إن ذكرى المبعث النبوي الشريف فرصة لتجديد الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة، ولا سبيل لأمتنا إلا العودة إلى الهدي الإلهي إذا أرادت أن تلحق بركب الحضارة البشرية اليوم
مع حلول ذكرى المبعث النبوي الشريف نستحضر هذه النعمة الإلهية الكبرى، نعمة بعث الأنبياء لبني البشر بشكل عام، ونعمة بعث نبينا محمد رسولا للعالمين ونبيا لهذه الأمة على وجه خاص.
إن الإنسان لا يستغني عن الهدي الإلهي في طريقه وسعيه نحو التكامل والسعادة، إذ يحتاج إلى هداية الله وتوجيهه سبحانه وتعالى حتى يسير في طريق الكمال ويحقق السعادة لنفسه. ومع إن الله عز وجل منح الإنسان نعمة العقل حتى يستطيع عن طريقه تحقيق الكمال والوصول للسعادة، إلا إن عقل الإنسان يبقى محدودا ضمن محيط مدركاته وما يمتلك من المعرفة والعلم .
ويبقى شغف الإنسان قائما للتعرف على مبدأه ومصيره، كما انه في توق إلى معرفة سبب مجيئه إلى هذه الحياة، ومن أوجده وإلى أين مسيره وما مصيره؟ هذه التساؤلات تقلق الإنسان وتلح على عقله ونفسه ويحتاج إلى إجابة مطمئنة صحيحة. وربما لجأ بني البشر في أحيان كثيرة للأساطير والأوهام للحصول على تفسيرات لجوانب من حياتهم إلا انها عادة ما تشوّش عليهم فكرهم وأذهانهم فتحول دون وصولهم إلى الحقيقة. الإنسان ليس جسما فقط بل هو روح تحتاج الى منهج وبرنامج يملأ البعد المعنوي والروحي في حياته، فكيف له أن يضع هذا البرنامج؟ إلى جانب ذلك فإن الإنسان في حياته المادية والمعنوية يحتاج إلى نظام وقانون يضبط علاقته مع أبناء جنسه ومحيطه، فكيف يصل إلى هذا النظام الاجتماعي، والقانون الذي ينظم حياته؟
لا شك بأن التجارب الإنسانية قد توصل بني البشر إلى بعض الحقائق، ولكن اقتصار الإنسان على التجربة الحسية فقط قد يكلفه وقتا طويلا وجهدا كبيرا. لأجل كل ذلك فهو بحاجة إلى الهدي الإلهي. إن الله تعالى الذي خلق الإنسان بهذا الخلق المتميز "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، جعل من كمال لطفه ورحمته بهذا الإنسان أن يوفر له الهدي الذي يحتاجه في هذه الحياة فكان ذلك عن طريق الأنبياء والرسل.
فالأنبياء يحملون إلى الإنسان الهدي الإلهي. إن الله تعالى يختار من عباده من بني البشر من يبعثه برسالته حتى يدل الإنسان إلى طريق الكمال والسعادة، وقد كان لهؤلاء الأنبياء الذين بعثهم الله الدور الكبير في هداية الإنسان، ولعل هذه المكاسب التي ترونها في حياة البشرية ليست بعيدة عن دور وهدي الأنبياء. فقد أحيا الأنبياء برسالتهم وهديهم في الإنسان الجانب الروحي القيمي، وهدوا البشرية إلى الكثير من الحقائق التي أمكن للبشرية أن تستوعبها منهم.
إن وجود الأنبياء وبعثهم ضرورة من أجل كمال الإنسان وسعادته، ولهذا بعث الله هذا العدد الكبير من الرسل الذي بلغ 124 ألف نبي كما تشير بعض الروايات. كل هذا العدد الضخم من الأنبياء إنما جاء لهداية الإنسان وإسعاده، وقد شاء الله أن يختم النبوة بمن هو الأفضل والأكفأ والأقرب إليه وهو نبينا محمد ، لكي تكون رسالته وشريعته هي خاتمة الرسالات والشرائع، بالنظر لاستيعابها لغة الزمن وتقدم البشرية وتطورها، وهذا ما أثبته الواقع، فمع كل هذا التطور والتقدم الإنساني، نحن نرى بأن رسالة الإسلام ظلت غضة ومواكبة لحضارة الإنسان في كل زمان متى ما فهمت على النحو الصحيح.
حقيقة الأمر، ان هناك من قدم أفهاما عليلة وسقيمة ملؤها الجمود والانحراف والتشويه لرسالة الإسلام، أظهرت الإسلام على النقيض تماما، بل متصادم إلى حد بعيد مع التطور في واقع البشرية. ولكن هناك في مقابل ذلك من تجاوز ذلك، وفهم الإسلام على حقيقته ولذلك لا يجد هؤلاء أي تصادم أو تناقض بين الشريعة والتقدم الحضاري للبشرية، بل وجدوا في تعاليم هذا الدين استباقا للكثير من التطورات والحاجات التي تلح على الإنسان في حياته كلما تقدم به الزمن.
ولعل أحد أسرار بعث النبي الأكرم في مجتمع كان يعيش أدنى درجات الانحطاط، أن تظهر عظمة هذه الرسالة وتميز هذا الرسول. فلو جاء النبي في مجتمع له تاريخ من الحضارة والتقدم لسهل القول بأنه انطلق من تجربة مجتمعه واستفاد من تاريخ محيطه، ولكن أن يأتي هذا الرسول مجتمع يعيش أدنى درجات الجهل والانحطاط، ثم يعرض على البشرية هذه الرسالة العظيمة الرائعة في مختلف المجالات, حينها لا يبقى لأي عاقل مجال للشك في أن هذه الرسالة ليست إنتاجا بشريا, ولا تعبيرا عن مستوى ذاتي، لأن المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه النبي لا يسمح بأي حال من ألأحوال لشخص يعيش تلك الظروف أن يقدم مثل الرسالة وهذه الشريعة.
كل ذلك يدل على صدق رسالته ونبوته ، ولذلك يمن الله تعالى على المؤمنين: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم"، فلم يأتهم شخص يعيش تقدما وتطورا أكثر من الوضع الذي كانوا يعيشون فيه، وإنما من نفس ذلك المجتمع. لقد بعث هذا الرسول العظيم في مجتمع يعتقد بالخرافة ويعبد الأصنام ويسجد للأوثان، فقد كان في كل بيت من بيوت مكة صنم يعبده أهل ذلك البيت، بل كان في جوف الكعبة نفسها وعلى سطحها أكثر من 360 صنما يُعبدون من دون الله، وقد كان العربي آنذاك يستبق سفره بالتمسح بالأصنام تبركا والتماسا للخير، كما يفعل ذات الأمر إذا عاد من سفره. لقد كانت العصبية والنزاعات وحالات الاحتراب تسود في ذلك المجتمع ولأتفه الأسباب، كما جرى في حرب البسوس حيث أصاب شخص ضرع ناقة بسهم فقامت إثر ذلك حرب استمرت لأكثر من أربعين سنة قتل فيها الألوف. وعلى ذات المنوال جرت حرب داحس والغبراء بسبب خلاف على سباق بين فرسين، واستمرت هذه الحرب عشرات السنين هلك خلالها الحرث والنسل.
جاء النبي الأكرم وسط مجتمع كانت حياته حياة احتراب وعصبية وجهل وتخلف في مختلف المجالات وبحسب وصف الآية الكريمة "وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ"، لقد كان مجتمعا معرضا للانتهاء والإبادة ومهددا بالعيش خارج التاريخ والحياة، فخلق منه هذا النبي العظيم مجتمعا جديدا وأمة متقدمة استطاعت أن تقود العالم خلال فترة قياسية من الزمن. إن في ذلك دلالة كبيرة على عظمة هذا الدين وهذا الرسول .
إن ذكرى المبعث النبوي الشريف فرصة لتجديد الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة، ولا سبيل لأمتنا إلا العودة إلى الهدي الإلهي إذا أرادت أن تلحق بركب الحضارة البشرية اليوم، فالأمة الإسلامية وخاصة في المحيط العربي أصبحت تعيش وضعا شبيها بأوضاع العرب في الجاهلية، فالأمة تكاد تكون خارج سياق التطور البشري في مختلف المجالات والأبعاد، ولكن مهما كانت قسوة التخلف التي نعيشها، لا ينبغي أن يصيبنا ذلك باليأس والإحباط مادام عندنا هذا الهدي الإلهي وهذه الرسالة العظيمة. إن العودة لهذه القيم العظيمة السامية كفيلة بأن تتجاوز بنا التخلف والانحطاط. وهناك في الأفق بدأت تلوح بشائر الأمل وهذا ما يبشر بعودة الأمة الى سالف مجدها واعتزازها بدينها القويم.