هي لا تزال بانتظار عودته إلى مسرح السباق. وهذا ما يعني أن طيّارها يشكّ بأنه قد قضى في الغارة.. أمسك الجهاز وراح ينادي بصوت متعب ..:"عبد الرسول .. عبد الرسول".. وانتظر ليسمع الرد..فلم يأتِ.. وأعاد النداء من دون توقف
تذكرون قصة "حوّل معك مارون 72"، التي نشرت على موقعنا العام الماضي في ذكرى حرب تموز 2006؟!!..، "أبو علي رضا مارون" هو نفسه يروي لنا قصة أخرى قبيل التحرير العام 2000 وكل قصصه تتشابه في درب المقاومة وفي أي موقع وفي أي ذكرى :
انشقت أهداب رضا عن عينين يغطيهما التراب، حاول نفض التراب عنهما فلم تسعفه يده اليمنى، حاول باليسرى فتحركت معه بصعوبة .. وانقشعت الرؤية أمامه عن مكان بعثرت فيه الحجارة والصخور والشجر، بقطع متناثرة في فوضى يغطيها أثار الدخان، وأغصان لا تزال ترتجف اهتزازاً أسقطت معها إلى الأرض كل ثمارها..
حاول النهوض فلم يستطع وأحسّ بأن ظهره انفصل عن جسده، رفع رأسه إلى أعلى وجد نفسه مغطى بأغصان شجر الغار المقطّعة، تفاجأ أنه لا يزال على قيد الحياة .. يبدو أن الغارة أخطأت هدفها تنبّه إلى الدرع الواقي فاطمأنّ أن ظهره لم ينكسر. سحب ذراعه اليمنى الممدودة تحت بطنه .. وأسند رأسه إلى جذع شجرة عريض لا يزال راسخاً في الأرض وشعر بسخونته تخترق جلده مع أنّ المناخ بارد في تشرين فتأكد أن غيابه عن الوعي لم يدم طويلاً بعد وقوع الغارة.. أخذ نفساً عميقاً وارتفعت عيناه إلى السماء ولمحها تحلّق ضائعة وكأن الزمن أوقفها عند تلك الغيمة العريضة التي تظلل وجوده..
هي لا تزال بانتظار عودته إلى مسرح السباق. وهذا ما يعني أن طيّارها يشكّ بأنه قد قضى في الغارة.. أمسك الجهاز وراح ينادي بصوت متعب ..
- :"عبد الرسول .. عبد الرسول".. *1
وانتظر ليسمع الرد..فلم يأتِ.. وأعاد النداء من دون توقف .. هنيهة وسمع صوت عبد الرسول يأتيه متلهفاً ..
- :"معك ع السمع...معك ع السمع.. شو الوضع عندك؟!..
- محروق.. ما رح اقدر أوصل لعندكن .. وأم كامل*2 بعدها واقفة محلها
- خليك لا تتحرك.. قلي وينك ..
- صعبة .. الشجر كلو صار ع الأرض ..
- جايين لعندك .. إلك الله تحمّل شوي .. قلي وينك..
- لا ..لا.. لا يجي حدا ..مستحيل يوصلو لعندي .. هيد المكان ما حدا بيعرفو غيري ..أنت قلت إلي الله
- مش معقول نتركك علقان بين الحياة والموت ..!
- بيستشهد لحالي بدل ما يستشهد معي ثلاثة أو أربعة..
وأقفل رضا الجهاز، وبقي صوت عبد الرسول معلقاً في الهواء يرجوه أن يعطيه أي إشارة تدل على المكان....فإن فعل ذلك قد ينكشف مكانه، ويتمّ رصد المجاهدين القادمين إليه ..قرّر رضا أن يجازف بالتحرك إلى الأمام بدل أن يبقى في مكانه..كان يمكن أن يقذفه ضغط الغارة إلى قلب النهر، فيبتلعه .. هل يجرؤ نهر حبوش على ابتلاع جسد رضا الذي لطالما حماه من عيون طيران العدو ؟!!..
حفظت ذاكرة رضا مشهد حبوش وهذا الطريق المؤدي إلى نهر نبع الطاسة، كأنه خيال ظلّ مرسوم باللون القرمزي، أصدقاؤه الثلاثة يحملون عتادهم على ظهورهم ويمشون خلفه، وهو الوحيد الذي لا يحمل كل هذا العتاد العسكري، مهمته مقتصرة على إيصالهم إلى نقطة الكمين داخل الشريط الحدودي في منطقة جبل الرفيع وأن يعود أدراجه، إذ إن هناك مهمة رصد أخرى تنتظره.. سوف يقول لهم إن ساعات الفجر هذه التي انطلقوا معها تخلع على الوديان المتعرجة التي يمشون فيها وميضاً ليس من عالم الدنيا.. وميضاً لا يراه غيره ..لا يظهر إلا له، فبعد مسيرات له فيها امتدت لسنوات خبر هذه الأمكنة شبراً شبراً ..انكشفت أمامه على حقيقتها ..
عند مجيئه إليها ترتدي حلّة من ألوان زاهية تتلألأ مع ضوء القمر وترفعه بسحابها إلى أعلى السماء وتجعله يرى في مساحات أوسع كل التفاصيل الجغرافية وكل الزاويا الصغيرة وتخبره حكاياتها مع أجداده ..قال له أحمد متعجباً من اطمئنانه وهو يرشدهم من طريق إلى أخر ..
- :"كيف يمكنك حفظ كل هذه الدروب المتشابكة بين القرى والوديان؟! منذ متى وأنت تعمل دليلاً ومرشداً ؟!..
ابتسم له رضا، وبدأ يداعب بيديه أورواق الشجر
"كنت أراها في مناماتي وأنا طفل صغير، وكانت تناديني في النهار فأركض بين تعرّجاتها وألعب مع عصافير أشجارها .. وما إن كبرت حتى حفظتها عن ظهر قلب .. حُفرت تضاريسها في قلبي ووجداني ..وعندما وقع الاحتلال لم تغب عن بالي إذ عادت إلي في أحلامي وراحت مع الأيام تحكي لي نبوءاتها بأنني سأعود وأتنزّه فيها وألعب مع أولادي..".
فقاطعه جعفر ممازحاً :" ولكن يبدو أنها لم تتنبأ لك بأنك ستصبح مرشداً عسكرياً يقود القوافل لتحريرها.."!!
ضحك الجميع، ولكن رضا عاجله بالجواب : دائماً يا عزيزي جعفر النبوءات تخفي في طياتها ألغازاً تتطلب منّا السعي الحثيث للعمل كي نكتشفها بأنفسنا.. وإلا ما سرّ سحر النبوءة إذا كانت ستخبرك بكل التفاصيل؟!..
صمتوا فجأة عندما سمعوا صوت "أم كامل" .. والتفّ بهم رضا إلى طريق جديدة، سماؤه مغطاة بأشجار الغار العالية ذات الأغصان الكثيفة وأوراقها العريضة، وقال لهم هامساً :
- انظروا إلى هذه الأشجار كيف تظللكم بجذوعها وأغصانها، إنها تحبكم، وهي تتمايل معكم كيفما تحركتم..
قال له أحمد يستفسر ممازحاً : وهل أنت أيضاً تجيد قراءة لغة الأشجار؟!
- طبعاً، الأمر لا يحتاج إلى أعجوبة، مع مرور الوقت هي تحفظ كيف تعاملها .. معاملتك لها تشعرها بمدى قربك منها ..فتشمّ رائحتك عندما تمرّ قربها وتعرف إذا كنت قريباً من جذورها وتنتمي لأرضها .. هي كانت نائمة، ولكنّها تنبّهت من نومها لحمايتكم..
هذه المرة تدخل مهدي ليقول لرضا : آه .. منك يا رضا لقد ذكّرتني بجدي رحمه الله..
واستفسر منه الجميع : وكيف ذلك..؟!
- ذات يوم انتبهنا إلى أن شجرة صبّار صغيرة قد ذبلت أوراقها واصفرت ،وتيبّست أغصانها .. لم تتجاوب مع كل العناية التي اتحفتها بها أمي.. رأيت أمي تلملم أوراقها الصفراء وهي تبكي، وسألتها لماذا البكاء على شجرة صغيرة لا تنبض بالثمار؟!..قالت يا ولدي هذه شجرة جدك محمود رحمه الله، زرعها بيده حين كان طفلاً وبقي مهتماً بها حتى مماته..ولم يكن يجلس إلا تحت ظلالها الوارفة .. أنظر إليها كم هي تفتقده .. ؟!.. إنها ترفض البقاء بعد موته..
ظنّ الجميع أن رضا سيسّر بقصة رفيقه مهدي، ولكنّه فجأة غيّر نبرة صوته وقال لهم: توقفوا.." ووقف الجميع مشدوهين من أمره ينظر بعضهم الى بعضهم الآخر .. وعيونهم تسأل عن سرّ هذا التصرف..إذ لم يكن ممكناً لهم التنبؤ بالحركة القادمة التي سيقوم بها رضا..
كان رضا يجد صعوبة بالغة في أن يعود إلى اللحظة التي هو فيها الآن، هل كانوا يتصوّرون أن يروه في هذا الضعف؟!.. عجز شبه تام عن القدرة على الوقوف، تحامل على وجعه الشديد وراح يتقدّم خطوة إثر خطوة كعجوز أرهق الزمن قدميها .. وما كان يزيد من صعوبة حركته كل تلك الأغصان المقطّعة وقطع الصخور المنتشرة أمامه ..
كاد أن يقع أكثر من مرة، كان يشعر بيدٍ خفية تسانده ليواصل المسير الشاق .. شعر بحبيبات ماء تندرج على وجهه، رفع رأسه إلى السماء، وأدرك على الفور أنها ستمطر..هذا سيصعّب عليه متابعة المسير، ولكنّه لن يتوقف، سيتابع علّ المطر يساهم في تشويش الرؤية أمام "أم كامل". وهذا ما يوفر له فرصة أكبر للتقدّم والوصول إلى الكهف حيث مقر أخوته المجاهدين.. ولكن الطريق لا يزال طويلاً ..أمامه أربعة كيلو متر ليصل إليهم..!!..كيف سيتمكن من ذلك..ووجع ظهره يزداد حدةً..؟!!..
بدأت زخّات المطر تقوى شيئاً فشيئاً ورضا يجرّ قدميه جرّاً حتى وصل إلى جرفٍ عالٍ في منطقة "العمدان" تحت قرية سجد لا بد من تجاوزه للوصول إلى الضفة الأخرى من القرية ليصبح على مقربة من الوادي واحتار بأمرة ..إنه لا يستطيع القفز .. أغمض عينيه وسمع الشبان من خلفه يهزّونه برفق ويهمسون له ..
- : "رضا..رضا.. ما الأمر؟!..لماذا توقفنا؟!..
- سنصل بعد قليل يا شباب، ولكنّنا مضطرين للزحف مسافة أربعة أمتار، لأن الإسرائيلي حذر جداً ولا يترك المراقبة أبدا ..باشروا بالزحف خلفي.. وانتبهو لا تنسوا خلال العودة بإذن الله أن تقطعوا هذه المسافة زحفاً..".
لم ينتظر رضا موافقة الشبان على ما يأمرهم به، فهو يعرف تماماً أنهم يثقون بقدراته وحكمة أوامره فانصاعوا له على الفور ..وما هي إلا دقائق حتى بدأت مسيرة زحف على تراب مرصوف بالحجارة الصغيرة والأشواك ..والصخور المتوزعة هنا وهناك..
يبدو أنه لم يبق أمام رضا إلا خيار الزحف .. فلم يتردد انبطح أرضاً وبدأ بالزحف على بطنه وسط وحول التراب الذي عجن بمياه المطر .. وقطع الجرف العالي على خير، فحاول معاودة الوقوف إلا إنه فشل تماماً فقد علت منه صرخة ألم مبرّح، وأيقن أنه سيتابع الطريق زحفاً ..قطع مسافة طويلة وبدأ يحس بالعطش الشديد فقد هدّه التعب ..مدّ يده إلى جانبه الأيسر ليلتقط قارورة المياه، فلم يجدها، تذكر أنه أعطاها لرفاقه ..قال لهم بعدما شرب منها جرعة سريعة وكانت لا تزال ممتلئة : خلوها معكن انتو رح تبقو هون طول النهار انا راجع ما رح احتاجها .."..وابتسم له مهدي وربت على كتفه وأخذه بحضنه..وقال له : منشوفك بكرا إن شاء الله"..
هل سيبقى حياً ويراهم فعلاً ليحكي لهم كيف اكتشفت "أم كامل" مكانه ولاحقه الطيران الحربي وصبّ عليه جام غضبه بتلك الغارة..؟!..سيقولون له كان يجب ألا تعود من الطريق نفسه .. وما أدراهم ..هو متأكد تماماً أن اكتشافه في هذه المنطقة صعب للغاية، كيف تمكنوا من رصده؟!..
في هذه الأثناء، عاد صوت عبد الرسول للنداء عبر اللاسلكي: "أبو علي مارون.. أبو علي مارون أجب".. وراح يتكرر النداء، حاول رضا الإمساك بالجهاز،لم تسعفه يداه الملطختان بالوحول .. وأحس بأنه بدأ يفقد وعيه من شدة الألم وزخّات المطر لا تزال على شدتها ..عاود إغماض عينيه.. رأى رضا نفسه رجلاً أبيضَ ولم يفهم من أين جاءه هذا البياض .. الجسد الذي يلبسه في النهار ليس له، إنه انعكاس لعيون الناس ..أمه أرادته فتى أبيض بجسد ممتلئ وكتفين عريضين.. أما هو في الثغور فقد أصبح ذلك الشاب الذي لوّنته الشمس بسمرة حادة وقامة متوسطة الطول، عريض المنكبين بحاجبين كثيفين وأهداب مرفوعة، عيناه تستعيران بؤبؤين سوداوين بدل البؤبؤين العسليين اللذين يراهما الناس في النهار والبؤبؤان يسبحان في بياض يتخلله أزرق فاتح يكاد لا يرى..
يشعر رضا بالاختناق ويرتجف من البرد، صار الليل بئراً وهو في قعر البئر، يزحف صعوداً ..صعوداً وفي مسيره رأى نفسه ذلك الفتى الذي حدثّ أصحابه عنه يركض بين جنبات هذه الوديان، كبر فيها، وأوقدت فيه روح الرجولة والفتوة ..الفتى يشير له من بعيد أن يقترب ويقترب..علت همّة رضا بالزحف إلى الأمام..انتبه أن المطر قد توقف.. منذ متى توقف المطر..هل طالت غفوته..؟!..
واختفت من أمامه عتمة الليل، هو لا يزال في ضوء النهار واختفى البئر، واختفى معه الفتى..وشدّ رحاله وعاد التعب يأخذ منه أنفاسه .. راحت تتقطع يحس معها أن روحه قد تخرج من جسده بين الفنية والأخرى ..ولاح له اقترابه من الكهف .... "تحمّل يا رضا فات الكثير وبات أمامك القليل.." وطّن نفسه بالوصول..وتوقف فجأة عن متابعة الزحف.. الطيران الخربي عاد إلى الأجواء ..ومال إلى جانب أخر من الطريق وغمرته الأشجار وشعر بها تظلّل جسده المعوّق..عاود الزحف حتى وصل إلى باب الكهف .. الذي فتح بابه فجأة ولاح له المجاهدون يهرعون إليه.. اطمأنّ وكانت له غفوة طويلة..
انشقت أهداب رضا عن عينين يغطيهما النعاس، فقرر أن يغمضهما مجدداً، ولكنّه أحس بيد تمسح على وجهه، فحملق بالوجه الذي أمامه إنه طبيب المجاهدين محمد باقر ..هنأه بالسلامة وأرشده إلى علاج يجب عليه اتباعه ليشفى من جروحه.. ولكنّه عندما وصل به الأمر ليشرح له طبيعة علاج ظهره، سكت الطبيب فجأة..
سأله رضا : وشو اشبو ظهري؟!! مش مكسور الحمدلله.."
قال له الطبيب : ما بعرف كيف بدي خبرك يا رضا .. بس لازم تعرف أنو من اليوم ورايح حياتك العسكرية انتهت خلص.. وهيدا تقرير طبي بتعطيه للقيادة ..
قبّله الطبيب وربّت على كتفيه وودعه مغادراً وعلامات الأسف في عينيه..
قرأ رضا التقرير ووجد فيه حكماً بالإعدام ..يحرمه من الصعود مجددا إلى الثغور..لم يتردد، مزق التقرير وكأنه يخبر نفسه :"لن أسمح لأحد أن يمنعني من العودة إلى الجنوب.."..
*1: "عبد الرسول" استشهد بعد ذلك وهو نفسه المجاهد الذي نشاهده يرفع علم المقاومة في اقتحام موقع سجد في العام 1997.
*2: " أم كامل" هو الإسم الذي أطلقه أهل الجنوب على طائرة التجسس الإسرائيلية.