ويعتمد الأب تماماً على نفسه كتقني يجيد مهنته بفن وحرفية، والتي تكفيه «شر حياة التسول»، إذ يؤكد أن لديه الشعور بأنه غني الروح، وهو يزيدها غنى، بحسب رأيه من خلال متابعة الموسيقى
ليس هناك ما يشير إلى أنه كفيف، ومن لا يعرفه يدرك بصعوبة أنه أعمى. أما أصابعه الماهرة، فتمسك بالمعدات الدقيقة، لتعيد إصلاحها.. وقد يعتبره الناس فقيراً، غير أنه يؤكد أن لديه شعوراً فائضاً بـ«غناء الروح».
ففي شارع نابلس في مدينة رام الله في الضفة الغربية، وأمام مطعم شهير في المنطقة، يفتح فايز محمد الشافعي، الكفيف الذي يبلغ الـ46 من عمره، كل صباح محله، ويبدأ بتعليق الدراجات والمدافئ وأفران الغاز على واجهته، ليباشر عمله بعد ذلك بإصلاح المعطل منها، أو استقبال الدراجات الهوائية والمعدات الأخرى التي يجلبها الزبائن الجدد أيضاً لتصليحها.
وبحركات أشبه بأعمال السحر المبهرة، تتجه أصابع الرجل الأربعيني مباشرة إلى القطع المعطلة، لتفك «عقدة» من هنا، وتشد «برغياً» هناك. وبسحر اليدين أيضاً، يقرب الشافع مدفأة منه ليفككها، قبل أن يعيد تركيب الأجزاء الصغيرة والكبيرة، ومساميرها الدقيقة، فتصبح صالحة للعمل من جديد. وبعد كل عملية إصلاح، تعلو الابتسامة محيا أبو ماهر، الذي ولد لأسرة لاجئة استقرت في مدينة البيرة المجاورة لرام الله، حيث افتتح والده محلاً لصناعة أفران الغاز وتصليح مدافئ الغاز والمازوت.
وكان بصر الطفل طبيعياً حتى سن السادسة، ثم تراجع تدريجياً إلى أن أصبح كفيفاً بالكامل بعد عشر سنوات. ولأبي ماهر أيضاً ابنان كفيفان، عمل أحدهما أيضاً في المتجر مع والده وجده، حيث تعلم فنون الصنعة.وبعدما فقد بصره تماماً، ولم يتمكن الأطباء من علاجه، كما لم تنجح المحاولات للحد من إعاقته، أكمل ماهر العمل مع والده، ليؤسس لنفسه أيضاً «مصلحة» صعبة، يعجز الأصحاء أحياناً عن فك ألغازها.
لا يعلق أبو ماهر الكثير من الآمال على الدعم الحكومي، ولا على المنظمات غير الحكومية «التي لا تقدم ولا تؤخر»، إذ علّم أبناءه على حسابه الخاص. فماهر الكفيف أيضاً، أنهى قبل عامين الدرجة الجامعية الأولى في اللغة الانكليزية والترجمة الفورية، لكنه لم يجد فرصة عمل حتى الآن، رغم القوانين التي تخصص نسبة خمسة في المئة من الوظائف لذوي الإعاقة. وهو أيضاً يعيش من المشاركة في إحياء الأفراح كعازف ومغن، فيما يحلم بالحصول على منحة لإكمال الدكتوراه في الولايات المتحدة.
أما شقيقه الأصغر محمد، وهو الوحيد المبصر، فقد رفض مواصلة التعليم. وحول قراره، يقول محمد «رأيت أخي، وغيره من المبصرين، يدرسون أربع سنوات ويصبحون عاطلين من العمل، فقلت لنفسي من الأحسن أن أغادر المدرسة وأعمل مع أبي».
ويعتمد الأب تماماً على نفسه كتقني يجيد مهنته بفن وحرفية، والتي تكفيه «شر حياة التسول»، إذ يؤكد أن لديه الشعور بأنه غني الروح، وهو يزيدها غنى، بحسب رأيه من خلال متابعة «الموسيقى التي تصفي روحي وتنقي وضعه النفسي».
(عن «دويتشه فيله»)