25-11-2024 02:15 PM بتوقيت القدس المحتلة

العوامل المؤسِسة لاضطراب العراق.. والمنطقة

العوامل المؤسِسة لاضطراب العراق.. والمنطقة

الى أين يمضي العراق؟ وما هي الأجندات التي يعمل عليها الأطراف المحليون والإقليميون والدوليون لترتيب مستقبل هذا البلد المنكوب الذي تتالت عليه حملات القمع والحروب والحصار والاحتلال والإرهاب؟

 علي عبادي


الى أين يمضي العراق؟ وما هي الأجندات التي يعمل عليها الأطراف المحليون والإقليميون والدوليون لترتيب مستقبل هذا البلد المنكوب الذي تتالت عليه حملات القمع والحروب والحصار والاحتلال والإرهاب؟ وهل هي صدفة أن الاحتلال الذي خرج نهاية 2011 من الباب يعود اليوم من الشُباك مستفيداً من الأحداث الأخيرة ليستحصل على حصانة قضائية "لمستشاريه" عزّ عليه تحصيلها قبل ثلاث سنوات؟ وهل صحيح أن الهدف من كل ما يجري على أرض دجلة والفرات تغيير رئيس الوزراء أو الحكومة، أم الإنقلاب على العملية السياسية القائمة على معطيات انتخابية، أم الحسابات أبعد من ذلك تطال مستقبل العراق كدولة موحدة؟

مع اندفاع الجماعات المسلحة الى الإستحواذ على مناطق واسعة في شمال بغداد، إندفعت جهات عربية للحديث عن "الإقصاء والتهميش الطائفي" تبريراً لقيام تمرد مسلح تجاوز المطالب المناطقية الى الدعوة لتغيير العملية السياسية برمتها. ويوحي الحديث عن "الإقصاء والتهميش" بأن العالم العربي، ومنه الدول التي تتحدث بهذه العبارات، لا تربطه رابطة بهذه المشكلة وان الأمر محصور بالعراق لا غير. ويفيد الواقع ان المشاركة السياسية في البلدان العربية ليست حقاً من حقوق المواطنين وإنما هي منّة من الحاكم يجود بها على رعاياه على شكل انتخابات بلدية، جزئية او كاملة، او نيابية او رئاسية، والمطلوب من الرعايا في بعض الممالك والإمارات السمع والطاعة فحسب. كما ان الحق في التعبير مشكوك في شرعيته، فذلك هامش يضيق ويتسع بحسب ضيق واتساع صدر السلطة. ولذلك تأتي هذه الدعوة في اتجاه العراق مشوبة ببعض الغايات وتفتقر الى المصداقية، في حين ان العراق- برغم علله الكثيرة - يشهد على تنوع سياسي وانتخابات منتظمة تقود الى تشكيل حكومات بصورة لا تعرفها دول عربية عديدة.


توظيف خطاب "الإقصاء والتهميش"
يركـّز خطاب "الإقصاء والتهميش" على العرب السنة الذين يشكلون نحو 20 بالمئة من سكان العراق، والذين حكموا البلد على مدى ثمانين عاماً ابتداءً من تاريخ الاحتلال البريطاني عام 1920 الى تاريخ الاحتلال الاميركي عام 2003.

هؤلاء احتكر "حزبُ البعث" تمثيلهم، كما تمثيل كل العراقيين، في زمن العهد السابق، وهو بنى أغلب قياداته وكوادره وقواعده من صفوفهم. وفي مرحلة ما بعد الاحتلال، لم يجر الحزب أية مراجعة نقدية تتناول أداءه في السلطة، بعدما جرّ العراق من بلد متقدم اقتصادياً وعلمياً الى بلد فقير مكدس بالمقابر الجماعية ليقع أخيراً تحت الاحتلال. تبنى "البعث" نهجاً يرفض في العلن كل ما استجدّ على ساحة العراق من انتخابات وحكومة ووقائع سياسية، وفي الباطن يرنو الى استعادة السلطة باعتبارها "حقاً" مكتسباً له دون العالمين او القبر! والى جانب البعث العراقي الذي أصبح جناحين، وُلدت جماعات بعيدة عن الواقع السياسي وأحياناً المنطق السياسي، لا شغل لها إلا إفشال العملية السياسية عن طريق الاغتيال والعنف واستهداف الجيش والشرطة وأجهزة الدولة والمواطنين في الشارع لزرع اليأس والإحباط. وهذه ترفع شعارات كبيرة تخاطب بها نفسها، لكنها لا تملك برنامجاً سياسياً جامعاً. وهي تستند الى تغذية السنة العرب بمنطق "المظلومية" وتتحسر على أمجاد العراق التي ذهبت بها مغامرات النظام السابق.

فشل هؤلاء في استيعاب الحقائق الجديدة في العراق، وفي المقابل فشلت الحكومة في استيعاب شريحة هامة من العرب السنة، بل وأشعرتهم من خلال بعض الممارسات بأن مشاركتهم - إن تمت- لن تغير كثيراً في المشهد السياسي انطلاقا من منطق الأكثرية والأقلية، فعملوا بجهد لاستخدام خطاب عالي التوتر يستنفر العصبية "السنية" ضد الحكومة بل وأحياناً ضد العملية السياسية. ومنطق الأقلية والأكثرية لا يشكل لوحده قاعدة صلبة لبناء نظام سياسي في أي بلد، فكيف ببلد لم يتعافَ بعد من تشوهات المرحلة الماضية؟

والواقع ان العراقيين جميعاً يعانون بشكل او آخر من التهميش والمظلومية. فبلادهم التي تعوم على النفط ويخترقها نهران من أهم الأنهار في المنطقة لم تجد بعد طريقاً للإفادة من الثروات، بفعل تدخلات خارجية لا تريد التسليم بواقع التغيير في العراق لأسباب سياسية ومذهبية، اضافة الى الصراع السياسي الداخلي والفساد والمحسوبيات. وكان المسلمون الشيعة من الفئات المتضررة وربما الأكثر تضرراً على صعيد التنمية في الفترات السابقة، ولم يتحسن وضعهم كثيراً في المرحلة الحالية بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني وضعف الأداء الحكومي. كما ان المسلمين السنة العرب عانوا في العهد السابق، ولو انهم استفادوا منه أكثر من غيرهم.

لكن عدم قدرتهم على التكيف مع الواقع السياسي الجديد بسبب افتقاد القدرة على التأثير، قياساً على العهود الماضية، خلق نوعاً من الشعور بالإحباط، الأمر الذي فتح الباب أمام علو كعب التطرف الذي ينادي تارة بقلب العملية السياسية، وتارة يطالب بإقليم سني. وزاد الحديث عن الاكثرية والاقلية سواء في الميزان السياسي (التكتل في البرلمان) او الميزان الطائفي من حدة هذا الشعور، مضافاً الى شكاوى أخرى أمنية ومطلبية. والمهم اليوم هو ايجاد صيغة تكفل الاستقرار والمشاركة وتعزز التنمية في المحافظات وتعزل المتطرفين الذين يستبيحون كل المحرمات ويريدون عودة عقارب الساعة الى الوراء.


تراجع مكانة الحكومة المركزية
تتشبث الحكومة العراقية بفكرة إقامة سلطة مركزية قوية، انطلاقاً من الحاجة الى الحفاظ على وحدة العراق وإغلاق الأبواب أمام التدخلات الخارجية التي تتم عبر قوى محلية تستقوي علناً بدول اقليمية، مما يحدث استقطابات حادة، كما حصل في قضية طارق الهاشمي النائب السابق لرئيس الجمهورية الذي حظي بدعم تركي علني في صراعه مع رئيس الوزراء نوري المالكي، وكما حصل مع أياد علاوي الذي يحظى بدعم سعودي. وبرغم ان العراق يتبع نظاماً إدارياً يقوم على إعطاء صلاحيات هامة لمجالس المحافظات المنتخبة، وبرغم التنوع السياسي الذي يسمح بتوجيه انتقادات لجميع المسؤولين، فإن التجربة العراقية الوليدة تجد حنيناً دائماً الى القيادة المقتدرة الممسكة بزمام الأمور، للتخلص من الآثار الجانبية للصراعات السياسية. لكن عدم تمكين الحكومة، معطوفاً على التدخلات الخارجية المؤثرة المستفيدة من عدم وجود توافق وطني، لا يسمح باستعادة "أمجاد" العهود الماضية. ومن الضروري القول ان الواقع المحيط بالعراق أكبر من قدرته على حكم نفسه بنفسه.

لذلك، فان الحكومة المركزية لم تنجح في فك الاشتباك مع حكومة اقليم كردستان، بسبب طموحات الأخيرة ونزوعها نحو الاستقلال في تصدير النفط والسياسة الخارجية، وقد أفصح رئيس الاقليم مسعود البرزاني بفجاجة عن هذا الطموح في مناسبات عدة وآخرها عندما أعلن قبل أيام انه سيطرح استقلال الاقليم على وزير الخارجية الأميركي، وكذلك عندما حسم مصير مدينة كركوك المتنازع عليها لمجرد وضع البشمركة اليد عليها، قائلاً ان "دخول قوات البيشمركة الى محافظة كركوك أنهى المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، وهذه المادة أُنجزت ولن نتحدث عنها بعد الآن".

علماً ان المادة المذكورة  تتحدث عن اجراء استفتاء بين مكونات المدينة لتحديد مصيرها بالانضمام الى كردستان او البقاء مع الحكومة المركزية. وأيضاً، فإن بعض القيادات السنية باتت ترفض وجود سلطات واسعة بين يدي الحكومة المركزية، وهي على ضوء خروج بعض المحافظات من يد الحكومة صارت تتحدث عن "إقليم سني". واذا كان البعض يرى في هذه المواقف المتشددة جزءاً من استراتيجية تفاوض مع الحكومة المركزية، فإنها تطرح بجدية استمرار العراق بصيغته الراهنة والتي تتهددها اتجاهات انفصالية سواء في المستقبل القريب او البعيد. وهذا الوضع يستدعي ربما إعادة النظر في كيفية الحفاظ على الهيكل العراقي من الإنهيار والخروج بأقل الأضرار.


التدخلات الخارجية
يتوقف مصير العراق الى حد كبير على الأدوار التي تقوم بها الجهات الخارجية. وفي ضوء حالة عدم الاستقرار العراقية وامتداداتها الإقليمية وتنامي جذور التطرف بصورة أسوأ مما شهدنا في سوريا، لم يعد التنافس على العراق ذا جدوى كبيرة بالنسبة للدول المحيطة وللدول الكبرى أيضاً. وفي حال استمرار بعضها في الرهان على تحقيق مكاسب او رؤية الآخرين يخسرون من جراء هذا النزف، فإن الأمور ستأخذ منحى أسوأ. وليس واضحاً مدى جدية الولايات المتحدة في حشد جهود حلفائها في مواجهة "داعش" في وقت تطمح لاستعادة دور عسكري بعيد المدى في العراق يقوم على وجود قوة من النخبة بصفة "مستشارين" عسكريين محصنين قضائياً ووجود أسطول من الطائرات الحربية المأهولة او بدون طيار، الى جانب أشكال عسكرية أخرى.

وتبدو الولايات المتحدة كمن يحاول الإفادة من ضعف العراق لتأسيس تحالف إقليمي (يضم السعودية والإمارات والأردن) يسهم في تقويض سيطرة "داعش" وتقوية الأطراف المعارضة المنافسة لها في العراق وسوريا، تأسيساً لتسويات مقبلة غير واضحة المعالم بعد. وجاء في هذا الإطار طلب الرئيس الاميركي من الكونغرس الموافقة على تخصيص نصف مليار دولار لتدريب وتجهيز جماعات مسلحة "معتدلة" في سوريا، وعدَّ من بين أهداف هذا التمويل "مواجهة التهديد الارهابي وتسهيل الظروف للتسوية عن طريق التفاوض". واذا كانت الولايات المتحدة سارعت الى ارسال 300 عسكري الى بغداد بدعوى "تقييم قدرات القوات العراقية" وحركت طائرات بدون طيار فوق العراق لـ"جمع المعلومات"، فهي تتمنع عن القيام بأي جهد حقيقي لدعم قدرات القوات العراقية في مواجهة "داعش" سواء عبر تزويدها بالمعلومات الاستخبارية المتوفرة لديها او عبر توفير طائرات مقاتلة طلبتها الحكومة العراقية أخيراً ولم تجد طريقها الى بغداد بعد.

ويقول مطلعون إن المسارعة في ارسال ضباط أميركيين الى بغداد برغم قرار اوباما عدم التدخل لا تفسير له سوى ان عين واشنطن مركزة على ايران التي أرسلت- وفق تقارير اميركية - طائرات بدون طيار لمساعدة الجيش العراقي في جمع المعلومات ووفرت خبراء عسكريين لتقديم النصح للقوات العراقية. والجانب الأميركي لا يريد لإيران ان تسهم في إعادة تكوين الجيش العراقي بصورة فعالة حتى تـُبقيه رهناً لخطواتها واستراتيجيتها الكبرى في المنطقة.

وثمة في المقابل من يفترض ان الإدارة الأميركية، التي تحث الخطى للتوصل الى اتفاق حول البرنامج النووي الايراني، تحاول ملاقاة ايران في منتصف الطريق في العراق عبر مماشاتها في تقديم دعم مبدئي لرئيس الوزراء نوري المالكي من أجل تشكيل حكومة جديدة موسعة على أمل إنشاء تفاهم سياسي مع ايران يترافق مع التحالف الإقليمي المشار اليه آنفاً. لكن طهران تتوجس من النوايا الأميركية، وهي ترى - كما عبّر الإمام السيد علي الخامنئي- أن "الشعب والحكومة والمرجعية الدينية في العراق قادرون على إخماد نار الفتنة، وان قوى الهيمنة الغربية- وخصوصاً نظام الولايات المتحدة الأميركية- تسعى لاستغلال عصبيات عدد من العناصر العميلة لحرمان شعب العراق من المنجزات التي حققها، وأهمها السيادة الشعبية.."

وفي هذا المشهد الخارجي، يبقى صوت تركيا غائباً بما يطرح علامات استفهام حول طبيعة دور انقرة التي تتقاسم الثروة النفطية في كردستان وكركوك مع حكومة الإقليم، وخلفها قطر التي تشجع التمرد من وراء الستار. الأمر الذي قد يكون عائقاً امام أية مساع أو حلول للأزمة العراقية.

للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com