وقد جاء على طريقة «قتلاهم في النار وقتلانا في الجنّة»، فقد وصفوا مقتل المستوطنين بأنه مقتل، بينما سقوط المدنيين في قطاع غزّة هو «وفاة» كأنهم ماتوا بعد صراع مع المرض.
يتحدث كثيرون عن المهنية ويدّعي الجميع امتلاكها، ويختلف الكلّ في تعريفها، فأصبحت المهنيّة هي تعريف كُل جهة إعلاميّة، بل كل إعلامي على حدة لما يقوم به وما ينتهجه خلال ممارسة عمله.
قد يسمّي بعضهم جلوسه أمام الشاشة ليخاطب المشاهدين مباشرة ومن دون وجود ضيف أنه من دروب المهنيّة، وقد يُطلق بعضهم على سرد رأيه الشخصي في تقرير صحافي من دون استدلال أو مرجعيّة أنه المهنيّة ذاتها.
وكثيراً ما نجد من يحدّثنا عن المهنيّة بفخر كونه ــ على حد تعبيره ــ يأتي بالرأي والرأي الآخر طارحاً الرأيين أمام المشاهد الذي كُتب عليه تحمّل تجارب المجرّبين. ويتجلّى ذلك التناقض بين المهنيّة والعبث بنحو أوضح في قضايا محددة، منها قضيّة سوريا والعراق والاجتياح الأميركي له، وتأتي على رأس تلك القضايا القضية الفلسطينيّة.
أثناء العدوان الصهيوني على غزّة الذي صاحبه في الأيام الأولى اعتداء على الضفة والخليل، بدأت الجهات الإعلاميّة المختلفة في نقل مجريات الأمور وفق مفهومها للمهنيّة. مفهوم لا يتجاوز كونه مجرد وسيلة لتطبيق انحيازات سياسية على ماهيّة الخبر وشكله الذي يُقدَّم به للمُشاهد.
في الأيام الأولى للعدوان الصهيوني على القطاع، خرجت التقارير على شاشات وصفحات «بي. بي. سي» بشكل أثار حفيظة الجميع من حيث طريقة تقديم آثار العدوان وحصيلة القتلى والجرحى. جاء تقريرهم على النحو الآتي: «مقتل ثلاثة إسرائيليين إثر سقوط صاروخ من قطاع غزة، ووفاة ثلاثة عشر فلسطينياً خلال جولات الطيران الإسرائيلي التي قتلت قيادياًَ حمساوياً يوم الأربعاء». وهنا يظهر التناقض في الحسابات الذي يصفونه أيضاً بالمهنيّة، وقد جاء على طريقة «قتلاهم في النار وقتلانا في الجنّة»، فقد وصفوا مقتل المستوطنين بأنه مقتل، بينما سقوط المدنيين في قطاع غزّة هو «وفاة» كأنهم ماتوا بعد صراع مع المرض.
في اليومين الماضيين، «تجلت» قناة «الجزيرة» بشعارها «الرأي والرأي الآخر»، بعدما أعلن المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي على صفحته الرسميّة أنه سيحل ضيفاً على المحطة القطرية ليطرح طرحه في ما سمّاه «العملية العسكرية على أوكار الإرهاب في غزة»! وفي الوقت الذي اعتُبر فيه الاحتلال «رأياً آخر» وربما هو «الرأي ذاته» ليُطرَح للمشاهدين شأنه شأن رأي المجني عليه، لم تتوانَ «الجزيرة» ولم تتقاعس عن إلقاء بعض العبارات صوب مصر التي يُزج بها في كل المناسبات على تلك القناة. على سبيل المهنيّة من زاوية ثالثة، خرج الإعلامي المصري عمرو أديب على المشاهدين صارخاً بأسلوبه المعتاد، محمّلاً السلطات المصرية مسؤولية عدم التحرّك لإنقاذ الوضع في غزة من التفاقم، موبخاً رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي لكونه قد وعد بأنّ من يتعرّض لاعتداء من الإخوة العرب، فلن يتجاوز الأمر «مسافة السكّة» لإنقاذه.
لم يتجاوز الأمر ساعة حتى بدأ أنصار السيسي حملتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لمهاجمة أديب بسبب ما وصفوه بالتطاول وادعاء المعرفة وبدأ بعضهم في تداول هاشتاغ #يسقط_عمرو_أديب. المهنيّة لا تحتاج دوماً إلى تعريف معقّد، فالأمر قد لا يتجاوز ضرورة إطلاع المُتلقّي على الحقيقة العارية ونقل الخبر من مصادره الأصلية وعدم تسييس الأمور الإنسانية. توجيه الرأي العام لا يدوم بينما تكوين رؤية نقدية وتحليلية لدى المُشاهد هو صميم المهنية الإعلامية.