فالرجل لم يكن اسما عاديا في المغرب، إنه المهدي المنجرة، عالم المستقبليات الذي اعترف صموئيل هنتنغتــون بأنه سبقـه إلى نظـرية صـدام الحضارات
مات المهدي المنجرة.. هذه هي الجملة التي ترددت في اليومين الأخيرين في المقاهي والبيوت والشوارع المغربية وتناقلتها الصحف والمواقع وعدد لا حصر له من صفحات الفايسبوك وحسابات التويتر.
فالرجل لم يكن اسما عاديا في المغرب، إنه المهدي المنجرة، عالم المستقبليات الذي اعترف صموئيل هنتنغتــون بأنه سبقـه إلى نظـرية صـدام الحضارات، وهو المفكر المزعج الذي ارتاح منه أولئك الذين كان يضايق طمأنينتهم السياسية والاجتماعية في مغرب بدأ يعرف تحولا وتحركـات في الزمن الذي كان فيه المنجرة عاجزا عن الحركة في بيته طوال الفترة الأخيرة قبل أن يسلم الروح لخالقها مساء الجمعة الأخير بعد 81 سنة من الحياة، قضى معظمها في السفـر متعقبـا فـكرة ما، وباحثا عن تفسير لما كان يقع في العـالم من أحداث، محاولا بذلك استقـراء الحاضـر واستشراف المستقبل، هو الذي قال عن نفسه «قضيت معظم حياتي في الطائرة».
عبد الرحيم الخصار/ جريدة السفير
في نهاية الأربعينيات كان المهدي المنجرة في مسبح بمدينة إفران، حين تقدم كلب نحو المسبح وبدأ يشرب منه، طالبت سيدة فرنسية بإبعاده، فخاطبها رجل فرنسي: «ما دام العرب يسبحون في هذا المسبح، فلماذا نمنع كلبا من الشرب منه؟». هذه الجملة أغضبت المهدي الشاب آنذاك وجعلته يدخل في مشادة وشجار مع الرجل الذي لم يكن سوى رئيس فرقة الأمن بالمدينة، والذي لم يتردد في اعتقال المنجرة لأيام. هذه الروح الرافضة للذل ظلت هي ما يحرك المهدي المنجرة طوال حياته.
جنازة المهدي المنجرة كانت درسا مفاده أن صاحب الرأي الحر في هذه البـلاد إذا مات لن يتبعه أحـد، فقلـة قليلـة من أصدقاء الراحل وأفراد عائلته هم الذين شيعوا جثمانه، الجثمان الذي كان أحد حامليه هو الفنان المغربي الـساخر والمعارض أحمد السنوسي الملقب بـ«بزيز» والذي يعاني الحصار هو الآخر منذ سنوات.
رحل المهدي المنجرة الذي كان يقول «كل شيء قد بيع في هذا الوطن»، كان يعتب على المؤرخين المغاربة بسبب هروبهم الدائم إلى القرون الوسطى وتفاديهم الحديث عن الراهن المغربي، ويرى أن كل الأحزاب السياسية فقدت مصداقيتها» ويصنف المغرب كبلد «غير ديموقراطي» متحسرا على «الخونة» الذين أوصلوا «الوطن» إلى ماهو عليه.
في إحدى محاضراته شبه المغرب بسيارة مهترئة يمسك مقودها البنك الدولي والسفارتان الفرنسية والأميركية، والطريق ضباب والمرايا العاكسة لا تساعد على رؤية ما يوجد في الخلف من تاريخ، وهذه السيارة المعطوبة لا يعمل فيها سوى نظام الفرملة الذي يطالبك «الأمن» باستخدامه في كل حين كي تتوقف هذه السيارة ولا تتقدم خطوة واحدة نحو الأمام.
لم يكن هاجس المهدي المنجرة تأليف كتب نظرية وفكرية مبنية وفق منهج متكامل ومتناسق، كان مشغولا طوال الوقت بتقديم شهادات وانطباعات مصدرها ذلك الهم الإنساني الذي يشغله، وتلك النار التي كانت تعتمل في داخله، هو الحالم بعالم أفضل وبمستقبل مضيء يقطع مع الماضي القريب الغامض والملتبس. فأفكار الرجل كانت تتدفق في مئات المدرجات التي حاضر بها في مختلف القارات، وفي مئات المقالات المنشورة بالصحافة، التي ضمتها بعض كتبه المعروفة مثل: «نظام الأمم المتحدة» 1973، «من المهد إلى اللحد» 1981، « بلدان المغرب والفرنكوفونية» 1988، «الحرب الحضارية الأولى 1991، «حوار التواصل» 1996، «القدس رمز وذاكرة» 1996، «عولمة العولمة» 1999، «انتفاضات في زمن الذلقراطية» 2002، «الإهانة في عهد الميغاإمبريالية» 2004، و«قيمة القيم» 2007.
منذ سنوات تنبأ الرجل بما عرفـه ويعـرفه العالم العربي من حركات احتجاجية، كما أنه - رغم ما قد يبدو من حين إلى آخر في خطابه من تشاؤم - متفائل بخصوص المستقبل المغربي، حيث رأى أن الأجيال القادمة ستكون أكثر ميلا إلى العدالة الاجتماعية وأقل إحساسا بعقدة النقص التي عانت منها الأجيال السابقة.