فاجأت التطورات في العراق حتى أكثر المتشائمين حيال ما يجري من أحداث في هذا البلد العربي الغني بشعبه وثرواته الطبيعية.
علي عبادي
فاجأت التطورات في العراق حتى أكثر المتشائمين حيال ما يجري من أحداث في هذا البلد العربي الغني بشعبه وثرواته الطبيعية. فالإنهيار السريع والمريب لدفاعات الجيش والقوى الأمنية في محافظة نينوى (ثاني أكبر محافظة في العراق من الناحية السكانية بعد بغداد) أمام جماعات مسلحة طرح أسئلة عدة حول مغزى هذا التحول وخلفياته وتداعياته وهل هو مؤقت عابر او سيترك بصمات بعيدة المدى على اوضاع هذا البلد.
بما ان الصُدف في السياسة قليلة، والأمن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة، يتعذر تفسير ما حدث في نينوى من دون ملاحظة الظروف السياسية التي يمر العراق بها. فثمة نقاش حامٍ حول الحكومة المقبلة: شكلها ومن يتولاها. ومن بين السياسيين من يعارض علناً تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء لولاية ثالثة، وهؤلاء يجدون حاضنة من دول اقليمية تناصب المالكي العداء لأنها ترى انه لا يعطي حلفاءها المكانة المطلوبة او لأنها لا تريد زعامة قوية في العراق، او ربما لأنه على صلة طيبة بايران في وقت لم يغادر هذه الدولَ التفكيرُ بأن يبقى العراق حاجزاً طبيعياً في وجه ايران يستنزفها وتستنزفه.
قطع الطريق على المالكي
ولقد جاء توقيت الهجوم على سامراء في محافظة صلاح الدين ومن بعدها على الموصل في نينوى ليضع زعامة المالكي على محك اختبار؛ فنجاح المسلحين- أياً كانت هويتهم- في السيطرة على مدينة رئيسة يضعف بالتأكيد مكانته ونفوذه ويعطي مبرراً إضافياً لخصومه للقول إن سياساته، وليس أي شيء آخر، هي التي أوصلت الأمور الى هذا الواقع. ومعروف ان المالكي يستند الى الجيش لتعزيز موقفه من التمرد المسلح، وهو لم يتراجع أمام الضغوط من هنا وهناك، وسعى في الآونة الأخيرة الى ترويج فكرة تشكيل حكومة أغلبية في البرلمان بعدما حقق نتيجة متقدمة في الانتخابات التشريعية وأكد قدرته على تحصيل تأييد 175 نائباً، أي أكثر من نصف عدد نواب المجلس النيابي. وأرسلت دول اقليمية، من بينها تركيا والسعودية، إشارات انزعاج من تولي المالكي رئاسة الوزراء مجدداً وتحركت لحشد صفوف خصومه.
والحق ان الخلاف ليس طائفياً، وإن اكتسب هذه الصفة في بعض الاوقات بفعل بعض المتشددين او المتنفعين، فللمالكي معارضون في داخل البيت الشيعي، كما في طوائف وقوميات أخرى، وله حلفاء بقدر أو آخر بين الجميع. لكن سياسته القائمة على "مركزة" القرار في العراق لا تلقى استحساناً من العديد من الأطراف السياسية التي ترى انها قد تعيد شبح الدكتاتوريات السابقة، وهي تريد المشاركة في القرار والمنافع السياسية من مناصب وميزانيات، في حين يرى المالكي أنها محاصصة تمثل مظلة "لتناتش" خيرات الدولة وإبقاء القرار رهناً لتوافق قد يتعذر.
الجيش نقطة القوة.. والضعف
وبما ان نتيجة الإنتخابات الأخيرة لم تحسم الجدل حول وجهة الدولة، وبما ان تنفيذ انقلاب عسكري أمر شبه متعذر لأسباب عدة من بينها إمساك المالكي بمفاصل أساسية في المؤسسة العسكرية، جاءت الثغرة الكبيرة عبر فرط عقد الجيش من الداخل، وهو الذي جهد المالكي في تسليحه وتجهيزه خلال السنوات الثماني الماضية. والجيش الطري العود يواجه منذ إعادة إنشائه حرب عصابات شرسة تشنها جماعات متشددة وأخرى من حزب البعث المنحل، موديةً بحياة الآلاف من جنوده وضباطه، وهو في حالة انهاك في بعض المناطق الساخنة مثل الأنبار ونينوى، وقد يكون بعض كبار الضباط أسهموا في تكوين صورة غير دقيقة للوضع العسكري خوفاً من فقدان مناصبهم، وثمة من يتحدث عن حالة غير صحية محيطة بحاشية رئيس الوزراء تؤثر بشكل او بآخر على مقاربة الاوضاع بطريقة واقعية.
وربما تم بناء الجيش بطريقة مستعجَلة بهدف الاسراع في القيام بالمهام الامنية الكبيرة، غير ان ذلك تم من دون عقيدة قتالية واضحة، كما جرت الاستفادة من ضباط في الجيش المنحل لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. والحديث عن خروق في الأجهزة الامنية بفعل الفساد والمحسوبيات والولاءات لم يعد سراً، ومن المثير للدهشة مثلاً ان مجلس محافظة صلاح الدين لجأ خلال الأحداث الأخيرة الى تبديل قائد شرطة المحافظة وتعيين ضابط مدرج على قائمة "اجتثاث البعث" ليكون قائد شرطتها، كما تم الإتيان بنائب له مدرج على القائمة نفسها!
والبعثيون، على رغم ما أصابهم في الفترة الماضية، ما زالوا ناشطين: علناً عبر تنظيمات تحمل أسماء مموهة مثل "جيش الطريقة النقشبندية"، وسراً في داخل الاجهزة الامنية التي كانت لهم فيها حرفة طويلة الأمد، وربما يتبادلون الخدمات مع تنظيم "داعش" وأمثاله، ومن ذلك المعلومات الاستخبارية التي تمكنّهم بصورة مستمرة من خرق نقاط التفتيش الكثيرة والقيام بتفجيرات عديدة في يوم واحد. ولوحظ أن هذه التنظيمات، على ما بينها من تناقض ايديولوجي، قد انتشرت جميعاً في شوارع الموصل في ما يشبه الانقلاب، ثم أخلى عناصر "داعش" الساحة فجأة لمصلحة تنظيمات أخرى واتجهوا ناحية ربيعة غرب الموصل، وفق بعض التقارير! هذا برغم ان "داعش" كانت تؤكد انها لن تتخلى عن شبر واحد سيطرت عليه. ويجزم بعض العارفين بأن "داعش" تنظيم مخترَق من غير جهة ويقوم ببعض الأعمال نيابة عن الجهة التي توكله، وهو ليس إلا واجهة فظة لإسقاط العملية السياسية معتمِداً خطاباً طائفياً مقيتاً.
الرابح الأكبر
اذا أضفنا ذلك كله الى الانسداد السياسي الحاصل في البلاد نتيجة عدم وجود خطة مصالحة عريضة، تتنفس المشكلة أمنياً وعلى نحو يعرّض الوضع برمَّته لأخطار جسيمة. ويبدو ان بعض الكتل السياسية تفضل استغلال اللحظة لفرض شروطها للتعاون مع رئيس الوزراء، وظهر ذلك في عدم تأمين نصاب جلسة البرلمان لمناقشة خطة اعلان حال الطوارئ في مواجهة الوضع الامني. وهكذا يعود العراقيون الى "الجدل البيزنطي": السياسة قبل الأمن، أم الأمن قبل السياسة؟
في المحصلة، تكاتفت عوامل عدة لإحداث خرق في الجسم العراقي: ترهل بنية الجيش، تهامل او تواطؤ بعض القادة العسكريين، غياب التوافق الوطني، الدور الاقليمي المشجع على التمرد لقطع الطريق على ولاية جديدة للمالكي وتعديل اتجاه العملية السياسية، الدور الكردي الحاضن للقادة العسكريين الهاربين والسياسيين المعارضين للمالكي أملاً في إضعاف الحكومة المركزية وليّ ذراعها في شأن التفاوض على صادرات النفط والمناطق المتنازع عليها. ولقد ازحمت اربيل عاصمة اقليم كردستان بالشخصيات التي تبارت في عقد مؤتمرات صحافية لإعلان شروطها ورؤاها وربما لإعلان قرب الانتصار!
وفي وقت يخسر المالكي والنجيفي وغيرهما من الأقطاب في هذا الوضع المضطرب، يبقى اقليم كردستان الرابح الأكبر مما جرى. ذلك ان قوات البشمركة الكردية، وهي الجيش النظامي للإقليم المحكوم ذاتياً، تمددت خارج نطاق الاقليم في ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها بحجة حماية الأكراد المنتشرين فيها، ووصلت الى قضاء طوز خرماتو بمحافظة صلاح الدين، وناحية جلولاء في محافظة ديالى، ونواح عدة في محافظة نينوى، كما خلا لها الجو في كركوك وهي محطة مفصلية في النزاع بين الاقليم والحكومة المركزية. وأصبحت للأكراد اليد العليا في كل ما يجري من دون ان يضطروا لخوض معركة كبيرة، وهم الآن يعرضون - بشروطهم- مساعدة الجيش العراقي في قتال الجماعات المسلحة.
علاجات أو.. الفدرلة
إذا كان من مؤامرة على العراق فلن تنتهي على الأرجح في مدى قريب بسبب كثرة اللاعبين على أرضه وتشتت أهواء بنِيه، ومواجهتُها تتطلب اكثر من القوة العسكرية؛ هناك تحدٍ جدي أمام الحكومة المركزية يتمثل في كيفية توفير المناخ الملائم لحوار وطني جاد بعيد عن الكليشيهات الخطابية، ولا بد في هذا السبيل من استعادة أبناء المناطق الحاضنة للإرهاب عن طريق تحفيزهم ببعض المزايا وإقناعهم، عملياً، بأن الدولة هي لهم ومن مصلحتهم الدفاع عنها واحتضانها. كما تُظهر التجربة الأخيرة ضرورة إعادة بناء الجيش على أسس متينة لا تزلّها الرياح العواصف، ولا بأس في الاتكاء على جهاز رديف من المتطوعين، فهؤلاء قد يكون لديهم حافز للقتال لا يتوفر أحياناً عند العسكري النظامي الذي يتقيد بروتين لا يخرج منه..
لكن التحدي العاجل يتمثل في استعادة المناطق التي اجتاحها المسلحون، وإلا سيتحول الوضع الحالي نقطة قطع مع الحكومة المركزية، وقد يصبح العراق أجزاء مبعثرة تبرر وصفة جو بايدن نائب الرئيس الاميركي عام 2007 بتحويل هذا البلد الى مناطق فدرالية ثلاث على أسس طائفية وقومية.
للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com