وما الأمواج الهادرة التي تدفقت إلى السفارة السورية في بيروت إلا الجواب الأبلغ والأوضح، وكذلك تقاطر السوريين والأردنيين في الأردن للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، وتخصيص صندوق شرف لمشاركة الأردنيين.
* د. حسن أحمد حسن
طبيعة العمل الدبلوماسي بوصفه المرآة المسؤولة عن تسويق الصورة المطلوبة لهذه الدولة أو تلك يفرض مجموعة من التحديات أمام الدول كافة، وهذا يجعل التبعية السياسية من أخطر ما يواجه العمل الدبلوماسي في أية دولة، لأن ارتباط القرار السياسي بمراكز خارجية يفقد الدولة القدرة على تسويق الصورة التي تريدها، ويجعل تلك الصورة تحت رحمة من لا يعنيهم ظهور الدولة التابعة بمظهر التناقض، ومن أصعب ما يواجه السياسة الخارجية لأية دولة فقدان الإمكانية على الموائمة بين التوجهات العامة التي يتم الإعلان عنها وبين الممارسة العملية على أرض الواقع، وبخاصة في الظروف الاستثنائية التي تشكل الحرب المفتوحة أبرز تجلياتها كما هو الحال في الحرب التي تخوضها الدولة السورية في مواجهة أكبر تجمع عالمي تم تشكيله لتفتيت دولة بعينها.
إلا أن هذه الدولة بقيت صامدة أكثر من ثلاث سنوات بفضل مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، وهذا ما فرض على جميع أطراف التآمر والعدوان التخلي عن الأقنعة التي كادت تقطع نفس مستخدميها جراء امتداد زمن الاستخدام حيناً وانتهاء صلاحية تلك الأقنعة حيناً آخر، ولعل الرعونة الدبلوماسية الأردنية خير شاهد على ذلك، لأن اتخاذ القرار باعتبار السفير السوري في الأردن شخصاً غير مرغوب أمر يثير الريبة ويترك العديد من إشارات الاستفهام، ولاسيما من خلال السياق الزماني وارتباطه بمجموعة من الأحداث والتحركات التي تشير إلى اتجاه واحد عنوانه الرغبة بتفتيت سورية والعجز عن تحقيق ذلك، مما دفع بالمايسترو الأمريكي ـ الصهيوني لإصدار تعليماته الصارمة للسلطة في عمان لتقوم بهذه الحماقة المفضوحة والتي لن تؤدي إلا إلى نتائج تتناقض بالضرورة مع الأهداف التي كان من يقود العدوان على سورية يسعى لتحقيقها.
ويخطئ من يظن أن تصرف الخارجية الأردنية كان مفاجئاً لأي متابع موضوعي يأخذ بالحسبان تكامل أدوار أطراف التآمر والعدوان المتورطة بهذه الحرب المفتوحة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وواهمٌ ومشتبهٌ من يحسب أن مثل هذه الرقصات البهلوانية تستطيع أن تغير من نتائج المواجهة التي أضحت محسومة على جميع المستويات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية لصالح الدولة السورية شعباً وجيشاً وقيادة، فما حدث وما قد يحدث في الأيام القادمة هو رهانٌ خاسرٌ على ما تبقى من بيادق أخرجها اللاعب السوري من رقعة الشطرنج في الأشواط الإضافية التي قام المايسترو الأمريكي بتمديدها أكثر من مرة بهدف تحقيق أي إنجاز يصلح للبناء عليه في تخفيف حدة تسارع الانهيارات المتتالية التي يمنى بها المشروع التفتيتي للمنطقة، لكن ذلك كله ذهب سدى ومن دون جدوى، فالنتيجة لم تتغير، والتفكير بإعادة ما أسموه توازن القوى ضَرْبٌ من الهوس الذي لن يفضي إلا للجنون، وفي أحسن الأحوال لمزيد من التخبط والارتباك والرعونة التي تؤدي إلى نتائج عكسية لأنها تبلور بسرعة أكبر النصر السوري الذي يحاولون التهرب من تداعياته بشتى السبل.
الجميع يذكر كيف اضطرت إدارة أوباما للمقامرة بكل ما تبقى لها من هيبة ونفوذ عندما حددت وبشكل مسبق خطوطاً حمراء لإخافة سورية ودفعها إلى بعض التردد الذي لم ولن يعرف طريقه للظهور في قاموس السياسة السورية، ويبدو أن بعض مفاصل صنع القرار الأمريكي قد فاتها أن من جندتهم لتنفيذ توغلها المفضوح في المنطقة قد ينقلبون على أسيادهم إذا اشتدت شوكتهم وتمكنوا من تأمين تدفق تمويل ذاتي يزيد من سيلان لعابهم لبسط النفوذ والهيمنة، وهذا ما حدث عندما قامت العصابات الإرهابية المسلحة باستخدام السلاح الكيميائي لإحراج أوباما ودفع إدارته إلى التدخل المباشر عبر عدوان عسكري خارجي.
لكن حسابات البيادر الخاطئة في مواجهة الواقعية الميدانية التي فرضها الأداء السوري واتضاح كارثية النتائج التي قد تفرزها أية حماقة جديدة هي التي دفعت أوباما للاستنجاد بالروسي الذي لم يبخل عليه بتقديم سلم النجاة للنزول عن الشجرة العالية التي تسلقها.
وسواء أكانت العصابات الإرهابية المسلحة قد أقدمت على استخدام السلاح الكيميائي بشكل ذاتي، أم بطلب وإشراف مباشرين من أجهزة الاستخبارات التابعة لهذه الدولة أو تلك فإنه من الثابت والمسلم به أن أي تصعيد عسكري خارجي يحمل في طياته إشعال المنطقة برمتها، وأن تداعيات امتداد الفالق الزلزالي وارتداداته المباشرة وغير المباشرة أمرٌ تعجز عن تحمله جميع الأطراف الإقليمية والدولية، وهذا يعني أن التهويل من جديد بمثل هذا السيناريو لا يغير شيئاً على أرض الواقع، كما أن تكثيف المناورات العسكرية وتوسيع دائرة العدو المفترض لتلك المناورات لا يستطيع فرض قواعد جديدة لمواجهة لم تعد تخص سورية وحدها، بل تتعدى الجغرافيتين السورية والإقليمية، وهذا ما تدركه جميع الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة بسفك الدم السوري، أي أن أي تصعيد جديد سياسياً كان أم عسكرياً أم دبلوماسياً أم اقتصادياً سيبقى محكوماً باللوحة التي أفرزتها ميادين المواجهة المباشرة على امتداد أكثر من ثلاث سنوات.
وهذا يقودنا لتساؤل مشروع عن سر التصعيد الدبلوماسي الأردني غير المسوغ، وما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء اتخاذ مثل هذا القرار الذي لا يخدم الأردن بأي شكل من الأشكال، لا بل يعرض أمنه الوطني لمخاطر إضافية إذا كانت الخطوة مقدمة لعمل مُبِيَّت يتجاوز الإطار الدبلوماسي؟ وما سر تزامن الحمية الأردنية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سورية من جهة، ومع التصعيد الهستيري للجماعات المسلحة في هذا التوقيت بالذات من جهة ثانية؟
لا شك أن تقديم أجوبة قاطعة على مثل هذه التساؤلات أمر متعذر، لكن من الواضح أن الجانب السوري وبقية أقطاب المقاومة لم تسقط من حساباتها يوماً أي احتمال لتطور الأحداث وتداعياتها، ومن المسلم به في الاستراتيجية العسكرية أن القرار يجب أن يبنى وفق معطيات أسوأ السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن يلجأ إليها العدو، وهذا يعني أن قدرة أطراف التآمر والعدوان على الاستثمار في قرار الخارجية الأردنية لا تتجاوز الصفر، لأنها أمام أحد احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يكون القرار أردنياً صرفاً ـ وهذا أمر مستبعد ـ وإما أن يكون خضوعاً لضغوط سعودية أو أوامر أمريكية، فإذا كان الأمر أردنياً فهذا يجسد خروجاً على المألوف بين الدول التي ترتبط شعوبها بعلاقات مميزة ، فكيف يكون الحال والشعبان الأردني والسوري يكادان أن يكونا شعباً واحداً في دولتين؟
ومن المتعارف عليه في علم السياسة أن نفاد الصبر وافتقاد القدرة على ضبط النفس دليل على الضعف وغياب الثقة بالنفس، وهذه ظاهرة مرضية تصبح كارثية إذا انتقلت من مستوى الأفراد إلى مستوى الدول، وبخاصة أن الواقع يؤكد أن الذرائع التي سوقتها الخارجية الأردنية واهية، وجلُّها غير صحيح، أما إذا كان قرار الخارجية الأردنية تنفيذاً لأوامر أو ضغوط فهنا الطامة الكبرى، لأن مثل هذا الاحتمال يتضمن الكثير من المعاني والدلالات السلبية، ومنها:
1- الافتقار إلى كل ما له علاقة بمقومات السيادة التي لا يجوز لأية دولة تحترم ذاتها أن تتخلى عنها، وعندما يصل الوضع إلى تنفيذ أوامر خارجية لتفادي غضب من أصدرها فهذا يعني ارتهان الحاضر والمستقبل لمشيئة من أصدر الأمر، وهل هناك من ضامن لدى عمان بأن تنفيذ إملاءات مجهولة التداعيات يعفيها مستقبلاً من رفع سقف المطالب إلى الدرجة التي تجد فيها نفسها عاجزة عن تنفيذ المطالب المتنكرة لكل ما له علاقة بسيادة الدولة الأردنية؟
2- هذه الخطوة الحمقاء تنسف الرواية الرسمية الأردنية، وتؤكد أن عمان متورطة حتى نقي العظام بسفك الدم السوري، وأن كل ما كان يتم الترويج له حول عدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية هو محض افتراء، ولاسيما أن معطيات الواقع تثبت أن الأردن كان وما يزال ممراً ومقراً للعصابات الإرهابية المسلحة، وعلى أراضيه يتم تدريب القتلة المأجورين وتقديم التسهيلات والدعم بكل أنواعه لضمان تمريرهم عبر الحدود المشتركة إلى الداخل السوري ليعيثوا خرابا وتدميراً وقتلاً وترهيباً لا يمكن لفاعله ولمن ساعد فاعله التهرب أو التنصل من المسؤولية التي لا تسقط بالتقادم.
3- إجراء مناورات " الأسد المتأهب" وقبلها مناورات "جينفر كوبرا " وما رافق ذلك من زيارات واجتماعات لمسؤولين عسكريين وأمنيين وفي هذا التوقيت يوحي بشكل أو بآخر بإمكانية الانتقال من إجراء المناورات إلى الهدف من المناورات بشكل مباشر، أي شن عدوان عسكري خارجي مباشر على سورية، لكن الإقدام على حماقة كهذه يعني تعريض الأمن الإقليمي والقومي للخطر، ولا ضامن لدى أية جهة في الكون للنتائج التي قد يسفر عنها مثل هذا الجنون، وهذا يقودنا إلى استنتاج فحواه أن كل هذه الاستعراضات وتنسيق التحركات على المستويين الإقليمي والدولي تصب في خانة الحرب النفسية الممنهجة لتحقيق عدد من الأهداف، ومنها:
أ- محاولة رفع الروح المعنوية للعصابات الإرهابية المسلحة التي تعاني من انهيارات دراماتيكية متنقلة بسرعات ترعب مشغلي تلك العصابات.
ب ـ محاولة التأثير على القادة الميدانيين ودفعهم لسحب بعض الوحدات والقطعات من المناطق التي تلاحق فيها فلول ما تبقى من جسد إرهابي في ظل تسويق أجواء تزداد توتراً يوحي باحتمال التورط بعدوان عسكري خارجي، على أمل أن يعرقل ذلك ـ ولو مؤقتاً ـ الانتصارات الميدانية المتتالية للجيش العربي السوري على امتداد الجغرافيا السورية.
ج ـ السعي بشتى الوسائل للتأثير سلباً على الروح المعنوية العالية لدى الجيش العربي السوري بخاصة ولدى المواطن السوري الذي أثبت قدرة فائقة في مواجهة التخويف والإجرام غير المسبوق، وبقي متمسكاً بانتمائه الوطني ومصمماً على الوقوف مع جيشه وقيادته لدحر الإرهاب بشتى أشكاله وألوانه ومسمياته.
د ـ كل ما ذكر يصب في بوتقة واحدة عنوانها التشويش على الانتخابات الرئاسية، ومنع السوريين من ممارسة حقهم الدستوري والديمقراطي في انتخاب من يريدون لقيادة سورية والوصول بها إلى شاطئ الأمن والسلامة ، لأن نجاح الانتخابات يعني دحض كل ما تم تسويقه على امتداد ثلاث سنوات ونيف، وجميع الدلائل تشير إلى أن العنوان الأبرز الذي ستتمخض عنه الانتخابات الرئاسية سيكون " الشعب يريد بشار الأسد" وهذا كفيل بدحرجة رؤوس أتباع وأزلام بالمعنى السياسي، أي انتهاء الدور الوظيفي للممالك والإمارات والسلطنات والمشيخات وكل ما يمت بصلة لأنصار الفكر المتصحر المراد تعميمه بالإكراه على المنطقة برمتها.
من كل ما تقدم يتبين أن الأردن بهذه الرعونة الجديدة إنما يكرس الدور التقليدي الذي لم يستطع تجاوزه منذ نشأته وهو دور العمالة للاستخبارات الأجنبية التي لا تفكر إلا بالسيطرة ومص دماء الشعوب التي أثبتت أنها قادرة على تغيير المعادلة، وإذا كان هناك من يراهنون على تحويل أمنياتهم وأحلامهم إلى واقع ويفكرون في إمكانية البناء على تصعيد ميداني يتجاوز حدود سورية فعلى أولئك ألا ينسوا أن اسم المناورات التي يراهنون عليها " الأسد المتأهب" وعندما يكون الأسد متأهباً لا يفيد عواء الذئاب، والدلائل الدامغة على ذلك تظهر وبشكل يومي منذ آذار 2011م.
وما الأمواج الهادرة التي تدفقت إلى السفارة السورية في بيروت إلا الجواب الأبلغ والأوضح، وكذلك تقاطر السوريين والأردنيين في الأردن للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، وتخصيص صندوق شرف لمشاركة المواطنين الأردنيين، وما يتضمنه هذا الأمر من رمزية تؤكد أن شعوب المنطقة تطمئن للنهج الذي يجسد إرادتها وهو نهج المقاومة والتمسك بمقومات السيادة والكرامة والعزة والشموخ، وهذا مقدمة للانتصار الناجز الذي تنتظره شعوب المنطقة المتطلعة لرسم معالم مستقبلها بإرادتها الحرة لا بإرادة المعتدين والخونة والمأجورين.
*باحث سوري متخصص بالدراسات الجيو بوليتيكية
للتواصل مع الكاتب: dr.hasanhasan2012@gmail.com
dr.hasanhasan@yahoo.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه.