من الأمكنة الأكثر سحراً، بحسب أحد المقاومين: "صافي". هناك كنا، لنسترجع اللحظة، ولحظات بقيت برسمهم، وعرفنا منها القليل
في أيار 2000، عاش جنوب لبنان ربيعه حقاً. تلك كانت اللحظة المشتهاة في كل طلقة على مدى أعوام طويلة من النضال ضد العدو الإسرائيلي، وتلك كانت بداية الإنتصارات في مخيلة الشهداء، وفي ذاكرة من بقوا ليصنعوا انتصار تموز 2006، ليستشهد بعضهم، وليبقى البعض الآخر ثواراً برسم ثورة اخرى على كل ظالم.
عقب ما يقارب ثمانية عشر عاماً من المقاومة المستمرة وصولاً إلى الحرية، بات النضال سمة كل شيء: الهواء،ورد المواسم الجميلة، التراب، والأمكنة التي من أكثرها سحراً، بحسب أحد المقاومين: "صافي". هناك كنا، لنسترجع اللحظة، ولحظات بقيت برسمهم، وعرفنا منها القليل.
جبل الثوار...
"عندما كنا نذهب إلى صافي، لم نكن نشعر فقط أننا نعطي هذا الجبل بل إننا نأخذ منه ايضاً، كنا نستمد القوة من صافي"، هكذا يحاول أحد قادة المقاومة في حزب الله شرح العلاقة التي تربطه وتربط عددا كبيرا من المقاومين بأحد أبرز معالم النضال ضد العدو الإسرائيلي، وأهمها عسكرياً بالنسبة لحزب الله.
في عين بوسوار، القريبة من صافي، التقينا المسؤول في حزب الله. قبل أن يتابع الأخير حديثه عن صافي، في اطار اجابته عن اسئلتنا الكثيرة، يؤكد أن للجبل ارتباط وثيق بالقرى المحيطة فيه، التي قاسمته لحظات البطولة والألم في آن واحد "فالقصف الذي تعرّضت له هذه المنطقة الجغرافية خلال عدواني 1993 و 1996، كان كبيراً نسبة لمناطق اخرى، حتى خلال عدوان تموز 2006، حيث ظهر العدو وكأنه يصفي حساباً طويلاً له مع هذه المنطقة". ومن خلال حديث المسؤول نفسه، تشعر وكأن عدوى الثورة والشموخ انتقلت إلى كل من تنشق هواء "صافي" حتى المسنين، حيث "وخلال عدوان عناقيد الغضب، قام مختار عين بوسوار ابو حسن كركي وهو رجل مسن، بإيصال الخبز بنفسه إلى أحد المواقع في صافي، لأنه كان على علم أن المقاومين محاصرين في تلك المواقع".
من هنا، يتابع المسؤول، في حديث لموقع المنار، شرح طبيعة العلاقة بين "جبل الثوار"، كما يحلو لكثيرين من أبناء المقاومة تسميته، وبين من اعتادوا التواجد فيه على مرّ السنوات قبل تحرير الجنوب من العدو الإسرائيلي في 25 أيار 2000، "هناك حالة تكامل بين هذا الجبل وهؤلاء المقاومين، أصبح هناك نوع من الترابط، هم يشدونه إليهم وهو يشدهم اليه، مما جعل المقاومين يستبسلون في الدفاع عن صافي، كان هناك حالة عشق مع تلك الأرض حتى أن المقاومين كانوا يقدمون أكثر مما هو مطلوب منهم".
أهمية صافي
منذ البداية، كان جبل صافي بالنسبة للعدو بمثابة نقطة استراتيجية، و"نقاطه تمثل مراكز اتكاء له"، يوضح المسؤول، وكان للمقاومة النظرة نفسها، نظراً لعدة عوامل أهمها "الجوانب التكتيكية التي استفادت منها المقاومة ككثافة الأشجار في صافي، صخوره الكبيرة، تضاريسه، وعورة ارضه، إضافة إلى العامل الأهم المتمثل بأن بعض تلال صافي من جهة الشمال تكشف أجزاء من العاصمة بيروت، ومن جهات اخرى تكشف مناطق في الأراضي المحتلة كعكا وبحيرة طبريا وايضاً جزء من الأردن، إضافة إلى عدد كبير من القرى الجنوبية". انطلاقاً من هذه الميزات "كان هدف المقاومة ولا زال الجهوزية التامة في كل نقاط صافي، لمنع العدو من التقدم في أي لحظة، واسترجاع هذه النقاط الإستراتيجية".
لكن منذ متى كان لحزب الله موطئ قدم في صافي؟ يعود المقاوم القديم بالذاكرة إلى عام 1984، وقتها "بات صافي معقلاً من معاقل المقاومة بشكل فعلي وأساسي، لكن أول موطئ قدم للمقاومة في ذلك الجبل كان عام 1983، تحديداً من خلال نقطة أربعة عشر ونصف، والتي كانت ترمي على سجد، وفي تلك النقطة كان يتواجد دائماً المقاوم الذي كان يسمى جواد الصافي (نسبة لكثرة تواجده في صافي والذي خسر بصره في أحدى العمليات ضد العدو)".
ينطلق المسؤول من وصية الشهيد عبد المجيد كركي للشهيد مصطفى كركي، وعنوانها "خذني إليك، خذني من التعب"، للقول إن "كل من كان يريد الخدمة في محور صافي خصوصاً في مرحلة ما قبل التحرير عام 2000، كان عليه تقديم تضحيات عالية جداً، حتى على مستوى الجهد البدني كان يجب أن يتمتع بقدرة عالية".
وعن أسماء وأصوات..
ففي تلك المرحلة، كان يتم نقل المياه في البداية بواسطة الغالونات وحتى وسائل الدفاع والهجوم، "لأن صافي لم يكن محوراً دفاعياً فقط، كان نقطة اساسية لجهة الهجوم وفي العمليات المتقدمة، حيث كانت تعبره دوريات باتجاه نقاط متقدمة في الشريط المحتل"، بحسب المسؤول، الذي يلفت إلى أنه قبل التحرير حاول العدو "التقدم في الجبل مرات عديدة، وكانت تحدث اشتباكات من جهة منطقة الرادار المفتوحة على منطقة جزين والتي كانت بحوزة العدو الإسرائيلي، لكن المقاومة بذلت الدماء لعدم السماح للعدو وآلياته بالتقدم".
من هنا يؤكد أحد قادة المقاومة أن العدو "قد ذاق لوعة تمركز المقاومة في جبل صافي"، ويروي لنا أنه "عندما كان يسمع على الأجهزة بعض الأسماء أو الأصوات في هذا المكان تحديداً كان يعلم أن هناك ما يُحضّر له في الأيام القليلة المقبلة، وقد أدركت المقاومة ذلك في وقت لاحق وبدأت تأخذ اجراءات احترازية".
وفي التفاصيل، يلفت المسؤول إلى أنه كان للجبل أدواراً مهمة وحساسة في أكثر من حدث، "ومنها ما يُسمى تقدم عقماتا، حيث كان هناك دشمة في جبل صافي وكانت مزودة بسلاح دوشكا، وعندما حدث التقدم من جهة عقماتا وعلم به المقاومون، عندها طلب من جواد صافي مع مقاوم آخر الصعود إلى تلك الدشمة تحت النار والقصف، حيث استخدم الدشمة والسلاح فيها مما كان له تأثير كبير في هذه العملية".
جولة في بعض أرجاء صافي: سحر المقاومة ورائحة الأحبة
"لا أحد يجول في صافي إلا ويشعر بعبق الشهادة"، كانت تلك الكلمات حاضرة جيداً في أذهاننا أثناء تجوالنا في بعض أنحاء صافي (حيث تعذر الوصول إلى بعض الأماكن لأسباب أمنية). هناك، بدت كلمات أحد المقاومين الذي رافقنا في الجولة أكثر واقعية "مجرد دخول أحد المقاومين إلى صافي، كان كفيلاً بأن يستمد نوعاً من العزة والعنفوان، هذه الأرض قد جبلت بدماء المجاهدين، من المستبعد وجود صخرة لم يسقط بقربها شهيد، أو شجرة لم يتكئ عليها مقاوم أو شهيد".
وعند الحديث عن طبيعة صافي الرائعة، يلفت المقاوم إلى أن الغيم الكثيف الذي كان يسيطر على الموقع، والذي تشتهر به طبيعة صافي، كان سبباً في كثير من الأحيان في قلب موازين المعركة، "العدو كانت له قدرة الطيران والرؤية، مجرد أن يطل الغيم كنا نحن نملك الأرض، قبل طلوع الغيم كان العدو يملك المبادرة ويفرض علينا أن نتحرك بحذر، وعند طلوعه كنا نستطيع إدخال المؤن والذخائر".
قرب ما يُسمى موقع الرادار وتلة الأميركان مررنا، حيث رأينا دشماً شهدت في السابق بطولات المقاومين، لكنه يصعب على المتجول رؤية تواجد عسكري واضح. يؤكد المسؤول في حزب الله أن صافي كموقع استراتيجي "هو جزء من استمرار تطور قدرات المقاومة على جميع الصعد من إعداد وتدريب وتأهيل، حيث انتقلت المقاومة بعد التحرير "من حالة الدشم وراء الصخور والخنادق المصنوعة من أغصان الأشجار وأكياس التراب، إلى المغاور أو الحفر تحت الأرض، والمعلن منها مغارة مليتا والتي سبق أن كانت نقطة اساسية في محور جبل صافي، ويوجد الكثير من النقاط الشبيهة بها في هذا المحور".
وفي صافي، تحديداً بعد أيار 2000، "تطور العمل باتجاه الأنفاق المجهزة، وتمّ تجهيز الطريق لدخول الآليات"، وكان "هاجس العدو الأكبر: ما الذي يحدث في صافي؟، فما كان لا يستطيع الحصول عليه من خلال طائرة الإستطلاع، كان يحاول معرفته من خلال العملاء"، بحسب المسؤول.
مونتاج: علي بغدادي
"كروز" في تموز.. وصافي سيرهبهم
خلال عدوان تموز 2006، تعرّضت القرى المحيطة بصافي ، تحديداً المنازل القريبة من محور صافي لاستهداف كبير من قبل العدو، "كأنه كان يصفي حسابات قديمة له مع هذا المكان"، وبحسب معلومات المسؤول في المقاومة "خلال تموز قام العدو بضرب صواريخ كروز على جبل صافي، ويُقال إنه قام بضربها من قبرص لحساسية هذه المنطقة، كنت هنا عندما استهدف صافي بالكروز، كانت صواريخ قوية جداً والصوت والإرتجاجات التي أحدثتها تفوق الوصف".
نسأل المسؤول في حزب الله عن دور صافي في أي معركة مقبلة مع العدو الإسرائيلي، يبتسم المسؤول، مؤكداً أنه لا يسمح لنفسه بالكشف عن ماهية هذا الدور "لأن ذلك يخدم العدو حالياً وليس المقاومة"، لكنه يشدد على أن "محور صافي حاضر وعلى اتمّ الجهوزية لأي مواجهة مقبلة". يستشهد المسؤول بالآية القرآنية "ترهبون عدو الله وعدوكم"، معلناً بثقة من أحدى تلال صافي: " ونحن سنرهبهم".
تصوير: وهب زين الدين
* صافي هو أحد جبال سلسلة جبال لبنان الغربية. وبحسب الباحث والمدقق في تاريخ جباع مصطفى كركي، فقد سُمي بجبل صافي نسبة لمقام العابد الذي كان في الجبل والذي كان يُسمى بصافينا بن كوش وقد ولد عام 620 ق.م. وفي حديث لموقع المنار، يقول كركي إن الأملاك العقارية التابعة لهذا المقام تقدر ب 1800 دلم، وأن علو الجبل عن سطح البحر يبلغ 1373م، وطول الجبل من زحلتا وحتى عين بوسوار يبلغ حوالي 6 كلم.
كما يضيف كركي أنه من الشمال يحدّ جبل صافي جبل طورا، والمعروفة في جباع باسم رويسات الدب، أما جنوباً فتمتد حدوده حتى حدود مليتا، وشرقاً يتقاطع جبل صافي مع مليخ واللويزة والرهبان. ويروي الباحث أنه "في ما مضى قام الإقطاع ببيع جبل صافي بلقتين من الدخان (اللقة 1250 غ) إلى دير مشموشة، ليتدخل أحد الأشخاص النافذين انذاك ويدعى يوسف بك الزين مع الشيخ محمد الحر ليستردوا الجبل، وذلك بعد قيام التظاهرات من أجل استرداده، ولكنهم لم يستردوه بالكامل، لتظل مزرعة الرهبان تابعة لدير مشموشة".