26-11-2024 01:41 AM بتوقيت القدس المحتلة

"داعش" بين الاستقلالية والتبعية: مشروع خاص وقوة كبيرة

وهذا يمنحه فرصة لتمويه جلده والظهور بمظهر الثوار فعلاً وبالتالي يحظى بإمكانيات كبيرة لتجنيد المزيد من شباب العشائر بذريعة أنه تنظيم ثائر يتحالف مع الفصائل الثائرة وبشهادة وسائل إعلام مهمتها التسويق لهذه "الثورة"

أن يخوض تنظيم "جهادي" حرباً ضد الجميع في بلدين مختلفين، أمرٌ كان يستدعي التساؤل: كيف يصمد هذا التنظيم؟ أما أن يستمر في القتال على مدى أشهر طويلة محققاً إنجازات ميدانية وتقدماً على الأرض، فهو أمرٌ يفرض حقائق لا يمكن إنكارها حول قوته.

عبد الله سليمان علي/ جريدة السفير

وثمة خشية حقيقية في ظل الترهل الإقليمي والتباطؤ الدولي في مواجهة الخطورة التي يمثلها هذا التنظيم المتشدد ألا يطول الوقت قبل أن ينقلب السؤال ليصبح: كيف سنصمد في وجه "داعش"؟.

ويخوض تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" أكثر من معركة في وقت واحد بين سوريا والعراق. وبرغم التعقيدات التي تحيط بميادين المعارك سواء استخبارياً أو عسكرياً، إلا أنه استطاع خلال الأسبوعين الأخيرين أن يسيطر في العراق على مساحة من الأرض تعادل مساحة دول عربية عدة مجتمعة، جعلت منه جاراً غير مرغوب فيه لدول الجوار، وأهمها السعودية والأردن.

أما في سوريا فقد تمكن "داعش" من التقدم في ريف ديرالزور الشرقي من خلال السيطرة على مدينة الموحسن الإستراتيجية، وكذلك التقدم في ريف حلب الشمالي عبر سيطرته على قرى قريبة من الحدود التركية.

وبسيطرته على معظم المعابر الحدودية بين سوريا والعراق، واقترابه من السيطرة على أحد المعابر بين العراق والأردن، من دون أن يكون واضحاً السبب الحقيقي لعدم بسطه السيطرة على معبر طريبيل، يكون "داعش" قد نجح في إجراء تعديلات جذرية على خريطة المنطقة متلاعباً بالشيفرات الجيوسياسية الحاكمة لها، والتي من شأن التلاعب بها زعزعة منطقة الشرق الأوسط برمتها ووضع الأمن فيها على فوهة بركان لا يعرف أحد متى ينفجر، بالرغم من أن الجميع يستشعر الحمم التي تغلي من تحته.

وجاء تصريح وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس مؤخراً بأن "داعش اقترب من تحقيق أهدافه" بالغ الدلالة على أننا أمام تنظيم يمتلك مشروعاً خاصاً به يسعى إليه وفق مراحل متسلسلة وبموجب خطط مدروسة تنتقل به من تقدم إلى آخر، حتى كاد أخيراً يقترب من تحقيق مشروعه، بحسب تعبير الوزير الفرنسي.

وفي الوقت ذاته، يشير الإحجام الإقليمي والتباطؤ الدولي عن مواجهة الخطر الذي يمثله تمدد "داعش" وكسره المعلن لاتفاقية سايكس ـ بيكو التي كانت النواة القانونية لتأسيس دول المنطقة وترسيم حدودها المتعارف عليها، إلى لامبالاة مطلقة تكاد تقترب من حدود الرضا والقبول بالنتائج والاحتمالات التي يمكن أن تترتب على مغامرة التنظيم المتشدد.
ويبدو أن هذا التنظيم يقرأ جيداً المواقف الإقليمية والدولية ويحاول الاستفادة منها إلى أقصى درجة ممكنة. وقد يكون انسياقه وراء هذه القراءة هو ما أدى به إلى الانتهاء بالاندماج تماماً في مدلولاتها المحتملة، حتى بدا وكأنه لا يبالي أن يظهر بمظهر من أنيط به القيام بدور ما لتنفيذ سياسات الدول الكبرى.

ولا شك أن هناك تطابقاً في المآلات التي يفترض أن تنتهي إليها خطط "داعش" مع غايات سياسة الفوضى الخلاقة التي تطبقها الدول الغربية، ولشدة التطابق لم يعد بالإمكان التمييز من مِنَ الطرفين يخدم مشروع الآخر. وبرغم أن كل طرف منهما يراهن على قدرته في النهاية أن يفرض مشروعه الخاص، ويجتث كل العناصر التي لا تتوافق معه، إلا أن مجرد القبول ببقاء الاحتمالات مفتوحة على هذا الشكل مع ما يواكب كل احتمال من مخاطر وأضرار قد تصيب دول المنطقة برمتها، لا يمكن اعتباره إلا تواطؤاً معلناً بين الطرفين على استهداف المنطقة وتغيير شيفراتها الجيوسياسية من دون الأخذ بالاعتبار الخسائر والأثمان التي قد تدفعها المنطقة وشعوبها جراء ذلك.

إجرام دولة داعشويعتمد "داعش" في تنفيذ مشروعه وسط هذه اللعبة الدولية المعقدة، على عوامل خارجية وداخلية تمنحه قدراً من القوة أثبت حتى الآن أنه أكثر من كافٍ بالنسبة له للاستمرار في اللعب وتفادي المخاطر التي ينطوي عليها.

وأهم العوامل الخارجية التي يستند إليها "داعش" في هذه المرحلة هو "رداء التخفي" الذي حظي به نتيجة الدعاية السياسية والإعلامية التي تسوق لما يجري في المنطقة وتحديداً في العراق وسوريا على أنه "ثورة شعبية" ضد نظام ظالم، وما استتبع هذا التسويق من تقليل لدور "داعش"، ونسب الدور الأكبر من الأحداث لأطراف أخرى يطلق عليها اسم "الثوار".

ولا يخفى أن مراكز أبحاث ووسائل إعلام وبتوجيهات مباشرة من دوائر استخبارات تخصص كل وقتها وجهدها حالياً للتسويق بأن ما يجري في العراق هو "ثورة" تقوم بها العشائر ضد حكومة الرئيس نوري المالكي في استنساخ كلي للسيناريو السوري منذ بدء الأزمة في العام 2011.

ولا نستغرب إذا كانت مثل هذه الدعاية لا تغضب "داعش" ولا تدفعه إلى مجرد إصدار بيان يوضح فيه حقيقة دوره في ما يجري. والسبب في ذلك أن "داعش" يستغل هذه السياسة ويستفيد منها على وجهين: الأول، أنّ عدم ممانعته في تسويقه من قبل القائمين على السياسة السابقة، على أنه حليف لفصائل أخرى تقاتل باسم العشائر، يمنحه فرصة لتمويه جلده والظهور بمظهر الثوار فعلاً وبالتالي يحظى بإمكانيات كبيرة لتجنيد المزيد من شباب العشائر بذريعة أنه تنظيم ثائر يتحالف مع الفصائل الثائرة وبشهادة وسائل إعلام مهمتها التسويق لهذه "الثورة" ما يعني مزيداً من المصداقية له.

والثاني، إبعاده عن واجهة الأحداث مع ما يستتبعه ذلك من حدوث تراخٍ إقليمي ودولي في الاستنفار لمواجهة خطره، على اعتبار أنّ السياسة السابقة تتطلب من الدول الكبرى والأخرى المعنية الانشغال بسيناريو الثورة ومعالجة التطورات وفق منطق الثورة والثوار، وهو ما يمنحه المزيد من الوقت للتمدد أكثر في الأراضي من جهة، وترسيخ وجوده وقوته فيها من جهة ثانية مستفيداً في كل ذلك من عنوان "الثورة" التي تجعل وجوده غير مرئي كأنه يرتدي "رداء التخفي" في إحدى القصص الأسطورية، مع فارق بسيط هو أن الدول الكبرى في واقعنا تغض نظرها عنه عمداً ولغاية في نفسها.

أما العوامل الداخلية، فهي كثيرة وعديدة، ويأتي في مقدمتها عامل قلّما يجري التطرق إليه، وهو الاستقلالية التي يتمتع بها تنظيم "داعش" على نحوٍ يمايزه عن معظم الفصائل الموجودة في الساحتين السورية والعراقية والتي ترتبط بشكل أو بآخر بأجهزة استخبارات هذه الدولة أو تلك. إذ يمكن القول إنّ "داعش" يكاد يكون التنظيم الوحيد الذي لا يتبع بشكل مباشر أو غير مباشر لجهاز استخبارات محدد، فهو مستقل على نحو كبير ويسعى إلى تحقيق مشروعه الخاص بعيداً عن إملاءات الدول واستخباراتها.

وبالرغم من أن استقلالية "داعش" تمثل أهم ركيزة من ركائز خطورته الحقيقية، إلا أنها لم تعد واضحة وضاعت خلف دخان الدعاية الإعلامية المغلوطة التي تسعى إلى ربطه استخبارياً بهذه الدولة أو تلك، ووراء ضباب التعقيدات الميدانية التي يظهر "داعش" معها على أنه أداة بيد دول معينة تسعى إلى تطبيق سياسة الفوضى الخلاقة، برغم أنّ العديد من الدول تحاول إدارة هذه الفوضى أو أجزاء منها بما يحقق مصلحتها الخاصة.

وقد يكون لـ"داعش" التوجه نفسه بحيث يخرج في النهاية من نفق هذه الفوضى من دون أن يخسر المرتكزات الأساسية للمشروع الذي يطمح إليه، ما يعني إمكانية استمراره وإن بأشكال مختلفة.
ويساهم الاكتفاء الذاتي الذي توصل إليه "داعش"، سواء من حيث التمويل أو التسليح، بتحقيق هذه الاستقلالية، فهو الآن في وضع لا يضطره إلى استجداء الدعم من أي دولة أو جهة نتيجة الغنائم التي حصل عليها في معاركة الأخيرة ولا سيما "غزوة" الموصل.

يجب قصم ظهر داعشكما أن "التضخم العقائدي" لدى التنظيم جعل منه وحشاً قادراً على ابتلاع الفصائل الأخرى التي لا تملك مثل هذا التضخم في عقيدتها. يعزز من ذلك أن "داعش" استطاع أن يخرج منتصراً من مواجهته مع تنظيم "القاعدة" العالمي بقيادة أيمن الظواهري بحيث لم تسبب له هذه المواجهة العنيفة أي تشققات في بنيته، بل على العكس تشير معظم المعطيات إلى أن "داعش" في طريقه إلى إلغاء وجود "القاعدة" في المنطقة والحلول محلها بمنهجه وعقيدته ومشروعه. فإذا كانت "القاعدة" لم تصمد أمامه فهل يمكن لفصيل آخر أن يفعل ذلك؟ من المستبعد رغم أن أحداً لا يستطيع التكهن بما يمكن أن تستقر عليه الأوضاع وتطوراتها في المنطقة.

وفوق هذا وذاك، هناك جيش من المقاتلين معظمهم من جنسيات مختلفة، مستعد للذهاب في القتال إلى أقصى وأشرس حدوده في سبيل رؤية مشروع الدولة وقد أصبح واقعاً ملموساً. وبرغم أنّ عديد هذا الجيش غير معروف على وجه الدقة، إلا أنه يلاحظ أن ثمة توجهاً من قبل بعض الدول لتقليل عدده والتسويق لفكرة أنه يتكون من بضعة آلاف فقط، ووصل أعلى تقدير منها إلى حدود سبعة آلاف مقاتل قيل إنّ المئات منهم فقط شاركوا في معركة الموصل.

ويثير هذا التقدير المخفّض لأعداد مقاتلي "داعش" من قبل مراكز بحثية غربية ووسائل إعلام مختلفة التساؤلات حول الغاية من هذا التخفيض، لاسيما أن هناك تسجيلاً صوتياً لأبي حمزة المهاجر، وهو زعيم "القاعدة" في العراق بعد أبي مصعب الزرقاوي، يؤكد فيه أنه أمدّ "دولة العراق الإسلامية" لدى مشاركته في تأسيسها بحوالي خمسة عشر ألف مقاتل، وهو فصيل واحد من ست وعشرين فصيلاً ساهموا في تأسيسها. هذا علاوة على الأبواب الكثيرة التي فتحت أمام "داعش" نتيجة سيطرته على مناطق واسعة أتاحت له الدخول إلى أوساط مختلفة وتجنيد أعداد كبيرة من الشباب سواء ترغيباً أو ترهيباً أو عن اقتناع منهم.

هذه العوامل، مع عوامل أخرى لم ترد في السياق، من شأنها أن تجعل من "داعش" أخطر تهديد يواجه المنطقة بعد التهديد المستمر منذ حوالي سبعين عاماً والمتمثل بالكيان الصهيوني، فهل تتنبّه حكومات المنطقة إلى هذا الخطر الداهم وتتضافر فيما بينها لمواجهته بغض النظر عن سلم أولويات بعضها أو أهدافها المرحلية المؤقتة التي تستفيد من وجوده وتتغذّى عليه، أم قد نضطر بعد حين أن نتساءل: كيف سنصمد في وجه "داعش" بعدما كان السؤال كيف يصمد "داعش"؟.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه