ترك الراعي الشاشة مُحرجاً. انسحب لأنّه ليس في موقع إدانة أصلاً، كما قال، وهو يبعد عن عنقه شريط الميكروفون. «فيلفهم من يفهم، وليرفض من يرفض»، يصرخ الكاردينال متسلحاً بسطوته.
يبدو أنّ تشبّث البطريرك بشارة بطرس الراعي بقراره زيارة «إسرائيل»، لم يدفعه إلى صمّ أذنيه عن نصائح المعارضين للزيارة فقط. بلغ به الأمر حدّ رفض الأسئلة الصحافيّة. هكذا، لم يتقبّل تساؤلات الصحافي ميشال الكيك حول موقفه المثير للجدل، ضمن فقرة «حوار» على شاشة «فرانس 24»، وقرّر الانسحاب غاضباً من اتصال عبر الأقمار الصناعيّة، بين باريس وعمّان.
سناء الخوري/ جريدة السفير
لم تتخذ أسئلة الكيك نمطاً استفزازياً، لكنّ الراعي، المدجّج بـ«حصانة رأس الكنيسة»، رأى العكس. هل يعقل أن يكون بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق في موقع استجواب؟ حاشا وكلا. هو معصوم عن الخطأ، وبالتالي غير مضطر إلى تقديم أيّ تبرير لأفعاله أصلاً.
لم ترتقِ أسئلة الكيك إلى مستوى الإدانة، إذ إنّه لم يتجاوز حدود الواجب المهني، من خلال طرح تساؤلات، تختصر مكامن الجدل المثار حول الزيارة. سأل ضيفه: كيف تردّون على الانتقادات الواسعة لزيارة هي الأولى من نوعها منذ قيام دولة «إسرائيل»؟ لم يقم أيّ من أسلافكم بزيارة مماثلة، حتى البطريرك صفير، لماذا يكون الراعي استثناءً، ويتوجّه إلى القدس؟ كيف تردّون على من يخشى توظيف الزيارة في تحسين صورة «إسرائيل»، وتطبيع العلاقات معها؟ أيّ مواطن لبناني ممنوع عليه زيارة تلك الأماكن، تحت طائلة الملاحقة، فهل وضعكم كبطريرك يمنحكم حصانة دينيّة معيّنة؟ هل ستلتقون بضباط سابقين في ميليشيا «جيش لحد»؟.
لم يعتد الراعي على أسئلة مماثلة. في حواراته التلفزيونيّة القليلة، لا يكون إلا في موقع الناصح، والموجِّه. لم يعتد حواراً يزيح عنه هالة رجل الدين، رأس الكنيسة الصالح حكماً ودوماً. لم يعتد أسئلة لا تأتي من موقع الطاعة لأوامره، مهما كانت. كان من الطبيعي أن يضيق ذرعاً من المذيع اللجوج. راح يتنهّد تنهيدات الباحث عن مخرج بأيّ ثمن، رغم الابتسامة التي كانت تظهر على شفتيه ثمّ تبهت، خلال دقائق الحوار الثماني.
لم يستغلّ الراعي فرصة وجوده في منبر، يمكن من خلاله المحاججة، وربما شرح موقفه شرحاً قد يقنع شريحة واسعة ممن يجدون في زيارته خطوةً انتحاريّة. على العكس. بدا غير عابئ برأي أحد، فهو صاحب القرار، والقول الفصل. تحدّث من موقع السلطة الكنسيّة، التي تتيح له، بمنطقه، امتيازاتٍ، تجعله فوق المساءلة. قدّم حججه بنبرة الواعظ، المالك لمعارف يجهلها العموم. يكتفي الواعظ عادةً بتقديم إجابات عامّة، مبهمة، لا يجرؤ المؤمنون على تشريحها، أو ردّها.
يسند موقفه إلى سلطات ماورائيّة، إلى السينودوس المقدّس، معطياً لزيارته صفات دينيّة ورعويّة يلوكها المصفقون للزيارة منذ أسابيع. لم يفته تذكيرنا بـ«المعاملة الخاصّة» التي يحظى بها كرجل دين، تمنحه «إذناً خاصاً» من رئيسَي الجمهوريّة والحكومة، لتجاوز القانون، والتوجّه إلى أراضٍ محرّمة بفعل الاحتلال على اللبنانيين الآخرين، ممّن لا يحملون صفةً رعويّة أو دينيّة. ردّد «كفى»، و«لست هنا لأكون في جدال معك»، و«أنت لا تريد أن تفهم»، و«يكفي هذا الحديث»، جاراً المذيع إلى تقديم فريضة الاعتذار.
ترك الراعي الشاشة مُحرجاً. انسحب لأنّه ليس في موقع إدانة أصلاً، كما قال، وهو يبعد عن عنقه شريط الميكروفون. «فيلفهم من يفهم، وليرفض من يرفض»، يصرخ الكاردينال متسلحاً بسطوته. ربما يكون هربه من حوار تلفزيوني، إدانةً كافية له، وإثباتاً على أنّه لا يمكن لأحد، حتى لو كان «رأس الكنيسة»، تبرير ما لا يبرّر.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه.