"إن مظهره هو أشبه بمظهر نبي قد خرج من الأسطورة كي يتصدى لمشاكل الزمن الحديث، بفكر ثاقب وبقوة رجل الله. تأثيره هو من الدلالة بحيث يساهم في صنع الحدث، وفي أثناء الأزمات يكشف عن أبعاده الحقيقية".
موسى الصدر مسار التحديات والتحولات :
اختفى الإمام موسى الصدر في العام 1978، ولكنه قبل ذلك إمامته الدينية هزّت سكون الواقع الديني وجمود المعتقدات والقيم والتقاليد الدينية في طابعها الغالب أنذاك، وخلقت ظاهرة تحوّل كبيرة قادت جهداً تغييرا للواقع الديني لا على مستوى الطائفة الشيعية فحسب، وإنما على مستوى بقية الطوائف في لبنان، إسلامية كانت أم مسيحية، وإن بدرجات متفاوتة، ومن ثم أوجدت – وهو الأهم- نمطا جديدا من علاقة رجل الدين بالسياسة والسلطة بعد أن نجحت قوى الاستعمار الغربي ووكلاؤه بتدجين المؤسسات الدينية في معظم العالم الإسلامي وجعلها مؤسسات يائسة وضعفية ومنطوية على نفسها.
الكتاب "موسى الصدر مسار التحولات والتحديات"، للكاتب الشيخ الدكتور صادق النابلسي، والصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، يهتم بعرض انجازات الإمام الصدر الإصلاحية والمكثفة على أكثر من مستوى، الديني والاجتماعي والسياسي والثقافي، وذلك في ستة فصول متنوعة وشاملة. وفي غمرة البحث في هذه العناوين يحاول تحديد معالم مشروع الصدر ومفرداته ومجالاته، وقراءاتها كحلقة من حلقات الصعود الإسلامي في المنطقة، خصوصا أن حركة الإمام الصدر مرتبطة بآفاق المشروع التغييري الإسلامي في كل من إيران بقيادة الإمام الخميني، وفي العراق بقيادة الإمام السيد محمد باقر الصدر.
التكوين السياسي لشيعة لبنان :
في اللحظة التاريخية التي أسس فيها النظام الطائفي في جبل لبنان، آبان فترة الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية) بفعل التدخلات الأوروبية ساهمت في تنبّه الشيعة إلى المعادلة الطائفية المستحدثة، وإن بقي سلوكهم الفردي والاجتماعي مرتهنا في شكله ومضمونه إلى منظومة الإقطاع سياسيا، وإلى النظرة الدونية إنسانيا التي منعتهم من أن يكونوا كائنات حرة ومتساوية مع بقية الطوائف.
أما في مرحلة الانتداب الفرنسي فقد كان الفرق هائلاً ظهر فيها الجدل الفكري والسياسي حيال الهويات والانتماء فخرج الشيعة من دائرة التحفّظ وانكفاء السياسيين وألجأتهم للأندماج في مشروع سوريا الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي أو ما سمي بالانتداب. تحركهم هذا كان يتطلع إلى إثبات الهوية الجماعية التي كانت تسحق وتقمع باستمرار من الولاة والحكام المناوئين، فجاءت الفرصة مع هذا الاحتلال لتجعل من الوجود الشيعي في لبنان حقيقة تاريخية وسياسية مرئية، لفرضه على الاحتلال ثقل تحركه ضده، فكان أن اعترف الأخير بالطائفة الشيعية مما وجه لهم بصورة غير مقصودة منه اليقظة والتحول من قيمة اجتماعية هامشية إلى قيمة مؤثرة في الحياة السياسة الداخلية. رغم أن هذا النشاط لم يصل إلى مستوى المساواة مع الطوائف الأخرى لأسباب عديدة منها بعد سكنهم الجغرافي عن عاصمة القرار السياسي ولتواطؤ تاريخي بين الإقطاع والدولة المارونية المنتدبة في توزيع السلطة، وكذلك الخلاف حول منطلق الهوية الثقافية والحضارية للبنان، إذ كان إصرار الشيعة على الاتصال بالعمق السوري العربي الإسلامي.
وإن تمكنوا بعد ذلك من اجبار الاحتلال على احتوائهم بمنحهم بعض الامتيازات السياسية الضرورية والاعتراف الرسمي بالمذهب الشيعي الجعفري واعتباره ملة منفصلة بمحاكمها للأحوال الشخصية.
وفي مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، أقصي الشيعة عن مواطن القرار الحقيقي وبقوا في ظل الكتلتين، السنية متمثلة برياض الصلح والمارونية متمثلة ببشارة الخوري، وإن أعطي لهم منصب ثالث في البرلمان اللبناني إلا إنه بقي هامشياً نظرا لأن من تولى إدارة هذا المنصب "الشيعي" لم يتمتع بالجرأة والاستقلالية لكونها تتغذى من دعم السلطة الحاكمة له. وبقي الشيعة يحاولون الحصول على فرص أفضل في المعيشة والحضور السياسي، فكان أن توزّع أبناؤها على الحركات والأحزاب العلمانية وغيرها تلك التي كانت نشطة آنذاك.
الإمام الصدر من إيران حتى لبنان، مفاصل ومحطات :
كان هاجس السيد الصدر المولود عام 1928 في قم المقدسة يكمن في الخروج من الأطر التي تشكل عوائق تحول دون إبداعه وإعمال عقله ومواجهة المستحيل بالمممكن. فدخل الجامعة ليدرس الحقوق والاقتصاد وهو عالم ديني يرتدي الزي التقليدي، وكان أول معمم يدخل الجامعات العصرية مكرّسا نهجاً من التحرر والانفتاح على طريقته. وهو سليل عائلة امتدت فيها المرجعيات لقرون. أطل الصدر أثناء دراستة الحوزوية والجامعية على المعطيات الحضارية الغربية بعد أن شكلت موضوعات الدين والليبرالية وحقوق الإنسان والعلمانية والماركسية أهم الاشكاليات على الساحة الإيرانية. وصمم السيد الصدر وفريقه على مواجهة موجة علمنة المجتمع فأدى دوراً بارزا في دراسة المرتكزات التاريخية والفكرية للعلمانية وتقييمها والرد عليها عبر كتابات علمية جادة. فانخرط في هم التأليف وأسس في العام 1959 مدرسة خاصة في قم ليزود الطلاب المهتمين ببديل عن منهج التعليم الحكومي. وظل قريبا من كل الحركات السياسية في البلاد يشارك في اطلالات مهمة ألا أنه لم ينخرط معها ليكون واحدا منها، بل بقي عضوا في القوى التي تتحمل مسؤولية التخطيط للمستقبل.
ولكن مع صعود حركة الإمام الخميني كان لنشاط الصدر محرّكا أشد ثورية. وهنا في هذا الباب يكشف الكاتب صادق النابلسي عن جملة حقائق تاريخية حول هذه العلاقة بين الرجلين. إذ طغى على الأجواء معلومات غير دقيقة أو ذاتية جدا، فحلقات كثيرة في العلاقة مفقودة ومبهمة تجعل كثيرون يصرّون على تكريس التمايز ويقيمون المقابلة المنهجية بينهما.
ولكن يسجل للكاتب هنا عمله البحثي الدؤوب في الكشف عن ملابسات هذه العلاقة وحقيقتها. فقد تبيّن معه أن هناك معطيات عديدة يمكن الاستشهاد بها لتحديد شكل العلاقة ومستواها بين الصدر والخميني، أولها : مواظبة الصدر على حضور دروس الإمام الخميني في الفقه والأصول والفلسفة، وهو الذي كان يتميز ببحثه على استاذ يوسّع له في بحثه المعرفي والعلمي. وهذا لم يكن شيئاً عابرا بل يمثل أبرز الوشائج النفسية بين الطرفين وعن المناخ الذهني الذي يمتد إلى حقول التجديد في آفاق المعارف الإنسانية. والثاني : حضور الإمام الخميني حفل لباس السيد الصدر الزي الديني، وهو المرجع المعروف عنه أنه لا يجامل أو يهادن أحداً في حدث من هذا النوع الرفيع وفيه احترام إلى التميز العلمي والمعرفي والسلوكي الذي كان يتمتع به الصدر. والثالث : اخيار الإمام الخميني للصدر كي يرافقه في زيارة مقام الإمام الرضا (ع) في مدينة مشهد. وليست هذه مرافقة عادية لو ربطناها بالظروف السياسية التي كانت سائدة في إيران آنذاك.
كل هذه اللمحات التاريخية تموضع وتقيّم أسس العلاقة ومن كونها باتت تتسم بالحميمية والانسجام في الرؤى والتفكير. يضاف إلى ذلك قيام السيد الصدر بجهود عربية ودولية مضنية لمحاولة اطلاق الإمام الخميني من سجون الشاه بعد المواجهة الدموية بين الشعب الإيراني والنظام في حزيران العام 1963. ولقد حفظ العلماء، وفي مقدمهم السيد الخوئي، الفضل للسيد الصدر في اطلاق سراح الإمام الخميني. وبرزت مناسبات عديدة تبادل فيه الطرفان رسائل مختلفة حول الثورة والتحركات السياسية سواء في العراق وإيران ولبنان. وبلغ التفاعل بين الرجلين حين وصف الصدر الإمام الخميني بـ"الصدر الأكبر"، وهو وصف لا يخفي على أحد دلالاته الدينية والسياسية الكبرى.
وينتقل الكاتب إلى تجربة الإمام الصدر في العراق، وهي تجربة قلما تعرض له الباحثون عن حياته وأثاره. وبرز في العراق في الحركة السياسية وقربه من الناس بعيدا عن البقاء بين جدران الحوزة العلمية فهو كان يؤمن بأنه بمقدور المسلمين مواجهة تحدي الحداثة والمعاصرة التي يعيشها العالم المتقدم. ويذكر هنا حديث قاله لابن عمه المفكر والفيلسوف الكبير السيد محمد باقر الصدر وذلك قبل مجئيه إلى لبنان: "لا يمكنني البقاء في الحوزة وأُرضي نفسي بالعمل داخل الحوزة على الطريقة التقليدية لمن يبلغون هذا المستوى للوصول إلى المرجعية. وإنني أشعر أن من واجبي أن أكون بين الناس وأن أبدأ بالتحرك من خلالهم ولا تكفيني الحركة الفقهية الاجتهادية". فكان منه أن انخرط في الحياة السياسية في العراق مؤثرا فاعلا فيها مشاركا في تأسيس الاحزاب والحركات الناشطة والحركة العلمية الفاعلة.
المرحلة اللبنانية : مجازفات التأسيس وإشكاليات الحضور
اختلفت الروايات التي تقول بالأسباب الدافعة بالسيد الصدر إلى المجيئ إلى بلد جذوره لبنان، ولكن يبدو أنه كان لديه تصميم محفز للعمل في لبنان بعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين المرجع الديني الأبرز في لبنان في النصف الأول من القرن العشرين. ويذكر أنه كان للسيد الصدر زيارات تمهيدية إلى لبنان خلال حياة السيد شرف الدين الذي كان ينّوه جداً بقامة السيد الصدر العلمية وأنه أهل للمرجعية والخلف من بعده. بالإضافة إلى عوامل أخرى كان لبنان يتميز فيها بالنسبة إلى السيد الصدر للقدوم إليه. ومنها أنه كان الدولة الوحيدة التي تعترف بالمذهب الشيعي في العالم العربي مما يسمح بتركيب الهوية التاريخية للشيعة، الذين كانوا في حاجة إلى القائد القادر على إجراء عملية تحولية كبرى للعبور بالطائفة لتقصي أبعاد نهوضها.
واجهت الإمام الصدر عقوبات جمة لتأسيس حالة نهضوية يقوم بها بالشيعة في لبنان، تمثّلت أولى خطواته بالتنمية الدينية بقيامه بجهد جبار في نشر ثقافة الإسلام المحمدي الأصيل، والعمل على إيجاد حال متوائمة مع تطلعاته الإسلامية المبدعة في تقديم فهم وتفسير حي للدين. فكانت صلاة الجمعة إحياء بارز في الحياة اللبنانية الإسلامية، إضافة إلى المحاضرات القرآنية والعقدية الدائمة والعالية المستوى في الطرح والحضور، وتأسيس معهد الدراسات الإسلامية.
ولا يفوت الكاتب أن يعرّج على طبيعة علاقة السيد الصدر مع رجال الدين، التي اتسمت بازمة منهج وتعايش في أكثر من وجه، إلا أنه كانت رؤية السيد الصدر للأحداث وأسلوبه في التعامل معها تؤكد على الدوام على نفاذ بصيرة عميقة وجادة وحذرة في التعاطي مع كل الملفات الشائكة والحساسة التي يتميز بها بلد طائفي مثل لبنان. إلا أن أهم مستوى عمل عليه السيد الصدر هو قيادة الجماهير وبث روح ودوافع التعئبة السياسية بين صفوفها. ويسجل للصدر هنا أنه اقتحم مجالا انكفأ عنه كثيرون، انطوى تفكيره على وعي استراتيجي تأسس عليه مجمل خطابه وسلوكه الميداني فبرع في تحديد الأولويات، وتولى تشخيص الشؤون الحياتية ذات الطابع الخدماتي في حياة الناس المحرومين، وسلط طريق معارضة الحكم اللبناني بعد أن وصلت حال التردي إلى مستويات قياسية. فاهتم بدراسة حال تعبئة القوى واستغلال الإمكانيات المتاحة لديها وهي إمكانيات غنية لم يتوفر لها الفرص للإنطلاق.
فكان أن حفّز كل المسالك الثقافية للشيعة في لبنان بإطار إيديولوجي ينجسم والهوية الوطنية في تأسيس للتجديد وتحديات الواقع رغم ذلك. فقد كان مليئاً بالإفكار الخلاّقة وبالمنطق الذي تناول به هموم الثقافة ومشكلاتها. وانتقل الإمام بعد مسيرة من الوقت باتجاه فضاء الإصلاح والبناء بعدما أشبع الوضع بالتنظير والمحاضرات وإرساء قاعدة عملية تتقبل ما يدعو إليه من تغييرات كبرى. وظّف فيها السيد الصدر كل مقوماته العلمية ورؤه الفلسفية الإسلامية في سبر غور الإصلاح والتغير في البئية الشيعية في لبنان، التي كانت انذاك تضج بالحركات الليبرالية والشيوعية والعلمانية.
تصوّر الصدر لبناء الهوية اللبنانية :
تحوّلت الطروحات الفكرية والسياسية التي صاغها الإمام موسى الصدر أساساً لعملية الاندماج الوطني، وحجر الزاوية في بناء الدولة الوطنية الواحدة، كما مثّلت المدخل إلى إرساء أسس نظام حكم ديمقراطي تعددي يقوم على العدالة والمساواة والكفاءة والتوازن بين مختلف المكونات السياسية. فاستطاع الصدر أن يرسم على المستوى النظري وبعيدا عن حالة الاستلاب التي تلف بعضا، الخطوط العامة للوطن المفترض والمأمول.
وكان الصدر من أبرز الذين أدخلوا الدين بوصفه عنصراً مقوّماً للوطن بامتداد فلسفي عميق يربط الحرية بالطموح الإنساني، إذ إن الوطن يغطي عنده مجالات واسعة تنصرف إلى معاينة الوجودين المادي والمعنوي على حد سواء، وكذلك المكونات التاريخية والحضارية والاجتماعية والقيمية. وفي هذا الصدد يتعرض الصدر بتحليل نقدي، ما وجده تناقضاً صارخاً في الوقائع الموضوعية والتاريخية والحضارية في النظرة إلى الكيان اللبناني بالقول :" إن لبنان دولة مواجهة، فلا يمكن إلا أن يكون منيعاً يدافع عن شعبه وأرضه، بعد أن عرف الجميع مطامع العدو في الجنوب، ولا يمكن لمجتمعه إلا أن يكون مجتمع جد وحرب لا مجتمع رخاء واستهلاك. إن لبنان دولة تحد، لأنه أمام إسرائيل ، ونتيجة لموقعه الجغرافي. ولا بد أن نعيد إلى اللبناني أفقه الواسع لكي ينتج ويساهم في صناعة تاريخه".
لبنانية الشيعة، تحرير الأوهام وتثبيت الواقع
لطالما اتهم الشيعة بأنهم أقل لبنانية من غيرهم من الطوائف الأخرى في البلد، نظراً لتمسكهم الكبير بالمشروع العربي السوري الكبير، ورفضوا تقسيمات سايكس بيكو ووقفوا أمام المشروع الفرنسي التقسيمي، فهمشوا وتعوطي معهم بلامبالاة، واعتبروا أقل شأنامن غيرهمعلى صعيد الوعي الجماعي وفي مستوى متدنمن حيث الكفاءة السياسية وحرموا من مشاريع التنمية، وبهذا يكون الدولة هي من تخلت عن التعاطي مع الشيعة وليس كما يحاول البعض الترويج له. وما بذله الإمام الصدر في هذا المجال يعدّ الأساس إذ أخرج الشيعة من حيز الهامشية إلى حيز الوجود والحضور والفاعلية، ودفع بطائفته إلى عمق الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية اللبنانية، وذلك عبر خطوان منهجية اتبعها الإمام الصدر والتي يفصّل فيها الكاتب بأسلوب جذاب اجتمعت فيه كل المعلومات والمعطيات التاريخية حول هذه التغيرات الكبرى في تاريخ الشيعة.
وأهم التغيرات التي قام بها السيد الصدر هو إخراج الحوزة العلمية إلى الحياة بكل تشعباتها، رغم كل الضغوطات التي حاصرته حتى من قبل رجال دين وعلماء عارضو مسيرة في البداية خوفا على انحراف أساسيات المذهب، ولكن مع الوقت بدأت تتلاشى هذه الملابسات خصوصاً بعد اتضاح حجم الأثار والدلالات السياسية والثقافية والاجتماعية لأداء الصدر الميداني.
والسيد الإمام وهو يقف خلف كل هذا التغيرات لم يفته الانتباه إلى تاربط الشيعة مع محيطهم الاجتماعي والطائفي الأخر، حيث عمل بجهد كبير على إرساء مفاهيم العيش المشترك في صياغة هوية لبنان وحياة اللبنانيين، إذ وجد الصدر أن ثمة حقيقة إنسانية مهددة بالصميم، ورأى أن مسألة العيش المشترك بنيوية تتصل بكيان النظام والاجتماع اللبناني.
المثاقفة والتفاعل مع الغرب:
لعله قد يفاجئ البعض من هذا العنوان، إذ إن جيل اليوم لا يعرف عن سيرة السيد الصدر أكثر من انه منقذ الشيعة من الحرمان والتهميش، بل هو أيضاً تنبّه باكراً إلى أهمية العلاقة مع الغرب بتبيان ضرورة الحوار وخصوبته بعيدا عن المرافعات الدفاعية الدوغمائية والأحكام المسبقة التي تتحكم بالرؤية الأوروبية للإسلام . ولقد عوّل الصدر كثيرا على بناء علاقة حضارية إنسانية متوازنة تعترف بالعلائق الإنسانية وتتصل بمجمل ما أنجز من معارف وعلوم ونتاجات مختلفة للمبادلة، ولكنها تضع محددات ومحترزات كفيلة بان تحفظ الشرق عموما والمسلمين خصوصاً من اي شكل من أشكال الانسحاق أمام مرجعية الغرب الثقافية.
العلاقات الإسلامية المسيحية، التوافق على القيم الأساس :
ترك السيد الإمام موسى الصدر ذكرى طيبة للغاية عند الفريق المسيحي في لبنان بالعموم، إذ إنه انشغل منذ بدايات وجوده في لبنان بتعميق الحياة المشتركة مع المجموعات اللبنانية، وتنمية الاتصال المباشر بين الإفراد وتنشيط اللقاءات والزيارات في سبيل غنشاء فضاء اجتماعي أكثر اتساعاً، وفي سبيل بلورة انتربولوجيا مفتوحة مترامية قادرة على استيعاب الأنظمة الطائفية الطائفية التي تشكل حاجزا أمام الالتقاء والتواصل في أحيان كثيرة. وتجلت أبرز صور التلاحم التي تحدث عنها السيد الصدر وطبقه بنفسه أن قام بافتتاح محاضرات الصوم الكبير في 20 شباط في العام 1975 في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للأباء الكبوشيين في بيروت بمحاضرة عنوانها "القوى التي تسحق والقوى التي تفرّق". وكان صدى هذه المحاضرة قوياً للغاية. وكان ذلك حدثا غنية بالدلالات أقله أنه الأول في تاريخ الكثكلة. بحسب الرئيس شارل الحلو الذي لم يقدر على إخفاء إعجابه وانبهاره بالصدر.
وفي الختام كتب عن الصدر الإمام والمرجع الديني والطوني الكثير، فقد كتبت عنه إيفلين مسعود في مجلة فرنسية مشهورة عنه ما نصه :"عندما يتوجه الإمام موسى الصدر بكلامه إلى العامة يصعب علينا ان نتبين انتماءه لدين محدد. فلو تسنى له أن يتواجد في كنيسة أو في هيكل وأن يتوجه بالكلام إلى رجال كل الأرض لوجدته منشداً إلى مثال واحد من السلام والعدالة والمحبة. إن مظهره هو أشبه بمظهر نبي قد خرج من الأسطورة كي يتصدى لمشاكل الزمن الحديث، بفكر ثاقب وبقوة رجل الله. تأثيره هو من الدلالة بحيث يساهم في صنع الحدث، وفي أثناء الأزمات يكشف عن أبعاده الحقيقية".
على هذا الأساس كان إصرار الصدر عميقاً بضرورة العبور من نظام طوائفي يعتبره شراً مطلقاً على لبنان إلى نظام يقوم على الحوار ليدخل اللبنانيون قيامة المجتمع والإنسن الحقيقي.
الكتاب يستحق القراءة والمطالعة لجدارته العلمية والتوثيقية خصوصا من أجيال اليوم ليتعرف على قامة تاريخية عريقة أعطت لبنان الكثير من الحب والسلام ودفع حياته ثمناً ليكون لبنان منطلق الهوية الوطنية الواحدة التي يتأهل لها كل اللبنانيين.