خرائط ملونة «دقيقة»، تمشي فوقها مجسمات الدبابات والطائرات والجنود، تظهر توزع «قوات الأسد» مقابل توزع «الجيش الحر» والفصائل الأخرى، وتظهر سير العمليات وتتنبأ (وهذا الأهم) بسيرها اللاحق..
تحوّلت الخريطة التي نشرها "داعش" لـ"دولته" بعد دخوله الموصل، من خبر آني، إلى خلفية مستمرة لمعظم أخبار "دولة الخلافة". يلاحظ متتبع قناتي "العربية" و"الجزيرة" أنّ الخريطة المذكورة تتكرَّر في معظم التقارير المعدّة عن مستجدات "داعش"، وكذلك الأمر، وإن بنسبة أقل، في تقارير "فرانس 24"، و"بي بي سي"، و"سكاي نيوز عربية". وذلك ما يشير إلى أهمية هذه "الخريطة" في إيصال الرسالة المطلوبة من جهة، وإلى وجود توافق ضمني على تلك الرسالة بين هذه المنابر، من جهة أخرى.. فما هي تلك الرسالة، ولماذا تستخدم «الخريطة» حاملاً أساسياً لها؟.
تطورت عملية استخدام الخرائط في نشرات الأخبار خلال السنوات القليلة الماضية بشكل هائل مستفيدة من التطور التقني الحاصل، ابتداءً من الخرائط المستخدمة في نشرات أخبار الطقس، مروراً بخرائط «خطوط التماس» والاشتباكات الميدانية و«الطائفية» باستخدام تقنيات 3D، ووصولاً إلى خريطة دولة «داعش» التي تمثل نقلة نوعية في استخدام الخرائط إعلامياً.
يرد المتخصصون في دراسة تأثير وسائل الإعلام، قدرة الخرائط الهائلة على إعادة صوغ وعي المشاهد إلى ثلاثة عوامل أساسية: الأول، هو أن تلك الخرائط تقدم إمكان تبسيط المعلومات والتحليل السياسي المعقد وتكثيفها ضمن «صورة» واحدة سهلة الحفظ، وتتناسب هذه الصورة مع «الفهم» الموجه الذي تريد وسائل الإعلام زرعه في وعي المتلقي. العامل الثاني، هو المتعة المصحوبة بالإيهام، فألوان الخرائط وطريقة حركة عناصرها وخاصة باستخدام التقنيات الثلاثيّة الأبعاد، تشابه إلى حد بعيد الألعاب الالكترونية التي مثلت لأجيال كاملة الصلة الأساسية بالتكنولوجيا وبالتطور.
أما العامل الثالث والأهم، فهو «قدسية العلم»، إذ إنّ عملية رسم الخرائط وتثبيت تفاصيلها تنتمي في نهاية المطاف إلى حقل علمي محدّد، وبما أنّ الأغلبية العظمى من المشاهدين لا تتوفر على المستوى العلمي المطلوب لا في الجغرافيا ولا في غيرها، فإنّ ما تقدمه هذه الخرائط يتحول في وعيها (باعتباره علماً) إلى مسلمات إيمانية غير قابلة للطعن. بالنتيجة، فإنّ للخرائط دورا بارزا ومهمّا في إيصال الشحنة والفكرة المطلوبة، وخير مثال على ذلك خرائط صفوت الزيات على "الجزيرة".
خرائط ملونة «دقيقة»، تمشي فوقها مجسمات الدبابات والطائرات والجنود، تظهر توزع «قوات الأسد» مقابل توزع «الجيش الحر» والفصائل الأخرى، وتظهر سير العمليات وتتنبأ (وهذا الأهم) بسيرها اللاحق.. في تلك الخرائط كان يجري تحريف الحقائق الميدانية بشكل كبير ومستمر، بناء على سياسة القناة، ومع ذلك فإنّ تحليلات الزيات (وبالأحرى خرائطه) استمرت لفترة طويلة كجزء أساسي من النقاش الشعبي العام في الشارع السوري باعتبارها «مستنداً» و«وثيقة» تثبت وجهة نظر محددة!
تحمل خريطة «داعش» هي الأخرى رسالة واضحة المعالم، فهي باتساعها من جهة (وصلت مساحتها إلى حوالي 175 ألف كيلومتر مربع، وهذا أقل بقليل من مساحة سوريا كاملةً)، وبإلغاء خصوصيات مناطقها المختلفة من جهة أخرى (تثبت دراسات متعددة أنّ كتلة "داعش" ضمن المقاتلين الذين يشغلون المساحة المذكورة لا تتجاوز 10 في المئة، في حين يتوزع الباقون بين النقشبندية/البعثية وقوات العشائر)، إنما تستكمل عملية ترهيب الناس، أي تستكمل رسالة "داعش" ووظيفتها، وتستكمل تفريق الناس ضمن المنطقة على أساس طائفي. كما أنها تقدم مادةً دسمة للجمهور الغربي تسمح بتعزيز انتشار التيارات المناصرة للحرب، وتخفيف الضغوط الداخلية عليها، بل قمع تلك الضغوط.
بالطريقة نفسها، تحذف "العربية" و"الجزيرة" لواء اسكندرون من خريطة سوريا، لتلغي واقع احتلاله، وتتجرأ بين الفينة والأخرى على حذف الجولان السوري المحتل أيضاً، وتلّون خرائط العراق ولبنان وفقاً لتوزع الطوائف.. الخ.. هكذا تساهم الخرائط في خلق واقع التقسيم، وفي تعزيز قوى الإرهاب وتحويلها في أذهان الناس إلى وحش كاسر لا أمل في مقاومته..