يعلن الجندي بعد تنهيدة طويلة أنّه غاضب من المنظومة كلّها التي يقدم فيها السياسيون اليوم مصالحهم على مصلحة أميركا، مضيفاً أنّه ليس نادماً على مشاركته في الحرب أو الأثمان التي دفعها. يصفق الجمهور حماساً لأبطال البلاد.
شغل سقوط الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، وسائل الإعلام العربية والعالمية. وتتالت مشاهد سيطرة المقاتلين الملثمين بأسلحتهم وراياتهم السوداء على المراكز العسكرية، عبر الشاشات الغربيّة. لكن التغطية الأميركية لمستجدات الساعات الأخيرة تحمل دلالات خاصة، خصوصاً أنّ المشهد العراقي اليوم، لم يكن ليبدو بهذه السوداوية والدموية، لولا الاحتلال الأميركي وتبعاته.
نور أبو فرّاج/ جريدة السفير
شحذت «سي أن أن» و«فوكس نيوز» طاقتهما لمواكبة التطورات الجديدة، وإن تظاهرتا بالهدوء، والتعامل مع سقوط الموصل بيد «داعش»، باعتباره ملفّاً ضمن ملفات مهمّة أخرى، كالأوضاع في بنغازي، أو تصريحات هيلاري كلينتون. أعدّت «سي أن أن» خلال اليومين الماضيين، سلسلة تقارير موسعة بعنوان «حصار الموصل: ماذا يحدث؟ ولماذا هو مهم؟».
يعرض أحد تلك التقارير مقتطفات من كلام رئيس البرلمان العراقي أسامة النجفي، وهو يطالب أميركا بالقيام بدورها في دعم العراق ضد الهجمات الإرهابية. يكمل قائلاً: «المعركة كانت أكثر من قدرة الجنود العراقيين المدربين أميركياً على الاحتمال، لذلك تخلّوا عن أماكنهم وزيّهم العسكري وأسلحتهم، تاركين الموصل التي كانت يوماً مثالاً ناجحاً لقدرة أميركا على حفظ الأمن، بقبضة الجماعات الإرهابية ـ الأكثر تطرفاً من القاعدة ـ بعد سنتين ونصف فقط من خروج القوات الأميركية من العراق».
على القناة نفسها، استضاف برنامج «نيو داي» الصباحي، محرّر الشؤون العالمية في مجلة «تايم» بوبي غوش، الذي عدد الخسائر المادية بعد سيطرة «داعش» على المصارف والمراكز العسكرية الحساسة. يقول: «في حوزة «داعش» الآن طائرات هليكوبتر، لا نعلم إن كانوا يعرفون قيادتها». ويكمل في موضع آخر: «هم يعرفون كيف يبيعون النفط في السوق السوداء»، كما لو أنّه يتحسّر لأنّ عمليات السرقة كانت من حصة «داعش» هذه المرة، وليس من حصّة أميركا التي نهبت العراق ودمّرته على طريقة «المارينز ستايل»، بدلاً من «همجية وتوحش الدولة الإسلامية المتطرفة».
وردّاً على سؤال المذيعة عن سبب تلقيب أبو بكر البغدادي بـ«سوبر ستار إرهابيّي العالم»، يقول غوش إنّه «أكثر إرهابي ناجح في الزمن الحالي، أنظروا إلى مساحة البلاد التي يسيطر عليها! بن لادن كان أهم شخصية إرهابية، لكنه لم يرد أن يحكم أو يسيطر على مدينة. أما أبو بكر البغدادي، فيريد السيطرة المطلقة. هو لا يفكر بالحياة الآخرة، بل يريد خلق الإمارة الإسلامية المثالية الموجودة في ذهنه المنحرف». في كلام غوش ما يشي بأن الإعلام الأميركي بدأ يستغلّ الأحداث، لصناعة «بعبع إرهابي جديد».
وإن حاولت «سي أن أن» التظاهر بالقليل من الموضوعية، واكتفت بتقديم إشارت «المآل المؤلم الذي وصلت له الأمور بعد خروج أميركا من العراق»، إلا أنّ «فوكس نيوز» لم تبذل جهداً مماثلاً. قدّمت القناة تغطية «غاضبة»، تهاجم أوباما علانية على قراره إنهاء الحرب في العراق. وهكذا استعاد برنامج «مايك هاكابي» مشاهد سيطرة القوات الأميركية على الفلوجة العام 2004، ثم خروج أوباما ليعلن نهاية حرب العراق. استضاف هاكابي في برنامجه أحد القادة العسكريين الذين شاركوا في القبض على صدام حسين، إلى جانب جندي أميركي.
يخاطب المذيع الجندي: «أنظر إلى نفسك! لقد فقدت قدميك ويدك في نفس المكان الذي ترفرف فيه الآن راية القاعدة، لا يمكنني سوى أن أتساءل، بعد تصريحات هيلاري كلينتون التي تعني أن القرارات التي اتخذت في النهاية كانت لخدمة السياسيين وليس لمصلحتك، ماذا تقول عن كل ذلك؟ هل أنت غاضب؟». يعلن الجندي بعد تنهيدة طويلة أنّه غاضب من المنظومة كلّها التي يقدم فيها السياسيون اليوم مصالحهم على مصلحة أميركا، مضيفاً أنّه ليس نادماً على مشاركته في الحرب أو الأثمان التي دفعها. يصفق الجمهور حماساً لأبطال البلاد.
في المقابل انطلقت بعض الأصوات «الخجولة» تحمّل أميركا مسؤولية ما يحدث في العراق اليوم، من بينها المخرج الأميركي مايكل مور. كتب مور عبر صفحته على «فيسبوك»: «اليوم سقطت الموصل، وخسرت الحكومة العراقية التي قمنا نحن بتثبيتها، الفلوجة والرمادي والموصل ومساحات أخرى واسعة من البلاد التي غزوناها على حساب آلاف الأرواح الأميركية، وعشرات الآلاف من أرواح العراقيين واثنين تريليون دولار». ويكمل: «إنه يوم مجنون آخر في حرب لا أخلاقية وجشعة وغبية، مستمرّة منذ 11 عاماً».
من جهتها، نشرت صفحة «احتلوا وول ستريت» خرائط لانتشار «داعش» في سوريا والعراق وكتبت: «داعش: صنع في الولايات المتحدة الأميركيّة». إلا أن تلك الأصوات بقيت خافتة ومكتومة، لم تعكر صفو الإعلام الأميركي الذي استمر بالتغنّي بأمجاده في احتلال العراق، وتعداد المبالغ التي أنفقتها بلاده لنشر الديمقراطية، «قبل أن تأتي داعش وتخرّب كل شيء». على غرار أي فيلم هوليوودي مبتذل، يعلن الإعلام الأميركي، أنّ العدو الذي دحرته أميركا يوماً، بعد قتل قادته أبو مصعب الزرقاوي وبن لادن، يعود اليوم أقوى من أي زمنٍ، مضى ليسيطر على العالم، ولا بد للبطل الأميركي، من أن يهبّ مرةً أخرى، لإنقاذ الضعفاء والمظلومين.