المفارقة أنّه في الوقت الذي كانت تسعى فيه إيران لإعادة التوازن إلى علاقتها مع السعودية صعدت الأخيرة استراتيجياً. تصعيد غير مأمون الجانب لأنّه يقوم على خراب القيم قبل خراب البلدان
الحلول التي وُضعت في طريق علاج العلاقة الشائكة بين إيران والسعودية كانت إما ملغومة أو مبتورة، أو في أحسن الأحوال مفتقدة للحظّ والفرص الملائمة لنجاحها.
فشلت محاولات الترويض والتدجين والتوليف في تحسين شروط العلاقة بين البلدين بنقلها من حالةٍ ضدّية صراعية إلى مستقر التفاهمات الدولتية المصالحية، ومن مدار الأيديولوجيا إلى دوائر السياسة، ومن عوالم الهواجس إلى آليات التنافس.
خريطة الأزمات طيلة ثلاثة عقود وأكثر، نمت وتوسعت حتى وصلت مفرزاتها السلبية إلى انبعاث الحقد والكراهية في معظم العالمين العربي والإسلامي، وفتحت المجال واسعاً للتناقضات التي عكست صورة التغاير الحاد والعميق بين نشأتين: إحداهما إسلامية شعبية، والثانية مذهبية عصبية، وبين مسارين: أحدهما يقوم على الثورية ومواجهة الاستكبار بكل امتداداته، والآخر يعيش على ممالأة الدول الاستعمارية القديمة والحديثة التي أعطت المنطقة شكلها الجيو - سياسي المعروف منذ «سايكس ــ بيكو».
وتعتبر التداعيات الأخيرة في مدينة الموصل العراقية تطوراً مفرطاً غير مسبوق في خطورته على العلاقات بين البلدين. السعودية المتضررة من تقدم المفاوضات النووية بين كل من 5+1 وإيران، ومن تفاهمات بدأت تخرج تفاصيلها إلى العلن بين الأميركيين والإيرانيين حول ملفات أهمها مكافحة الإرهاب، ومن اتفاقات اقتصادية واسعة بين طهران وأنقرة، وأهمها احتفاظ الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالسلطة في بلديهما، وجدت ومعها بعض الدول أنّ عرقلة كل هذه النتائج تكمن في دعم الداعشيين والتركيز على بث النزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية التي من شأنها إضعاف الثقل الإستراتيجي لما يسمى بـ«محور المقاومة والممانعة».
لذلك، رأت السعودية التي تقع اليوم على قمة التشاؤم بعد ورطتها الدموية في سوريا وإخفاقاتها الجسيمة في العراق أن تستمر في لعبتها بالانتقال كليّاً وعلى نحو فاضح من مجال السياسة إلى مجال الإرهاب . طبيعة التهديدات الوجودية التي تتعرض لها المملكة الشائخة المشابهة لتلك التي تتعرض لها إسرائيل المضطربة جعل الطريق بين الكيان الوهابي والكيان الصهيوني لضرب إيران وحلفائها معبّدة.
الكيانان يشتركان في كثير من الأفكار والأهداف فلِمَ لا يترجمان ذلك في مهمة تستهدف القضاء على العدو المشترك؟ وكما يقول وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد: «المهمة هي التي تحدد شكل التحالف وليس العكس». فكلا الكيانين ينتابهما هاجس يومي حول أمنهما الوجودي والجغرافي. إسرائيل سوّرت نفسها بجدار من العنصرية والسعودية بجدار من العصبية. وردّتا على «صحوة» الإمام الخامنئي الإسلامية بصحوة عنصرية وصحوة مذهبية. أما الإستراتيجية المعلنة التي يراد من ورائها إحداث تغيير كبير في صورة المنطقة فهي إستراتيجية الإرهاب كتدبير للبقاء والاستمرارية والتحكم والهيمنة.
التساكن المضطرب الذي حكم العلاقات الإيرانية ـ السعودية يتجه اليوم إلى دخول مسار انفجاري بعد التطورات في الموصل. ما حصل يمسّ الأمن القومي الإيراني في الصميم. بالقطع هو أخطر من القواعد الأميركية المنتشرة على أرض الممالك العربية والدول المتاخمة لإيران لكونها محكومة بسقوف استراتيجية شديدة التعقيد والحساسية، وأي تهديد يخرج منها ستكون له ارتدادات كارثية النتائج على مستوى العالم كله، بينما تخلية سراح الداعشيين ليذرعوا على طول الحدود مع إيران سيكون بلا سقوف وضوابط سياسية أو أخلاقية وستكون أضراره أكيدة لجهة استنزاف القدرات الإيرانية كما حصل إبان حرب الخليج الأولى. لن تسمح إيران بوصول النار إلى أسوارها، وهذا الموقف عبّر عنه صراحة وبلا وجل الرئيس حسن روحاني في إشارة إلى عزم إيران التحرك واتخاذ كل الإجراءات لحماية أمنها والدفاع عن سيادتها.
المفارقة أنّه في الوقت الذي كانت تسعى فيه إيران لإعادة التوازن إلى علاقتها مع السعودية صعدت الأخيرة استراتيجياً. تصعيد غير مأمون الجانب لأنّه يقوم على خراب القيم قبل خراب البلدان، وعلى تلاشي الحدود التي لن يكون بعدها إمارات وكيانات بل سفاحون يمارسون طقوس القتل على كل من يخالفهم الرأي، وعلى جهلة يفتون بقطع التيار الكهربائي طيلة شهر رمضان، لأنّه شهر للعبادة.
يمكن للسعودية العثور على إرهابيين ينفذون مخططاتها، ويمكن لها أن تقول «دع الإرهاب يعمل، دعه يمر». وستنجح في أن يعمل، لكن قطعاً سيمر فوق أراضيها.