المقدمات الصحيحة قد تؤدي إلى نتائج صحيحة إذا توافر لمسيرة التنفيذ ما يلزم من شروط موضوعية وذاتية، وفي مقدمها استمرار الدراسة والتقويم وإدخال التعديلات المطلوبة بما يتناسب وتطور الحوادث في كل مرحلة من مراحل التنفيذ.
د. حسن أحمد حسن
المقدمات الصحيحة قد تؤدي إلى نتائج صحيحة إذا توافر لمسيرة التنفيذ ما يلزم من شروط موضوعية وذاتية، وفي مقدمها استمرار الدراسة والتقويم وإدخال التعديلات المطلوبة بما يتناسب وتطور الحوادث في كل مرحلة من مراحل التنفيذ، أما المقدمات الخاطئة فهي حتماً تقود إلى نتائج خاطئة.
والمتابع لتطور الحوادث وتداعياتها على الساحتين الإقليمية والدولية لا يجد كبير عناء في اكتشاف أن أطراف التآمر والعدوان على دول المنطقة وشعوبها أتقنوا تسويق مقدمات خاطئة وكرسوا إمبراطوريات إعلامية لتكرارها والتعامل معها على أنها من المسلمات، إلى أن أصبحت مقدمة لازمة للحديث عن هذا الموضوع أو ذاك.
وما يزيد الطين بلة أنّ الكثير من أصحاب الأقلام والتحليلات السياسية والاستراتيجية لا يجهدون أنفسهم في مناقشة ما يظنه العامة مسلمات من جراء التضليل الإعلامي والثقافي الممنهج، وهكذا نجد الكثير من الدراسات والتحليلات تنطلق من المقدمات التي فصّلها أعداء الشعوب فتكون النتائج خاطئة بالضرورة لأنها انطلقت من مقدمات مسبقة التصنيع وخاطئة بالمطلق، ولعلّ الشاهد الأبرز على ذلك موضوع الإرهاب الممنهج الذي يعصف بدول المنطقة.
وللحقيقة والإنصاف لا بد من الاعتراف بأن الإدارات الأميركية المتعاقبة نجحت في تسويق واشنطن كعدوّ للإرهاب وقائدة كونية للحرب ضد الإرهاب، وهذا محض افتراء، وإن كان أضحى لدى فئات مجتمعية واسعة كمسلّمة لا ضرورة للتفكير بها، وهنا تكمن الطامة الكبرى.
بعيداً عن مدى صدقية الرواية الأميركية حول حقيقة ما جرى في الحادي عشر من أيلول 2001. والتشكيكات التي صدرت ضمن دراسات أكاديمية تفنّد صحة تلك الرواية وتدحض صدقيتها، فمن حق المتابع العادي أن يتساءل: لماذا لم تتخذ الإدارات الأميركية أي إجراء في حق السعودية، بعدما ثبت أن أكثر من ثلثي مَن اشتركوا في تلك الأعمال الإرهابية سعوديون؟ وهل تستطيع إدارة أوباما أو غيرها من الإدرارت المتحالفة معها أو المشتغلة في كنفها أن تنكر أنّ القاعدة بكاملها صناعة الاستخبارات الأميركية بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية فكانت العربة «القاعدية» التي جرّتها الاستخبارات السعودية؟ وهل دسّت واشنطن أنفها النتن في أيّ بقعة جغرافية على سطح الأرض ولم تكن النتيجة أنهاراً من الدم والقتل والخراب والإرهاب الذي انتشر وتجاوز الحدود الجغرافية لأيّ دولة تستبيحها جيوش «الديمقراطية» الأميركية؟ وإذا أردنا التوقف عند ما يعصف بمنطقة الشرق الأوسط من أعاصير الصقيع العربي هل نجد تناقضاً بين ما يحدث وبين الاستراتيجية الأميركية التي أعلن عنها منذ ثمانينات القرن الماضي وتمّ تطويرها تحت مسمّيات متعددة: الشرق الأوسط الجديد ـ الشرق الأوسط الموسع الكبير ـ الفوضى الخلاّقة ـ.
وأخيراً خريطة حدود الدم التي سرّبت عشية العدوان الصهيوني على لبنان 2006، أم أن ما يحدث يمثل تجسيداً عملياً لتلك الاستراتيجية المبنية على تفتيت دول المنطقة وتفكيك البنى القائمة، ومن ثم إعادة تركيبها وفق أسس إثنية وعرقية وطائفية ومذهبية، وبالتالي إعادة رسم الخريطة السياسية لجميع دول المنطقة وفق ما يحافظ على أمن الكيان الصهيوني، ويمكِّن النازيين والظلاميين الجدد من إعلان «الدولة اليهودية» وتوسيع نفوذها لتكون قائدة المنطقة والمتحكمة في مصائر شعوبها حاضراً ومستقبلاً؟ وهل تاريخ الولايات المتحدة الأميركية منذ أن ظهرت كدولة عظمى يقدم شاهداً واحداً على أن إدارة أميركية عملت على خير الشعوب، أم أنّ التدخلات كلّها، بما في ذلك المساعدات التي تعطيها الصفة الإنسانية، تكون مقدمة لنهب خيرات الشعوب وحصان طروادة للتحكم في القرار الدولي؟.
أسئلة الاستفهام الإنكاري المشابهة قد لا تنتهي، وجميعها تؤكد أنّ واشنطن كانت ولا تزال وستبقى في الأمد المنظور الرأس القاطر لمشاريع الهيمنة والتحكم وبسط النفوذ، ولم تكن يوماً جادة في مكافحة الإرهاب العالمي العابر لحدود الدول والقارات لأنه صناعة أميركية صهيونية بامتياز، و«داعش» التي تدعي واشنطن وضعها على لائحة الإرهاب ما كان لها أن تتمدّد لولا مباركة إدارة أوباما لدعم حملة الفكر المتصحّر في السعودية وقطر والعثمانية الجديدة، وتقديم جميع أشكال المساندة والرعاية لـ«داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية لتكون الفأس الأميركية التي تقطع أشجار المنطقة وخضرتها بأيدي بعض المحسوبين من أبنائها، و«داعش» هذه وأخواتها هي التي تنفذ الاستراتيجية الأميركية عبر استهداف جميع الدول التي ترفض الانصياع لإرادة شاغل البيت الأبيض، و«داعش» هذه ومشتقاتها هي التي تبيح لواشنطن التدخل الدائم في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بذريعة مكافحة الإرهاب، و«داعش» هذه ومثيلاتها هي حصان طروادة الذي يستخدمه اليمين الجديد المتصهين لتقويض عوامل القوة الذاتية للدول والشعوب.
وفي اختصار شديد يمكن القول: إنّ «داعش» ليست أكثر من كرة قدم أميركية تتقاذفها أقدام اللاعبين الأميركيين وأتباعهم في اتجاهات تبدو متعاكسة لكنها في نهاية المطاف تستهدف شباك أيّ دولة حريصة على التمسك بمقومات السيادة والكرامة، ويبدو أنّ تلك الكرة أصيبت بثقوب متعددة من جراء حماقة الراكلين ورعونتهم، وهذا يعني أنها قد تتسبّب ببعض الألم لقدم من يركلها بقوة نحو هذا المرمى أو ذاك، وقد تتدحرج بسرعة أقل من المطلوب، لكنها تبقى أميركية المنشأ والهوية، خليجية الإمداد والتصحّر الفكري، عثمانية التبني والاحتضان، أوروبية الرعاية المباشرة وغير المباشرة، وقبل هذا وذاك صهيونية الأهداف والغايات، والأدلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نشير إلى بعض النقاط والمحطات الحبلى بالمعاني والدلالات التي تضع مئات إشارات الاستفهام؟ وتتطلب الإجابة عن أي منها دراسة بحثية مستقلة، ومنها:
التمدد «الداعشي» الجديد في العراق ليس وليد المصادفة، والقدرة على اجتياح مساحات واسعة في أكثر من محافظة عراقية في غضون ساعات ما كان له أن يحدث إلاّ بلعبة استخبارات تشترك فيها أجهزة مختصة لأكثر من دولة.
التورّط الكردي في التصعيد «الداعشي» جليّ وواضح، والتصريحات الرسمية الكردية حول ضرورة اغتنام الواقع الجديد لتحقيق الحلم بإقامة دولة كردية يتقاطع وخريطة حدود الدم التي أشرنا إليها سابقاً.
اهتمام القوى الإقليمية والدولية الدائرة في الفلك الأميركي بالأكراد وبكردستان العراق ليس كرمى عيون الأكراد، ولا تعاطفاً معهم لإقامة دولتهم، بل لتحقيق أهداف عدة في آن معاً، ومنها:
أ ـ تفتيت العراق وتقسيمه ثلاث دول وفق ما تم ذكره في مشروع الشرق الأوسط الكبير الموسع وخريطة حدود الدم، تمهيداً لنمذجة تفتيت بقية دول المنطقة.
ب ـ إقامة دولة مستقلة في كردستان على أسس إثنية يمهد الأجواء ويهيّئ البيئة الاستراتيجية الإقليمية لإعلان الدولة اليهودية، واعتماد مبدأ تكوين الدول على أسس عرقية ودينية، وهذا بدوره كفيل بفرض «سايكس ـ بيكو» جديدة لضمان بقاء المنطقة لعقود في حروب ونزاعات يكون فيها الكيان الصهيوني هو المرجعية والمظلة التي يلوذ إليها الجميع طلباً للحماية والدعم والمساندة والاحتفاظ بكراسي عروش مهترئة.
ج ـ توسيع الرقعة الجغرافية لكردستان الجديد على حساب العراق وإيران وسورية وتركيا للتخلص دفعة واحدة مما يؤرق الكيان الصهيوني في ما يخصّ اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم حيث هم، أو نقلهم إلى الدولة المستحدثة في شمال العراق.
أيّ إنجازات ميدانية يستطيع «داعش» تحقيقها في العراق ستستخدم مباشرة كورقة ثمينة على طاولة المفاوضات الإيرانية مع الدول الست حول البرنامج النووي الإيراني، كما أنّ تمدّد «داعش» واقتراب العصابات الإرهابية المسلحة من الخاصرة الإيرانية يساعد واشنطن والغرب المأزوم على رفع عقيرته وتكوين إحساس خادع لديه أنّ في إمكانه التعنّت أكثر والضغط على القيادة الإيرانية للتخلي عن حقوق الشعب الإيراني في امتلاك تقانة الطاقة النووية السلمية.
العجز المركب عن تفتيت سورية وتداعي المجاميع الإرهابية المسلحة تحت أقدام رجال الجيش العربي السوري دفع رعاة الإرهاب وبناته إلى التفتيش عن بديل موضوعي يؤجل الاعتراف بهزيمة المشروع التفتيتي، ويخلط الأوراق من جديد ويرفع نسبة خطر تصدير الإرهاب إلى القوى العالمية الصاعدة التي لم تسمح باستخدام مجلس الأمن منصة للتدخل العسكري الخارجي في سورية لأنه يتناقض وميثاق هيئة الأمم المتحدة، كما يتناقض والقانون الدولي وأعراف المجتمع الإنساني.
المسرحية الهزلية التي مكّنت «داعش» من دخول معسكرات بعض التشكيلات الكبرى للجيش العراقي ومقرّاته كانت مقدمة مطلوبة لتزويد عصابات القتل والإجرام بما تريده من أسلحة ثقيلة ومتوسطة والعودة بها عبر الحدود إلى سورية، على أمل إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة بما يساهم في الاستمرار بسفك الدم السوري وتدمير البنية التحتية للدولة السورية، كما أنه يدفع من يبقى حياً من تلك العصابات الإرهابية لتأجيل عودته إلى الدول التي ينتمي إليها ريثما يُعثر على بؤرة جديدة يتمّ زجّهم بها، ويحول دون عودتهم إلى الدول الأوربية وغيرها، إذ يشكلون أخطاراً حقيقية تهدد الأمن القومي لأيّ دولة يعودون إليها.
لا يمكن فصل التصعيد «الداعشي» في العراق عن الصفعة المؤلمة التي أفرزتها نتائج الانتخابات في العراق وسورية، والتي تبدو متناقضة مع تمنيات أحفاد أبي جهل وأبي لهب في مملكة النفط الصهيونية التي يتحكم في شعبها وثرواتها آل سعود، وكذلك دويلة قطر بغازها وإعلامها ومواخير التآمر وتفصيل الخونة بالتنسيق مع العثمانيين الجدد في حكومة أردوغان المسكونة بعقد النقص والحقد والانتقام، مع العجز عن تنفيذ الانتقام من جراء الاصطدام بإرادة شعبية كاسحة وزعت رسائلها في جميع الاتجاهات الداخلية والإقليمية والدولية عبر صناديق الاقتراع في العراق وسورية، فكان هذا التصعيد للحصول عبر «داعش» على ما لم يحصلوا عليه في الانتخابات والعمل السياسي… لكن هيهات هيهات.
في إيجاز شديد، يمكن القول إن «داعش» و«النصرة» و«الجبهة الإسلامية» وبقية فلول ما كان يسمى «الجيش الحر» وما شابه هذه المكوّنات الإرهابية من فصائل وعصابات إرهابية مستحدثة ليست أكثر من وقود تستخدمه واشنطن وصيصانها لتفتيت دول المنطقة خدمة لأمن الكيان الصهيوني، وقد مضى وإلى غير رجعة الزمن الذي يستطيع فيه أعداء الإنسانية الضحك على عقول الشعوب، ولم يعد في إمكان النازيين والظلاميين الجدد إلاّ اجترار مرارة الاعتراف بتحطم الرأس القاطر لمشروعهم التفتيتي وخروج القاطرات على السكة وتحطم معظمها على صخرة الصمود السوري المدعوم من بقية أقطاب المقاومة وأنصار الإنسانية، وكرة القدم التي اعتادوا تقاذفها أصيبت بثقوب متعددة ونوعية، ما يجعل وصولها إلى مرمى رموز النظام الدولي الجديد الصاعد وشباكه أمراً مستبعداً إن لم يكن شبه مستحيل.
لا بل إن الثقوب المتعددة ترفع من نسبة ارتداد تلك الكرة إلى شباك أصحابها سواء عن طريق الخطأ أو بفضل مهنية الفرق الرياضية الوطنية التي تقف في الضفة الأخرى وقد أثبتت قدرة فائقة على تحصين شباكها ومراكمة عوامل الاندفاع الصاعق لهز شباكٍ تبيّن أن حراسها دخلوا سنّ اليأس والعجز والشيخوخة والهرم والخرف، وكل ما يستطيعون فعله هو التباكي على مرحلة الشباب ومراقبة تسجيل أهداف متعددة في شباكهم وبزمن قياسي قد يدفع الحكم لإطلاق الصافرة قبل انتهاء الوقت بسبب فقدان الحدّ الأدنى من الصلاحية والكفاءة المطلوبة في مباريات عهد ما بعد الأحادية القطبية.
http://al-binaa.com/albinaa/?article=8085
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه