاضرنا ليس بالضرورة هو المستقبل السابق، أو هو بالضرورة غير ذلك المستقبل المتخيل سابقاً تماماً. هو في أحسن الأحوال مجرّد مستقبل ماض، أو بشكل أدق، هو مستقبل متخيل فقط في الماضي ومن موقع الماضي وبما يوفره ذلك الماضي من أدوات معرفية ولغوية. في أفضل الأحوال اليوم هو مجرد نوستالجيا لمستقبل ماضي.
بكلمات أخرى، ما شكّل معطيات وأدوات معرفية في حاضر جايمس أثرت في تركيب روايته لثورة هاييتي وبالتالي خياله للمستقبل لا يعدّ أفقاً وطموحاً في حاضرنا على الإطلاق. على العكس، فحاضر «ما بعد الاستعمار» السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نعيشه اليوم، والذي يبدو مسدود الافق تماماً غير منفصل عن التاريخ (أو حاضر جايمس) وأدواته المعرفية وبناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إن لم يكن نتاجاً له. هل يمكن أن نستنتج أن ذلك الحاضر السياسي (الماضي) وما وفره من أدوات معرفية حينها وسياقات تنظيمية وسياسية يتحمل جزءاً من المسؤولية عمّا وصلنا إليه وأنه، على الأقل، ساهم في رسم المسار الذي قادنا إلى هنا. ربما يكون هذا صحيح، تحديداً في التصورات التي انتجتها ظروف ذلك الماضي عن الحالة الاستعمارية وصياغتها النظرية.
لا يكفي إذن أن نعيد تركيب التاريخ من أجل تفسير الحاضر. فعلى اعتبار أن الماضي «الرومانسي الثوري» المعادي للاستعمار لا يفسر، بل ولا يجب أن يقود الى حاضرنا المأساوي، لا يبدو هذا كافياً، لأن هذا التمرين يفسر أفق الحاضر المأساوي المسدود فقط ولا يعمل، بل ولا يمكنه العمل على فتح أفق جديد. وظيفة الصياغة المفهوماتية للحاضر السياسي هي بالضبط فتح هذا الأفق المسدود.
لنعد إلى نبوءة جايمس التي أشرت اليها في البداية: «هذا الكتاب هو تاريخ الثورة، ولو كتب في ظروف مختلفة كان يمكن أن يكون مختلفاً، ولكن ليس بالضرورة يمكن أن يكون أفضل». يبدو أن جايمس عرف أنه في زمن آخر ستتم إعادة قراءة كتابه في حاضر آخر، وكأنها إعادة كتابة للحدث الثوري في هاييتي في ظروف حاضر آخر وبدافع من النتائج، لا الرغبات التي ألهمت الثوار حينها. هذا ما فعله «ديفيد سكوت» في «مجندو الاستعمار: مأساة التنوير الكولونيالي». «التنوير الكولونيالي» يبدو أحد المفاهيم التي قد تساعد على تخيل الماضي، تفسير الحاضر، وفتح آفاق مستقبلية.
نكبتنا وحاضرنا: من جايمس إلى كنفاني
«غزالٌ بَشَّرَ بِزِلزال». هكذا نعى محمود درويش الشهيد غسان كنفاني، ذلك النبي العربي الذي بَشَّرَ بالثورة الفلسطينية المعاصرة، «دقوا جدران الخزان»، والمبشر الفذ الذي تنبأ حتى بموته العنيف – «تقرأ مقال غسان الأخير، تغصّ، وأنت تشعر بشحنات الغضب في النشيج العصبي للمقال وهي تسري في نسيجك العصبي أنت، وتلوح أمامك صورة غسان كنفاني نفسه متقدماً باتجاه الموت. كأن غسان تنبأ، هنا، بأن الاستخبارات الإسرائيلية سوف تغتاله، بل يخيل إليك كما لو أن غسان كتب مقالته الغاضبة هذه بعد أن مزقت متفجرة الاستخبارات جسده» (محمد دكروب، فارس فارس، ص: 24).
وغسان، الذي لم يكن مسكوناً بشدة بتصوير الحاضر القادم من ماضي النكبة فقط، بل بفتح آفاق للمستقبل، «دقوا جدران الخزان»، كان نموذجاً لكاتب من نوع خاص اقتضت وجوده الحالة العربية الجديدة. فما بعد النكبة، وتحديداً ما بعد ثورة 1952 في مصر، التي ساهمت في التأسيس لنشوء حركات التحرر، «تفاقم دور الكاتب»، يقول إدوارد سعيد، وأصبحت الكتابة لدى «من يعتبر نفسه منخرطاً جدياً في واقع عصره «فعلاً تاريخياً، بل فعل مقاوم بعد 1967»، كما ردد إدوارد سعيد ما قاله الأديب المصري غالي شكري (تأملات في المنفى، ص: 48). ففيما شكلت النكبة سؤال العرب الوجودي وسؤال استمرارهم الثقافي بامتياز، أصبح على الكاتب العربي «إنتاج فكر ولغة يجسدان إرادة الدفاع عن ما هو مهدد بالانقراض في الحياة العربية» (ص: 48).
لهذا، فما فعله غسان شديد الصلة، وربما الأكثر صلة بين كل الكتاب الفلسطينيين من أبناء جيله، بما أسس له أصلاً ملهم حركة القوميين العرب، وصاحب «معنى النكبة»، قسطنطين زريق. فأهم ما في كتابي زريق عن النكبة فعلاً، غير تعريفه للحدث، أو بشكل أدق غير إعادة تعريفه الجذري للمصطلح بما يتناسب والحدث الجسيم في 1948، هو «إلقاؤه الضوء على مشكلة الحاضر، موقع المعاصرة الإشكالي، الذي يشغله العرب ويعملون على إعاقته. فما ينبغي على العرب القيام به بمعرفة ودراية هو خلق الحاضر، وهذه معركة لاستعادة الاستمرارية التاريخية، ورأب الصدع، والأهم إطلاق إمكانية تاريخية» (تأملات في المنفى، ص: 47).
لكن، مثل جايمس وثورة هاييتي، زمننا هذا، و«اللحظة التاريخية للعالم» التي نسكنها هي غير تلك التي سكنها كنفاني وزريق والرواد الأوائل وغير حاضرهم وما وفره من أدوات معرفية وتنظيمية ومؤسسية. لكن، على اعتبار أن المستقبل المتخيل عندهم (وهو حاضرنا الكارثي بالضرورة في الواقع) هو نتاج لطبيعة إدراكهم لحاضرهم كما توفر لهم حينها ولخيالهم المعادي للاستعمار، هل يمكن التساؤل: هل لهذا الإدراك للحاضر السابق (حاضر مواجهة الاستعمار) علاقة بما وصلنا إليه اليوم؟ فإذا كان همنا الأساسي هو في الإشكال المفاهيمي للحاضر السياسي (توصيف نظري للحاضر السياسي) وهو همهم حينها، وعلاقته بكل من رؤيتنا للتاريخ وتصوراتنا أو طموحاتنا المستقبلية، فعلينا بالضرورة البدء بالتساؤل. ليس في هذا التساؤل نقد لكنفاني ولا زريق على الإطلاق. هو فقط سؤال عن التجربة ومقدمة لإعادة التقويم وسأعود إليه قريباً.
خاتمة: يا أهل فلسطين اكسروا الصمت
لم يبدُ افق المستقبل العربي مسدوداً، ولم تبد «اللحظة التاريخية للعالم» للعرب، ومنذ النكبة، أكثر بؤساً وإظلاماً من ذلك اليوم المشؤوم من أيلول 1993 حين وقّعت «منظمة التحرير» صك التنازل عن فلسطين في واشنطن (وانا اصر على ما كتبته سابقاً هنا في «الأخبار» أنّ «منظمة التحرير الفلسطينية» ليست أكثر من سوء تسمية في أحسن الأحوال. فلا هي حقاً منظمة ولا تعمل من أجل التحرير، واترك لكم الحكم على فلسطينيتها، وهي تذكر فقط بما قاله فولتير عن «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» التي لم تكن «لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة»). كان عقد التسعينيات بالغ السوء حتى أن قسطنطين زريق لم يجد ما ينهي فيه كتابه «ما العمل» ويبقي على نوع من تفاؤل الإرادة أفضل من المقولة العربية: «اليأس إحدى الراحتين». كان مشهداً مقززاً أن ترى بعض مرتزقي جماعة «اوسلو» حينها يوزعون أغصان الزيتون على القتلة من جنود الاحتلال في شوارع الضفة وغزة. للمرة الاولى بدا أن هناك ما هو أسوء من نكبة 1948. يا لعبقرية «القيادة الفلسطينية».
لكن لم تمضِ سنوات سبع حتى كان انهيار الجيش الصهيوني تحت ضربات المقاومة العربية المتلاحقة في لبنان التي فتحت أفقاً جديداً آخر. ففي السادس والعشرين من أيار 2000 حين وقف السيد حسن نصرالله في بنت جبيل معلناً «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، ظهر أفق المستقبل مفتوحة على مصراعيها كما لم تبدُ من قبل أبداً. كانت تلك لحظة ناصرية بامتياز، فنهاية الكيان لم تبدُ قبلاً أكثر واقعية وأكثر إمكاناً وأكثر سهولة مما كانت عليه في ذلك اليوم من أيار. يومها، لم يخاطب السيد نصرالله العرب فقط، بل أعاد تعريف الحاضر وفتح لنا افقاً مستقبلياً جديداً: «الخزي والهزيمة والذل والعار من الماضي. هذا الانتصار يؤسّس لحقبة تاريخية جديدة ويقفل الباب على حقبة تاريخية ماضية. دعوا اليأس وتسلحوا بالأمل. دعوا الوهن جانباً واشحذوا الهمم والعزائم». بدأت حقبة تاريخية جديدة فعلاً بعد أيار 2000.
يومهاً أيضاً، وضع السيد نصرالله العرب، وللمرة الأولى منذ النكبة، أمام رؤية ثورية عربية محلية أصيلة وخالية من تأثيرات «التنوير الكولونيالي» الذي شوه الخيال المعادي للاستعمار للجيل الأول من الثوار العرب الذين ظنوا أنه يمكن لنا أن نرى مستقبلنا غداً في حال الغرب وحداثته اليوم. كان علينا أن نتعلم بالدم والألم أن كل حاضر يفتح أفقاً على المستقبل مُلهماً بأن حاضر الغرب فقط سيحمل بالضرورة بذور فشله فيه وينتهي إلى ما انتهينا إليه. كان علينا أن نتعلم بالتجربة ما حذّر منه بعض روّاد الفكر العربي، فأنور عبدالملك كان قد حذر من «أن الحضارة العربية - الإسلامية على الرغم من وقوعها فريسة الإمبريالية الاقتصادية والسياسية، إلا أنها في خطر أشد، على المدى الطويل، بما تبديه من قابلية للإمبريالية الثقافية، التي تتسم بخاصية أساسية وهي أن تفرض على العرب نوعاً من الإعاقة التي تهدف إلى الحيلولة دون قيام روابط مباشرة بينهم وبين آسيا وأفريقيا. وما لم تتمكن الثقافة العربية باستخدام جميع موارد خصوصيتها من الإسهام في صنع ذاتها، فسيكون الأمر كما لو أنها لم تكن» (تأملات في المنفى، ص: 48).
بدا الافق مفتوحاً كما لم يبدُ من قبل، وفي 14 تموز 2006 جاءت اللحظة الثانية للمقاومة لتؤكد أن الفعل الإنساني كفيل بتفجير سكون أي واقع وكفيل بأن يذكرنا بالطبيعة الجدلية للنكبة. «انظروا إليها تحترق»، قال السيد عن «البارجة ساعر». حينها لم يبد أنّ العرب يُجمعون على شيء كما أجمعوا على المقاومة، ليكون هذا الإجماع بالضبط هو نقيض التفكيك والإلغاء ونقيض النكبة ومفاعيلها.
قبل أيام قليلة، في 12 آذار 2014، كسر أبطال الجهاد الإسلامي الصمت من غزة، فكان الإعلان الأوضح أن افق المستقبل، رغم كل شيء، لا يزال مفتوحاً، وأن «مصيرك بيدك» دائماً، وأن المقاومة هي الحل.