فترة الشغور في رئاسة الجمهورية اللبنانية مرشحة لكي تطول بعض الشيء ارتباطاً بغياب تفاهم محلي وتفاهم اقليمي يمكن ان يكون مظلة مساعِدة على تمرير هذا الاستحقاق.
علي عبادي
فترة الشغور في رئاسة الجمهورية اللبنانية مرشحة لكي تطول بعض الشيء ارتباطاً بغياب تفاهم محلي وتفاهم اقليمي يمكن ان يكون مظلة مساعِدة على تمرير هذا الاستحقاق. وفي موسم الانتخابات المفصلية في عدد من الدول العربية (سوريا، مصر، العراق، ...) ينتظر لبنان، أو سياسيو لبنان، غيثاً من مكان ما تصل قطراته الى هذا البلد الذي يعاني من الجفاف المناخي، يضاف الى التلبد السياسي.
تذكـّر تجربة شغور موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية في العام 2014 بتجربة مماثلة جرت عام 1988 مع اختلاف في بعض المواقف والأدوار: قبل أيام من انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في 1988، نزل عناصر "القوات اللبنانية" المدججون بالسلاح على الأرض ومنعوا وصول النواب في "المنطقة الشرقية" من بيروت للمشاركة في جلسة انتخاب الرئيس، احتجاجاً على تفاهم سوري - أميركي على ترشيح النائب مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية، حتى أن "القوات" عمدت آنذاك إلى احتجاز بعض النواب الذين توجّهوا للمشاركة في الجلسة التي كان مرشّحها الرسمي الوحيد الرئيس الراحل سليمان فرنجية غير المقبول "قواتياً" أيضاً.
في العام 2014، تعود "القوات" الى لعب دور المؤخِّر لانتخاب رئيس للجمهورية، احتجاجاً على تفاهم - ربما غير مكتمل- بين العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري. كان سلاح "القوات" هذه المرة ترشيح رئيسها سمير جعجع، بما فاجأ بعض أقطاب 14 آذار الذين يرون في جعجع قطباً صِدامياً لا حظّ له في الرئاسة. بعض هؤلاء كان بدوره يعدّ العدة ليطرح ترشيحه، ومن بينهم الرئيس السابق أمين الجميل والنائب بطرس حرب. وفي حين حاولت 14 آذار ان تتماسك، متبنية "ترشيح الأمر الواقع"، حفاظاً على وحدة موقفها من هذا الاستحقاق، راودها الأمل بأن جعجع سيكتفي بنتيجة الشوط الأول من الجلسة الانتخابية (48 صوتاً له و52 ورقة بيضاء، وهذه النتيجة رسالة معبرة تنم عن رفض لترشيحه حتى من داخل فريق 14 آذار)، ليخلي الميدان لمرشح آخر تتفق عليه 14 آذار. لكن رئيس "القوات" مضى في الترشيح، معقـّداً مسار اللعبة داخل الفريق الآذاري المتعدد الأهواء، وفاتحاً الباب أمام شغور في الموقع فرضه جزئياً ضعف فرص التوافق بين أركان الصف الواحد.
ترشيحات: أوهام وعروض
ظن الكثيرون في 14 آذار في بداية الأمر أن ترشيح جعجع ناجم عن اعتبار معنوي يريد من خلاله أن يثبّت موقعه في مقابل ترشيح العماد عون الذي بقي غير رسمي حتى الآن، وأن غرضه الأساسي قطع الطريق على إمكان البحث في انتخاب عون وعلى تفاهم مفترض بين الحريري ومن خلفه السعوية وبين رئيس تكتل التغيير والاصلاح. لكن جعجع استساغ أن يمضي في لعبة الترشيح، معتقداً او متوهماً أن 14 آذار لن تتخلى عنه ما دام متمسكاً بموقفه هذا. وإلى ان يتراجع جعجع عن ترشيحه او تتخلى 14 آذار او بعضها علناً عن دعم ترشيحه، وهذا يحتاج الى بعض الجرأة في المشهد الآذاري لا تتوفر فيها إمكانات المكاشفة حتى الآن، يمتد الشغور زمناً إضافياً ليخرج الإستحقاق تدريجياً من أيدي اللاعبين المحليين ويمكن أن تضيع معها فرصة "لبننته".
ويشار الى ان عدم حصول توافق على مرشح يكون ملتقى شبه إجماع محلي، أفضى قبيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان الى حركة مسيحية لتجنب الشغور لعبت فيها البطريركية المارونية دوراً بارزاً. ومن جملة الطروحات التي تم التداول بها، وفق مصدر مطلع، التمديد استثنائياً للرئيس ميشال سليمان لفترة محددة تصل الى 6 أشهر لحين إنتخاب بديل، وجرى تقديم "حافز" للعماد ميشال عون لقبول هذا الطرح وهو اعطاؤه وعداً لم يكن قاطعاً بدعمه لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء "الولاية الاستثنائية" لسليمان، مضافاً الى تعيين صهره قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز قائداً للجيش. وهذا الطرح لم يلق قبولاً لدى عون وفريق 8 آذار الداعم له، على اعتبار انه غير جدي وينطوي على كسب للوقت ليس إلا.
ومن جهة أخرى، لم تنضج بعد طبخة التفاهم بين الحريري وعون الذي تجنب ترشيح نفسه رسمياً كي يكون مرشحاً توافقياً مقبولاً من أغلب الأطراف، وكي لا يكون الاستعجال سبباً الى حرق ورقة ترشيحه مقابل حرق ترشيح منافسه جعجع. والواقع، ان الإنفتاح السعودي- الحريريّ المستجدّ على عون ليس واعداً، وهو يهدف بالدرجة الأولى الى محاولة إبعاد رئيس التكتل الأكبر على الساحة المسيحية عن حزب الله، وثمة استعداد لدى الرياض لإرضائه ببعض البدائل مثل تعيين مقربين منه في مواقع متقدمة وفتح أبواب السعودية أمامه على غير صعيد. وبرغم ان رئاسة الجمهورية لم تعد- بعد اتفاق الطائف- ذلك الموقع المغري الذي يكتنز صلاحيات واسعة، تتصرف السعودية على أساس ان لا مصلحة لها في الإتيان برئيس مسيحي قوي يستند الى حيثية شعبية معتبَرة، وهو ما يؤهله للعب دور مستقل يمكن أن يأتي على حساب وزن رئيس مجلس الوزراء الذي تسعى الرياض للإحتفاظ بتأثير مباشر عليه. وتجربة الرئيس العماد إميل لحود الذي فرض حضوره بموازاة المواقع الرسمية الاخرى لا تزال ماثلة في أذهان المسؤولين السعوديين المتابعين للملف اللبناني، وهم لا يريدون تكراره بأي شكل من الأشكال. ومن هنا، يبدو سيناريو انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية وتكليف الرئيس سعد الحريري بتأليف الحكومة ضمن ترتيب سعودي مفترض أقربَ الى الخيال منه الى الواقع.
بانتظار التوافق: الطريق الطويل!
ويخشى العماد عون ومعه قوى 8 آذار ان يؤدي تأمين النصاب القانوني لجلسة الانتخاب في دورة ثانية، من دون الترتيب للأمر مسبقاً، الى ايصال مرشح غير توافقي لرئاسة الجمهورية، وهو احتمال يعطي هذه القوى الحق في عدم حضور هذه الجلسة الى حين تلمس توافق على مرشح بعينه. كما ان هذه القوى ليست متحمسة لمرشح "يعطي من طرف اللسان حلاوة" ليمضي لاحقاً في تنفيذ أجندة 14 آذار في الخطوط الكبرى، لا سيما في ضوء تجربة الرئيس ميشال سليمان التي مالت الى هذا الفريق في العديد من المحطات، وصولاً لتنكره لمعادلة " الشعب والجيش والمقاومة". ولذلك كله، تضع قوى 8 آذار ثقلها خلف العماد عون في أي قرار يتخذه سواء في الترشح او في خلافه، لأنها تدرك ان تماسك هذا التحالف سيساعد في توليد رئيس أقرب الى تصورات هذا الفريق.
ويلاحظ في الأثناء ان الحركة الاقليمية والدولية على خط العمل لإجراء الانتخابات الرئاسية شبه معدومة، باستثناء اتصالات هاتفية من بعيد، في وقت بدأت بعض القوى المحلية بالتكيف مع واقع الشغور الرئاسي، انطلاقاً من ان صلاحيات الرئيس تنتقل دستورياً الى مجلس الوزراء. وهذا الأمر يثير مخاوف من ان تطول فترة الانتظار، في حين ان الوقت لا يسعف في تحمل نتائج مثل هذا الوضع، اذا ما أخذنا في الاعتبار ان ولاية مجلس النواب الممددة تنتهي في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وليس ثمة توافق حتى الآن على قانون الانتخاب ولا على طريقة التعامل مع هذا الاستحقاق الهام بالتمديد مرة أخرى او بخلاف ذلك. وفي حال وصل لبنان الى تلك النقطة الحرجة مؤسساتياً، والشغورُ الرئاسي على ما هو عليه الآن، سيكون انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس نيابي منتهي الصلاحية شأناً عويصاً ومدعاة للطعن في صحة الانتخاب. أما الحكومة هي الأخرى فليست أفضل حالاً بكثير، في ظل الجدل حول مدى قدرتها على العمل والالتزام بصيغة "مجلس الوزراء مجتمعاً" في الحلول محل رئيس الجمهورية في صلاحياته. ويهدد وزراء تكتل التغيير والاصلاح بمقاطعة جلسات الحكومة والجلسات النيابية التشريعية ضماناً لحصول توافق على القرارات والمشاريع التي تمرَّر في هذه المرحلة، بدلاً من اللجوء الى التصويت الاكثري، كما يلوح بعض السياسيين. وهذا الوضع برمته يلقي بعبء ثقيل على عمل المؤسسات وقد يجر الى شلل.
وما يصعّب الأمور غيابُ التفاهم المسيحي – المسيحي، وتحديداً الماروني – الماروني، حول انتخاب رئيس للجمهورية، ما يعيد التذكير بتجربة العام 1988 وما جرّته من انقسام وضياع وفقدان الكثير من صلاحيات ووزن الرئاسة الأولى. لكن الفارق الأساسي ان الانقسام اليوم عابر للطوائف ويدور حول الخيارات السياسية وليس حول جوهر النظام، برغم ان الكثيرين يتلمسون الحاجة الى إعادة انتاج النظام بصورة تنزع فتيل الأزمات المتكررة وتضمن حقوق جميع مكونات المجتمع السياسي اللبناني.
ومعلوم ان الأزمات الكبرى غالباً ما تؤدي الى تحفيز البحث عن حلول مبتكرة نوعاً ما، وشغور العام 1988 وما صاحبه من تمزق في الساحة المسيحية كان سبباً لولادة اتفاق الطائف وتجيير بعض صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعاً، فهل تؤدي التجربة الحالية الى اعادة هيكلة للنظام السياسي الذي بات ينتج مآزق اقتصادية واجتماعية وسياسية متراكمة؟
وهناك من يرى ان انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية يتطلب جلاء الوضع الإقليمي، وتحديداً انتظار اتجاه الوضع في سوريا بعد انتخابات الرئاسة ومعرفة اتجاهات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة واحتمال التفاهم بين ايران والسعودية، وربما توقيع اتفاق بين ايران والدول الكبرى حول الملف النووي بحلول 20 تموز/ يوليو المقبل، وهذه تطورات قد تساعد في إيجاد مظلة اقليمية – دولية تسهم في رزمة متكاملة من التسويات او الحلول الاقليمية تطال في من تطال لبنان. لكن "لبننة" الاستحقاق لا تزال امراً متاحاً من خلال ايجاد مرشح مقبول. هل مثل هذا المرشح موجود؟ على الأرجح، نعم.
للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com