ما حصل، من حولنا، أن اللعب على حافة الهاوية لم يعد مجدياً. انتقل الجميع إلى اللعب في الهاوية، لكسر الجمود أو للتعويض عن الخسائر. ولبنان مدمن اللعب على حافة الهاوية... ماذا لو؟
سؤال يثير الهلع. الجواب برسم التشاؤم. الإجراءات الأخيرة، من نوع المهدّئات. ما يحوم في المنطقة، فصل من فصول الجحيم. فصل لم تعرفه منذ قرون.. لنا الحق والأهلية في أن نتوقع الكارثة. فالبرابرة على الأبواب، وداخل التفسخات الكثيرة في الجدار اللبناني الركيك.
«داعش» في لبنان؟
المقارنة جائزة: كما في العراق، كما في سوريا، كما في اليمن، كما في الصومال، كما في السودان... هل كذلك في لبنان؟..
أوجه الشبه كثيرة وتبلغ حدّ التطابق. دول متذابحة. «شعوب» تتقاسم القتل والثأر. انقسامات عمودية طاعنة تاريخياً، معمِّرة من أزمنة الردة، متينة الارتباط بالاثنية والدينية والطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والجهوية. شديدة الرسوخ في الفقه الديني والموروث الاجتماعي والتقليد المنغلق... شعوب تدأب على التخندق والعداء. تقودها دهماء برتبة قائد أو أمير أو ملك أو مفتٍ أو مرجع أو ديكتاتور صغير، بعنف كبير.
«داعش» في لبنان؟
نكاد نشبه دولاً تقف على حافة الهاوية. لدينا ما لديهم. والاختلاف قليل. لدينا طوائفيات متناحرة، انتحرت خمسة عشر عاماً، في حروب دُعيت: «حروب الجميع ضد الجميع». لدينا مذهبيات، متآخية أو متصالحة أو متحالفة مع مذهبيات إقليمية، تشرخ سوريا «القومية» (ولى ذلك الزمن) عراق «الوحدة» (دُمر ذلك الهدف النبيل)، ليبيا «الجماهير» التي صارت واحداً أحداً، لما انفرط، تحولت إلى قواعد لـ«القاعدة»، وقواعد لقوات محلية متقاتلة على كل الجهات، وبكل أنواع القتل. لدينا ما يشبه هذه الدول البشعة، التي لم تعد دولاً، بل «شعوبا وقبائل لتحاربوا»، لا «لتعارفوا».
ليس لدينا سلطة واحدة. ليس عندنا دولة واحدة. ليس عندنا شعب واحد. ليس عندنا سياسة خارجية واحدة. ليس عندنا ولاءات موحدة. ليس عندنا هوية واحدة. ليس عندنا ماض واحد. ليس عندنا مستقبل واحد. حاضرنا الواحد، متعدد ومأزوم ومغلق من الداخل، ومفتوح على معارك وميادين المحيط... لدينا طوائف مع الأنظمة القائمة المأزومة، في الشام وبغداد، ولدينا طوائف ومذاهب ضدها ومع معارضات مسلحة، ولو لبست ثوب الدين، أو عفواً، ثوب السيف بلا دين. لدينا حواضن خصبة لسلفيين وإسلاميين، وهي حواضن معلنة، كما لدينا حواضن لأنظمة ومذاهب معلنة ومعقدنة ومسلّحة.
لدينا ما لديهم، باستثناء واحد، هو أن اللبنانيين لم يلجأوا بعد، وقد لا يلجأون، إلى العنف المباشر والشامل الذي يهدف إلى الحسم وتغيير موازين القوى.
العنف بالوكالة لم يعد مجدياً. طرابلس نموذجاً. لكنّ الخطر هذه المرة، أن «داعش» لم يعد بحاجة إلى حاضنة تدعمه. فقوته الراهنة، أثبتت تفوقها في اجتياح مناطق في سوريا والعراق، كان من المستحيل تصور إنجازها. «داعش» صار «دولة» حاضنة، تمتد من العراق إلى سوريا وطموحها «غزو لبنان».
هذا مستحيل؟
ربما. وما كان مستحيلاً قبل أسابيع، بات يهدد بغداد، بات يفجر الشرق الأوسط، بات يقرع أبواب الشمال السوري، وينظر عن قرب إلى لبنان. ولبنان الذي عرفناه، كان محروساً بعناية مذهبية. فلا تمس منطقة أو يمس فريق، خوفاً من السقوط في الهاوية.
ما حصل، من حولنا، أن اللعب على حافة الهاوية لم يعد مجدياً. انتقل الجميع إلى اللعب في الهاوية، لكسر الجمود أو للتعويض عن الخسائر. ولبنان مدمن اللعب على حافة الهاوية... ماذا لو؟
خريطة الطريق إلى الهاوية باتت معروفة. الفراغ يدشن السقوط. الحكومة المعطوبة بالتذاكي الطائفي، توسع الطريق. المجلس المعطل بالانتهاز المذهبي والمصلحي، يقرّب لبنان من الفاجعة. المرجعيات الأمنية المتحصّنة بالخصوصيات، مصيبة وفضيحة مدوّية. الاتكال على الجيش وحده... لقد جرب هذا الحل مراراً وأخفق. الجيش وحده، يتحوّل بلا سند سياسي وشعبي متين، إلى لاعب وحيد، لا حول له ولا قوة.
المناعة اللبنانية ليست بمستوى صحي لصد الأعاصير الخارجية والاجتياحات الإقليمية. فلا لبنان بقوة النظام السوري وجيشه المدعوم بأحلاف إقليمية ودولية، ولا هو بقوة العراق وصفوفه المتراصة وجيشه المليوني الذي لم يصمد أمام آلاف فقط من المقاتلين الإسلاميين. ولا تتوافر للبنان حمايات إقليمية ودولية فاعلة ميدانياً (الحمايات الشفهية لم تعد كافية). هو على العكس من ذلك، يتعرض لنوبات من الصراعات الإقليمية الدامية، تحديداً ما بين إيران والسعودية، وبعض قواه السياسية المذهبية منخرط سياسياً ولوجستياً وعسكرياً في هذه المعارك. فإذا كانت سوريا معدية للعراق، فقد تكون معدية أكثر للبنان.
لبنان المنقسم والمبعثر عاجز عن حل مشكلاته الداخلية، وهو مرشح للمزيد منها، وهو يستعد للمزيد من التورط إقليمياً. فلم يعد مجدياً، لا «النأي بالنفس» ولا «إعلان بعبدا». فالمستجد إقليمياً بعد اجتياحات «داعش»، يحتاج إلى منطق لبناني وطني عام، سياسي ملتزم، وأمني فعال وعسكري قادر على الصد، وهو غير متوافر في لبنان. إن قوى لبنانية لا تتحسس رأسها أو رأس البلد. إنها تتحسس أكثر مواقع أقدامها وفوهات معاركها.
ماذا لو قيل لنا: «داعش» على الأبواب؟ من سيتصدى له؟ هل فات الأوان أم أن هناك متسعاً من الاستعدادات والتحضيرات والخطط والإنذارات للمواجهة؟ هل يمكن التصدي، وفي لبنان بؤر محمية مذهبياً. أين؟ في السجون أم في مخيمات محتلة بالقوة والخوف؟ لم تسقط الموصل بقوة «داعش» القادمة من خارجها. سقطت بيد الخلايا النائمة فيها؟ ماذا لو قررت الخلايا أن تظل نائمة، وتتوقف عن «اللعب» بنار الانتحاريين والسيارات المفخخة، بانتظار «اليوم الرهيب» فنستيقظ، ونجد مناطق في لبنان، قد أضحت إمارة داعشية.
الحدود اللبنانية السورية التي تم «تطهيرها»، تؤمن سلامة لبنان مؤقتا. ولكن ذلك ليس كافياً. العبور إلى لبنان، له ممرات كثيرة غير مجهولة.
لبنان دخل رسمياً الحرب على الإرهاب. السؤال هو كيف؟ مع من؟ بمن؟ بماذا؟ لا جواب، غير الجواب الأمني، وهو ليس كافياً.
«داعش» في لبنان؟
ليت لا.