قد تكون المعلومة الأخيرة هي المفتاح الأهم في الدخول إلى العالم الثريّ لسعادة الأب. سيلاحظ القارئ بأنّ الجو العام للكتابات، والخط الأساسي لسياسة سعادة الابن نتجا بالضرورة من كتابات الأب
يمثّل «سورية: من الحرب والمجاعة إلى مؤتمر الصلح» (إعداد وتقديم سليم مجاعص وبدر الحاج) فرصة جديدة لاستعادة فترة شديدة الأهميّة والخصوبة من تاريخ سوريا الحديث. «مؤسسة سعادة للثقافة» شرعت أخيراً في إعادة نشر أعمال والد أحد أهمّ القادة السياسيّين في المنطقة في القرن العشرين، أي أنطون سعادة. وسيلاحظ القارئ أنّ الخط الأساسي لسياسة الابن نتج من كتابات الأب
يزن الحاج/ جريدة الأخبار
مضى ما يقارب القرن منذ نشر ما يمكن أن نسمّيه «الكتابات السوريّة» لخليل سعادة (1857ــــ 1934). ما يُضفي أهميّة كبرى على هذه الكتابات التي بدأت «مؤسسة سعادة للثقافة» بإعادة نشرها في مجلدات عدة وصدر المجلد الأول أخيراً تحت عنوان «سورية: من الحرب والمجاعة إلى مؤتمر الصلح» (إعداد وتقديم سليم مجاعص وبدر الحاج)، هو أنّ كلاً من صاحبها ومضمونها قد تعرّضا لتهميش متعمّد طوال هذه الفترة.
قد تكون ثمة مفاجأة للكثير من القراء إذا علموا أنّ صاحب «قاموس سعادة»، ومترجم «إنجيل برنابا»، ومحرّر مجلة «الطبيب» مع الشيخ ناصيف اليازجي وبشارة زلزل، وشريك شبلي شميّل في تأسيس حزب اشتراكي، هو الشخص ذاته الذي كتب هذه المقالات ذات النبرة الوطنيّة القويّة في «الجريدة» و«المجلة» في الأرجنتين والبرازيل، بل هو ذاته والد أحد أهم القادة السياسيّين في المنطقة في القرن العشرين، أي أنطون سعادة (1904ــ 1949)، مؤسس «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعي».
قد تكون المعلومة الأخيرة هي المفتاح الأهم في الدخول إلى العالم الثريّ لسعادة الأب. سيلاحظ القارئ بأنّ الجو العام للكتابات، والخط الأساسي لسياسة سعادة الابن نتجا بالضرورة من كتابات الأب، علماً أنّ سليم مجاعص يشير إلى أنّ كون خليل سعادة هو والد أنطون قد كان السبب الأهم في تغييب اسمه عن المناهج المدرسية. ثمة خطوط مشتركة كثيرة بلا شك بين طروحات الأب والابن، بخاصة في إظهار «الرقيّ السوريّ» والارتباط العضويّ لسوريا ولبنان وفلسطين. لكنّ طروحات الأب تبدو أكثر قرباً إلى معظم سكان هذه المنطقة رغم مرور قرن كامل.
ينقسم المجلد الأول إلى ستة أقسام أساسيّة تبدأ مكانياً بالأرجنتين وتنتهي بالبرازيل، بينما تمتد زمنياً على طول الحرب العالميّة الأولى، تبدأ مع أواخر حُكم عبد الحميد الثاني، وانتشار المجاعة في المنطقة التي يسمّيها «نكبة لبنان وسوريا». كانت نداءات سعادة مندرجة ضمن أعمال «الجامعة السوريّة»، أي الجمعيّة المهجريّة التي أسسها ورئس أعمالها في الأرجنتين كصوت وطنيّ وإنسانيّ يكون صلة وصل بين الوطن البعيد والمهجر الذي حمل معظم بذور النهضة السوريّة، خصوصاً مع بدايات القرن. وقد كانت تلك الخطابات مترافقة مع عمله في «الجريدة» وبدايات تأسيس «الحزب الديمقراطيّ الوطنيّ».
ويمكننا القول إنّ الفترة الأرجنتينيّة من حياة سعادة تستند إلى التوثيق أكثر من التنظير أو التحليل السياسيّ. أما القسم الثاني فيقوم على المرحلة البرازيليّة المتّسمة بالعمق السياسيّ وبداية الانخراط الفعليّ لسعادة في الهموم الوطنيّة. ربما كان للمصادفة التاريخيّة دور في تطوّر أفكار سعادة سياسياً ونضالياً؛ أصبحت هموم «الجريدة» الآن أكثر عمقاً، إذا إنّ تلك الحقبة التاريخيّة الممتدة بين عامي 1919ــــ 1923 هي المرحلة التاريخيّة الأهم على الإطلاق في تشكيل الكيان السوريّ سياسياً وجغرافياً. لم يغب البعد التوثيقيّ عن هذا القسم، ولكنه أصبح أكثر شموليّة بخاصة بعد إضافة السياق التاريخيّ العام ليؤطّر الهموم اليوميّة للسوريّين. سنجد هنا بدايات حُكم الأمير فيصل ومؤتمر سان ريمو وبداية الانعتاق من وهم شعارات التحرر والاستقلال التي روّج لها الفرنسيّون.
لا يمكن تجاهل الانتقاء الذكي للعناوين والأسماء عند سعادة الأب. البساطة والوضوح سمتان بارزتان شكلاً ومضموناً في الكتابات، من دون أن ننسى جرأة الطرح. قد لا يكون ثمة داعٍ للتعليق على الاسمين الواضحين وشديدي الدلالة، في الوقت ذاته، للمشاريع الصحافيّة التي أصدرها سعادة؛ «الجريدة»، و«المجلة» من دون أيّ صفة أخرى أو اسم آخر للادّعاء أو الترويج. أما سياسياً، فليس سهلاً أن تؤسس حزباً تحت عنوان عريض هو «الحزب الديمقراطي الوطنيّ» في ظل بزوغ فجر القومية العربية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطرح الجريء آنذاك بقيام صيغة فيدراليّة بين سوريا ولبنان وفلسطين على غرار الولايات المتحدة الأميركيّة. ومع أنّ هذه الفكرة تومئ بوضوح إلى جوهر الفكرة المحوريّة لمشروع سعادة الابن السياسيّ، إلا أنّ الأب يبدو أكثر عقلانيّة حين يشترط موافقة السكّان على صيغة الحُكم هذه.
ثمة سمات يمكن ملاحظتها (وتوقّعها) عندما نتحدث عن أي رائد من رواد بدايات القرن العشرين؛ الصحافة اليوميّة أو الأسبوعيّة المشغولة بالسياسة، والتوزيع المذهل للوقت والكتابة بين الأدب والفلسفة والعمل الموسوعيّ، عدا عن اشتغال متميّز (بحسب متطلّبات ومفردات تلك الحقبة التاريخيّة) في الترجمة.
وبعيداً من الهموم اليوميّة رغم أهميتها التوثيقية لدارسي تلك المرحلة، ثمة تفرد في رؤية سعادة الأب لمعنى الوطن والحضارة والتطور. إنّ الجملة المهمة التي يكتبها تعليقاً على التضارب في عدد ضحايا المجاعة التي غزت المنطقة مع بداية القرن العشرين تبدو شديدة الإيحاء: «لا يوجد في الوطن شهادات وفيّات كما في البلدان المتمدّنة». إنّ استخدام صفة «المتمدّنة» لم يكن عفوياً. هنا نجد إحدى نقاط التميّز عند خليل سعادة. التمدّن أمر مختلف عن «التحضّر» أو «الرقيّ» رغم تداخل المعاني. ليس في التمدّن تسلسليّة هرميّة كما في الكتابات الاستشراقية التي انتشرت في الفترة نفسها شرقاً وغرباً. والتمدّن هو المرحلة الأساسيّة للتطوّر.
في ما يمكن تسميته «الكتابات التركيّة في ظل الاحتلال»، بدا سعادة أكثر مهادنة للحكومة التركيّة، بالمقارنة مع كتاباته ذاتها بعد رحيل الأتراك، أو بالمقارنة مع النبرة الواضحة في الكتابات المتعلقة بالفرنسيّين قبل الانتداب وبعده. مع اقتراب وفاة «الرجل المريض»، يرثي شهداء 6 أيار (مايو) الذين أعدمهم أحمد جمال باشا، وينتقد السوريّين الذين «بدلوا أتراك آسيا الذين ساووهم بأنفسهم مع أتراك أوروبا الذين استعبدوهم»، في إشارة إلى الطريقة المهينة في تعامل الفرنسيّين مع المطالب الوطنيّة السوريّة.
يشكّل كتاب «سورية: من الحرب والمجاعة إلى مؤتمر الصلح» فرصة جديدة لاستعادة فترة تاريخيّة شديدة الأهميّة والخصوبة من تاريخ سوريا الحديث، لا سيما ما يتعلق بصراع القوى العظمى عليها. ليس الأمس بعيداً إلى هذا الحد عن اليوم رغم مرور قرن بكامله، وليس هذا الكتاب سوى حلقة من حلقات سلسلة النهضة التي كان ينبغي للانتفاضات العربيّة أن تسعى إليها قبل أيّ هدف آخر. ولن يكون الغد مختلفاً عن الأمس إن لم تتم إعادة قراءة التاريخ وكتابته.