ألا يرى خوري أن الذين يشغلون جغرافية فلسطين المحتلة مستوطنين؟! وهم هؤلاء «الأفراد» ألا يشكّلون بمجموعهم العام الاحتلال الذي يغطي كل مساحة فلسطين؟! هل هم منفصلون بوجودهم عن الدولة العبرية؟!
«كاتب تقدمي كان قد علّمنا حبّ فلسطين، قال كلاماً قاسياً للعدوّ في إعلامه كمن يخانق حبيبته في غرفة نومها»، لفتني هذا القول للأستاذ بيار أبي صعب في جريدة «الأخبار» في 12/ 6/ 2014، في إشارة منه إلى الروائي اللبناني العربي إلياس خوري، إثر مقابلة أجرتها معه صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، في أيار الماضي.
وهو محق تماماً في قوله إن أدب الياس خوري علّمنا حب فلسطين، وأثّر في جيلنا الذي قرأ رواية «باب الشمس» و«مملكة الغرباء» و«غاندي الصغير»، وساهم مع كتّاب آخرين في تشكيل وعينا بقضايا الأدب والتاريخ والثقافة والمجتمع.
وبالطبع لا يقصد أبي صعب تبسيط وصف هذه الإشكالية «كمن يخانق حبيبته في غرفة نومها» بقدر ما تقصّد إخبارنا عن تحوّل خطير في مسار الثقافة العربية بدأ ينحو في العقد الأخير باتجاه اختراق الوعي الإنساني عند المثقف العربي الذي تراهن عليه شعوبنا في أنه الحصن الحصين أمام حفظ الذاكرة الجمعية في دائرة الصراع مع العدو الصهيوني. وإنه لمن الدهشة أن تبدأ معايير مفهوم «التطبيع» تنهار أمام الإيقونات التي يتحفنا به الإعلام الغربي والإسرائيلي، مثل «حق الأخر بالوجود» ومثل «حرية التعبير» ومثل «الرأي والرأي الأخر»، وغيرها مما تلاقي حفاوة فكرية عند شريحة من مثقفينا. إلا أن الأدب يبقى الدائرة الأكثر خطورة إذا ما انخرط في هذه العملية الاختراقية.
تقف الرواية، التي تعدّ أنها حلّت مكان الشعر وأصحبت ديوان العرب، في أعلى القائمة التي تتعرض للاختراق، إذ يستهدف الإعلام الإسرائيلي والحركة الثقافية الصهيونية التوجه إلى إعلام هذا الميدان، لأهميته في تشكيل وجدان الشعوب. يمثّل كتاب «الثقافة والإمبريالية» للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد عموداً فقرياً في تشريح دور الرواية في حياة الحضارة الإنسانية، والتي يأسف أنها بدأت ملازمة للاستعمار الغربي، ويربط بين التوسع الامبراطوري وبين ازدهار الرواية، وكيف أنها لم تردع ولم تكبت المشاعر الإمبريالية الأشد عدوانية وشعبية التي تجلّت بعد عام 1880.
ويربط إدوار سعيد بين الرواية الغربية والإمبريالية ربطاً غير قابل للانفصال، لدرجة أنه يقول: «ولقد حصّنت الرواية والإمبريالية إحداهما الأخرى إلى درجة عالية يستحيل معها، تبعاً لما أطرحه، قراءة أحدهما دون التعامل بطريقة ما مع الأخرى». وذلك لأن الرواية برأيه هي شكل ثقافي اشتمالي تدميجي شبه موسوعي.
يدرك العدو الصهيوني باستخطاطية عالية المستوى الذي تؤديه الرواية في ثقافات العالم، وما تحفره في الذاكرة التاريخية للأمم، من هنا تأتي أهمية المشروع الصهيوني لإعادة تخيّل فلسطين وأهلها تمهيداً لتهويد الارض. إن الافكار المتعلقة بالفتوحات، وبالاستكشافات الجغرافية، وبالسرديات المخترعة ليوضحها أتم توضيح تاريخ الصهيونية. ويؤكد إدوارد سعيد أن الفرق الرئيسي بين الصهيونية والامبريالية الغربية التقليدية (الكلاسيكية) يكمن في أنه فيما غدت الأخيرة ممارسة تاريخية للقوة شائعة مستهجنة ومنهزمة، فإن الأولى (ولاسيما امتداداتها المعلوماتية والاعلامية الضخمة التي لا يملك الفلسطينيون والعرب الآخرون حتى الآن إجابات وردوداً عليها اطلاقاً) لا تزال قائمة الآن، والى جانبها تقف بقوة المصادقة الغربية والمديح الغربي.
من هنا لا يمكننا الاستهانة بما قام به الياس خوري، وهو علم من أعلام الرواية في العالم العربي، حين وافق على إجراء هذه المقابلة (ضمت مقابلة مع ناقد وكاتب صهيوني) مع جريدة تمثّل الحيز الوجودي للكيان الإسرائيلي، ولا يمكننا تفسير التناقض الذي يظهر جلياً بين قوله للصحيفة وما يدّل عليه فعله «التطبيعي»، إذ يقول في المقابلة : «أعتقد أن علي المثقفين أن يأخذوا دوراً، لا يمكن للمرء أن يكون مثقفاً بدون اتخاذ موقف عندما يكون هناك صراع على التحرر القومي، وأنا أشعر طول الوقت أنني جزء من هذا الصراع».
كيف يمكن له أن يكون جزءاً من الصراع، وهو يسجلّ في مقابلته هذه موقفاً صريحاً بالاعتراف بالسردية العبرية وجوداً وحقاً في اختلاق الرأي والرأي الآخر، وليظهر العدو بصورة «ديموقراطية». وكيف يمكنه أن يقرّ بحوار مع «المحتل» في حين أنه هو نفسه يقول في المقابلة إن الآخر، ويقصد «الإسرائيلي» لا يريدك أن توجد أصلاً، وتسجيل هذا الحوار الصحافي أليس اعترافاً من خوري بوجود الآخر «الذي يمارس سياسة القهر تجاه الفلسطينين والعنصرية تجاه العرب؟! فلماذا هو يفتخر بعدم اعترافه بالآخر، فيما نحن نشعر بعقدة النقص إذا لم نعترف به؟!
رؤية خوري الجديدة للمحتل الصهيوني فيها «الإنسانية المفرطة»
«التطبيع» في قناعة الياس خوري يقف عند حدود التعامل مع المؤسسات الرسمية للعدو أو المرتبطة به وبرأيه «ربما يجعلهم هذا واعين»، ولن ننقاش مدى جدية أن يجعلهم هذا النوع من المقاطعة واعين، ولكن لنتوقف قليلاً عند قوله «لا أقاطع الأفراد أو الصحف»، ألا يرى خوري أن الذين يشغلون جغرافية فلسطين المحتلة مستوطنين؟! وهم هؤلاء «الأفراد» ألا يشكّلون بمجموعهم العام الاحتلال الذي يغطي كل مساحة فلسطين؟! هل هم منفصلون بوجودهم عن الدولة العبرية؟! ثمّ أليس هذه الصحيفة أو تلك الجريدة في الكيان تحمل الصفة الإسرائيلية وجوداً وحيثية، أليست مؤسسة مرتبطة بشكل أو بآخر بالدولة المحتلة ؟! ومتى كانت «هآرتس» تحديداً ضد مشروع الصهيونية وضد اضطهاد الفلسطينين؟!.
رؤية الياس خوري الجديدة للمحتل الصهيوني فيها «الإنسانية المفرطة»، كما وصفها الاستاذ سماح إدريس، ونضم صوتنا إلى صوته المطالب أن نتبنى في لبنان تحديداً سقفاً أعلى في تعريف التطبيع حتى يكون والكلام لإدريس: التطبيع هو المشاركة في أيّ نشاطٍ يَجمع بين عربٍ وإسرائيليين ما دامت «إسرائيلُ» قائمة. وهذا ينطبق على النشاطات التي تهدف إلى «التعاون» العلميّ أو الفنيّ أو المهنيّ أو النسويّ أو الشبابيّ... مع الإسرائيليين، أو إلى «الحوار» معهم، أو إلى إجراء المقابلات مع وسائلِ إعلامهم، وإلى النشر في دُور نشرِهم ومواقعِهم الإلكترونيّة. ولا يُستثنى من ذلك أيُّ منبرٍ إسرائيليّ لأنّه يستفيد من احتلال فلسطين. ولا يُستثنى منه أيُّ فردٍ إسرائيليّ ما لم يتخلّ عن جنسيّته الإسرائيليّة ويعلنْ رفضَه لشرعيّة دولة إسرائيل».
الياس خوري، المسيحي المشرقي، الذي لا تخلو رواياته من سيرة السيد المسيح (ع)، في روايته ما قبل الأخيرة «كأنها نائمة» (2007)، يحيك حبكة إيديولوجية يغزوها برؤى مشككة في أصل الرواية الدينية حول نشأة السيد المسيح نفسه في الناصرة. ومسار التشكيك يأخذ منحى تصاعدياً في الرواية إلى أن تبلغ الذروة مع الراوي حين يفضي بهذا الشك إلى نفس يسوع الناصري في أن الله سبحانه لن يتخلى عنه عندما يسير إلى المذبح، ولكنّ الله فعلها وتخلى عنه... التشكيك في أصل الرواية المسيحية عن يسوع الناصري تخدم الرؤية التوراتية، تماماً كما خدمتها الرؤية الفلسفية لرواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ (1959) إذ قدّمت صورة قاتمة عن «رب الإسلام» المتسلط الذي شاخ ونسي أن يعطي الفقراء حقهم...
ومنذ ذلك الحين نشأت علاقات بين نجيب محفوظ وبين «أدباء» في إسرائيل، صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية كشفت عام 1979 مراسلاته مع الناقد الصهيوني ساسون سوميخ الذي كتب أطروحته للدكتوراه حول روايات محفوظ «الإيقاع المتغير: دراسة في روايات نجيب محفوظ»، في جامعة أكسفورد. كذلك ترجم الأديب الإسرائيلي سامي ميخائيل ثلاثيته إلى العبرية وكانت أول ترجمة كاملة لها. ويؤكد الناقد المصري محمد حسين أبو العلا أن مرشح نجيب محفوظ للجائزة هو البروفسور اليهودي شيفتيل رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة ليدز البريطانية، والذي أوكلت إليه الأكاديمية السويدية مهمة ترشيح من يراه جديراً بها عام 1988، فاختار نجيب محفوظ.
فهل المبادرات التي يقوم بها كتّاب صهاينة في ترجمة روايات لالياس خوري منذ سنوات، وإشاعة حديث عن مدى جدية طرحه لنيل جائزة نوبل للآداب، هي السبب نفسه الذي يدفع خوري إلى التجاوب مع هذا الاختراق، تماماً كما حدث مع نجيب محفوظ؟! إن صحّ تأويلنا يكون الياس خوري قد قدّم المسيح (ع) لليهود كي يصلبوه مرة أخرى في عقر داره!..
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه.