خمسون سنة ونحن نخاف عليها منا ومنهم، وها هي فجأة خضراء وحزينة، تفتح ذراعيها لنا وتنهمر دموع الأخوة والأحبة على طرفي اللقاء على اسلاك الحدود.
شيء ما كان خارج السرب.. خارج المنطق العام السائد في السياسة. في منطق العرب، وسياسة العرب، وفي منطق المصالح الإقليمية والدولية. شيء يخالف المتعارف عليه أن يكون مقبولاً، مرغوباً ومشروعاً. وهو ليس كذلك لانه يضع الامور في نصابها الصح، فالقدس أقرب من كابول، وأولى منها.
خليل حرب/ جريدة السفير
جيلك لم يعرف الهزيمة. «نكسة الـ67» لا تحسب من ايامنا. ومؤامرات حرب تشرين الـ73 لم تنغص على طفولتنا طعم الانتصار. وفي غزو الـ82، كنا بعنفوان المراهقين نبكي أمام شموخ بيروت واهلها والفدائيين. وكانت شرارات المقاومة تشتعل رويداً رويداً في كل نواحي لبنان. وكان الشيخ راغب يطلق طلقته الاولى: المصافحة اعتراف.
وكان الاحتلال بين بيوتنا، وكانت أبصارنا تشخص الى فلسطين. ولم يفهم المحتل كيف يمكن لشعب ان ينتفض بهذا الشكل في عاشوراء النبطية، وصور ومعركة والزرارية، وبأي منطق تصطف النسوة في مواجهة دبابة، وتعلو زغرداتهن في عرس سناء محيدلي وبلال فحص؟ ولماذا تصبح «السفير» سلاحاً ممنوعاً عن الجنوب، يهرّبها المحبون بين ملابسهم! وكيف يصبح الاعتصام المدني في جبشيت حدثا عالميا، شرارته ستفضح الاحتلال في اللحظة التي كان ذلك «المنطق» يقول، إن المحتل، كما هو متوقع ومرسوم، منتصر لا محالة.
وكنا نشتعل حباً مع انتفاضة الحجارة في فلسطين في الـ87. ونستردّ لناجي العلي روحه. وكان المقاومون يصعدون الى سجد والدبشة والشقيف وتومات نيحا.... وأياديهم الى عمق «الشريط»، تصل، وتفك ألغاز التحصينات والمدرعات وأسرار الخطط العسكرية.
ولم ينكسر جيلنا لا باغتيال «سيد المقاومة» في الـ92، ولا في عدوان الـ93. اما «عناقيد الغضب» في الـ96، فقد ازهر دمنا فيها، اعترافاً دولياً صريحاً بمشروعية المقاومة وبأسها. وكان خط المقاومة يتكامل وتشتد عزيمته، من طهران الى دمشق وبيروت وصولاً الى فلسطين. وكان عليك ان تصبر قليلاً، ليأتي العام 2000، وانت كما أنت، لم تذق طعم انكسار.
وتسلل الاحتلال خارجاً تحت جنح الظلام. وانت رحت تصعد للمرة الأولى في حياتك بمحاذاة ما كان شريطاً حدودياً محتلاً، من صور صعوداً الى بنت جبيل. كل هذا لي. كل قرية، كل شتلة وشجرة زيتون ورابية. والى يمينك، ها هي فلسطين تمتد امامك. ارضنا المحررة الآن الى يسارنا، لكن فلسطين الى اليمين، ونحن شاخصون بأبصارنا اليها.
انت إذاً خارج «المنطق»! لبنان هذا كان عائداً حتماً. لدينا يقين لا نعرف مصدره، لكنه عائد مهما كان الزمن سيطول. لم نكن نخشى غدر الزمن و«الاخوة» في الداخل والخارج. اتت الطعنات من كل حدب وصوب. لكننا كنا على ثقة بسواعدنا وعقلنا. كتلك العجوز التي دفنت سراً شهيداً قضى في حديقة منزلها بانتظار أن يأتي التحرير. فلسطين إذاً هي الحلم المشتهى. هي الوجهة الحتمية لانتصارنا. هي بوصلتنا ونحن على مرمى حجر منها، خمسون سنة ونحن نخاف عليها منا ومنهم، وها هي فجأة خضراء وحزينة، تفتح ذراعيها لنا وتنهمر دموع الأخوة والأحبة على طرفي اللقاء على اسلاك الحدود.
يقال إن زعيمين عربيين فقط، حافظ الاسد وعبد العزيز بوتفليقة، اتصلا للتهئنة. أين بقية اخوة يوسف؟! كم يهوذا الاسخريوطي بينهم؟ ولماذا حلّ هذا الوجوم على وجوههم؟! أي انتصارات لكم في جعبتكم ليكون تقهقر إسرائيل بالنسبة اليكم حدثاً اعتيادياً لتخفوه عن أحفادكم؟!>
ولم تتأخر فلسطين على هذه التحية في ايار. لاقت أحبتها في ايلول الذي تلاه، بانفجار الفرح في ربوعها. أشرف تحية لأشرف انتصار، ثم كان ما كان: 11 ايلول 2011 الذي أعاد تضييع البوصلة الى كابول! وفتح بكل عهر بلاد الرافدين أمام غزو الامبراطورية الجديدة. وصارت «المقاومة» متهمة بمذهبيتها لمحاصرتها، وتقييدها داخل السرب. وصارت فلسطين أكثر بعداً مرة اخرى. وضلّ «المجاهدون» عن طريقها مرة اخرى الى تورا بورا... وسوريا. انكسرنا ألماً لكننا لم نسقط. وما زلنا على قيد الأمل.