يشبه إعلان ابراهيم عواد البدري (أبو بكر البغدادي) "دولة الخلافة" من بعض الوجوه إعلان حركة طالبان "الإمارة الاسلامية" في أفغانستان عام 1996.
علي عبادي
يشبه إعلان ابراهيم عواد البدري (أبو بكر البغدادي) "دولة الخلافة" من بعض الوجوه إعلان حركة طالبان "الإمارة الاسلامية" في أفغانستان عام 1996. أنكرت طالبان جهود ومشروعية وجود كل القوى الأخرى التي جاهدت ضد الاحتلال السوفياتي، وطلبت النزول عند طاعة أميرها حصراً، وزحفت باتجاه كابول للإمساك بالسلطة، وفتكت ولا تزال تفعل الى الآن بالعديد من الشخصيات التاريخية للجهاد الأفغاني والقوى ذات الثقل المحلي، وهي تلقت – وهنا بيت القصيد- دعماً هاماً من المخابرات العسكرية الباكستانية التي بحثت عن قوة دافعة يمكن ان تحقق لها سيطرة شبه حصرية على الساحة الأفغانية حيث يوجد لاعبون عديدون.
وفي مثال داعش، يعبر التنظيم عن "طالبانية" غائرة في التطرف والبطش لا ترى إلا نفسها وتنكر جهود القوى التي قاتلت الاحتلال الاميركي في العراق باعتبارها "مرتدة" و"صحوات" وما شاكل من اتهامات تبيح التصفية بأشد الوسائل الاستعراضية فظاعة، وها هي تطلب البيعة الناجزة لزعيمها "البغدادي" وإلا فلا شرعية لأية تنظيمات او جماعات او ولايات او إمارات، كما أنبأ المتحدث باسم التنظيم "ابو محمد العدناني".
وليست واضحة بعد حدودُ هذه "الدولة" وما اذا كانت قابلة للحياة في ظل التهور الذي يتحكم بسلوكها وما اذا كان مصيرها سيماثل تجربة إمارة طالبان التي عمَّرت نحو خمس سنين. غير ان الخطورة الكبرى تكمن في رعاية بعض الدول سراً او توظيفها لهذه الحركة بهدف اجراء تغييرات جغرافية وديمغرافية جذرية تبدأ من العراق وسوريا لتصيب دولاً أخرى. كما ترِد أيضاً إمكانية توظيفها للإضرار بموقع دول اقليمية، على غرار ما فعلت باكستان لتقليص نفوذ ايران والهند وروسيا في أفغانستان. والسؤال: من هي القوى التي تلعب دور المخابرات الباكستانية في حالة داعش؟
تبدأ القصة من فشل كل الجهود الاقليمية والدولية الهادفة الى الاطاحة بالنظام في سوريا. وبعدما ثبت ان الجماعات المسلحة في سوريا غير قادرة على إنجاز هذه المهمة لأسباب عدة (عبّر الرئيس الأميركي عن ذلك صراحة بالقول ان اسقاط النظام على يد "المعارضة المعتدلة" يُعدّ وهماً)، لاحت لبعض الأطراف فرصة لإحداث "دفرسوار" في الجبهة العراقية، والهدف مرة أخرى قطع الطريق على ايران. لا بأس ان تكون "داعش" حصان طروادة لإحداث هذا الخرق، ففي حسابات بعض الدول لن تكون إمارة التنظيم قادرة على الاستمرار لأسباب عراقية ودولية، لكن المشروع يستحق العناء لتحريك "النزعة السنية" واستخدامها في بناء اقليم يشكل حاجزاً بين العراق وسوريا، بعدما تعذر وضع اليد على سوريا وفك ارتباطها الاستراتيجي بالجمهورية الاسلامية.
وبرغم التصريحات الأميركية التي تظهر مخاطر تمدد "داعش" على الأمن الإقليمي والدولي، فإن مصلحة واشنطن قد تتطلب أن يأخذ هذا التطور مداه لبعض الوقت لأجل الإفادة منه بهدف تعزيز الوجود العسكري والأمني الأميركي في العراق (وربما سوريا) والمنطقة بذريعة مكافحة الارهاب. وتسعى الادارة الاميركية الى وضع استراتيجية تحرك غير آنية تهدف لاحتواء خطر "المنظمات الارهابية" من جهة، وإحداث تحول في مسار الأوضاع في العراق وسوريا. ويبدو حتى الآن ان هذه الاستراتيجية ستستفيد من الأزمة الحالية لنسج علاقات استتباع وثيقة مع قوى المعارضة المسلحة في البلدين (لمقاومة تمدد "داعش" واستمرار مواجهة الحكومة السورية وإعادة ترتيب الوضع السياسي العراقي في آن معاً)، ولتحسُّس إمكان تكوين مقاربة مشتركة مع الحكومات الإقليمية، ولاسيما مع اللاعبين الثلاثة الكبار: ايران والسعودية وتركيا. غير ان هذا التوجه يصطدم باختلاف الحسابات لدى كل من هذه الدول، اضافة الى استمرار التباعد بين ايران وأميركا في العديد من الملفات. وربما تجد الولايات المتحدة أن ثمة فرصة وفرتها "داعش" وينبغي اقتناصها لإضعاف ايران من طريق إغلاق الطريق أمامها في العراق وصولاً الى سوريا.
تركيا: أكثر من هدف
يقع جزء من الاشتباك حول العراق في مكامن صراعات اقليمية. فإضافة الى المواجهة المكشوفة التي تخوضها السعودية في مواجهة ايران حول العراق وسوريا وأماكن أخرى، هناك قطبة تركية مخفية في ما يجري. واذا كانت لأنقرة مصلحة في وضع يدها على العراق ونفطه ابتداء من كردستان وصولاً الى الموصل عبر "إقليم سني"، فهي قد تجد في "داعش" أداة هامة للنيل من الدور السعودي، لا سيما اذا أخذنا في الاعتبار الصمت التركي المريب حيال مكاسب داعش المستجدة في العراق قريباً من الحدود التركية. وفي ما مضى، أفادت تقارير متواترة أن تركيا شكلت منفذاً حيوياً لكثير من المتطرفين الذين يفدون الى سوريا للانضمام الى "داعش" ومنظمات أخرى ذات منحى تكفيري، وفتحت السلطات التركية أراضيها لمرور الدعم اللوجستي لهذه المنظمات. كما ان تقارير عدة تشير الى قيام داعش ومنظمات أخرى بتصريف النفط السوري في تركيا (لاحظ استفادة تركيا من نفط شمالي العراق وشرقي سوريا في ظل الوضع السائد).
وأبعد من ذلك، تستعيد تركيا والسعودية المنافسة الدامية التي جرت قبل قرن من الزمان للسيطرة على مركز خلافة العالم الاسلامي من خلال معارك آل سعود مع آل الرشيد (المدعومين من الباب العالي العثماني آنذاك) للهيمنة على الحجاز. الآن يمكن ان تكون "خلافة" البغدادي فرصة أمام انقرة لتقويض شرعية الحكم السعودي ونقل المعركة الى داخل المملكة، لتردّ لها الضربة بعد موقف الرياض العلني في مصر والذي أدى الى اطاحة حكم الاخوان المسلمين الذين ترعاهم تركيا. اضافة الى ان تركيا تتحرك إقليمياً منذ سنوات انطلاقاً من حلم استعادة الخلافة العثمانية والهيمنة على شؤون الدول العربية "القاصرة" اقتصادياً وسياسياً، وقد تكون خلافة "داعش" طريقاً لبلوغ "العثمانيين" الخلافة العظمى.
وفضلاً عن الإفادة من هذه الورقة، تنشط الحكومة التركية لكسب ود الأكراد في العراق وسوريا، وصولاً الى داخل تركيا. ويهدف رئيس الوزراء التركي من وراء ذلك إلى: إقامة منطقة كردية "آمنة" تفصل عن مناطق الاضطرابات في العراق وسوريا، الحصول على عائدات رسوم النفط العراقي المهرب من كردستان وكركوك عبر تركيا، السعي لتعزيز موقع تركيا لكي تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة وهي التي تحتاج حالياً الى روسيا وايران للتزود بالغاز والنفط، موازنة نفوذ حزب العمال الكردستاني داخل تركيا من خلال استحضار دور مسعود البرزاني. وبذلك، فان الانفتاح على الاكراد داخل تركيا هو جزء من مسعى أنقرة لترويض الاكراد عموماً واستخدامهم في رهانات داخلية وخارجية. وإنه لمن المفارقات ان انقرة هددت في عام 2005 باللجوء إلى العمل العسكري إذا ما احتل الأكراد مدينة كركوك الغنية بالنفط. لكنها حين تحركت القوات الكردية لاحتلال كركوك في الثاني عشر من حزيران/يونيو المنصرم، تعاملت بأريحيّة مع الوضع الجديد!
السعودية: عودة الى السياسة القديمة؟
تـُطرح أسئلة كثيرة حول حقيقة الموقف السعودي مما يجري في العراق. لقد أرسلت الرياض في الشهور القليلة الماضية إشارات قوية على موقف صارم يجرّم الانتساب او مساندة منظمات متطرفة عدة ومن بينها "داعش". ويعود جزء من دوافع هذا الموقف الى "توضيح نوايا" حيال الإدارة الأميركية التي تشتبه بوجود قنوات دعم سرية لداعش من داخل المملكة، لكن الدافع الأكبر لهذا القرار يتعلق بالخشية من التحاق شباب سعوديين بالمنظمات المتطرفة التي تقاتل في سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى وارتداد ذلك على أمن البلاد. وبدت الحكومة السعودية في وقت من الأوقات كمن فقد السيطرة على تحركات هؤلاء الذين تحولوا في الميدان الى اتخاذ موقف عدائي على نحو جذري إزاء حكم آل سعود.
ومن دون شك، فإن إعلان أبو بكر البغدادي إقامة خلافة عامة يزيد من حجم التحدي الأمني في السعودية. ولـ"داعش" تأثير على شريحة من السلفيين السعوديين تعادي النظام انطلاقاً من خلفية "جهادية" متطرفة. ولذلك، قد لا يكون مستغرباً اجتماع مجلس الأمن السعودي برئاسة الملك عبدالله في مبادرة نادرة، يضاف الى نشر نحو 30 الف جندي على الحدود مع العراق، بحسب تقارير اعلامية سعودية. ويبدو ان السعودية ستواجه وضعاً حساساً في الفترة المقبلة لأن عليها ان تتوقع ازدياد جرأة مؤيدي داعش داخل المملكة، تماماً مثلما واجهت من قبل نفوذ اسامة بن لادن بالتزامن مع إعلان إمارة طالبان في افغانستان عام 1996. واذا أضفنا الى ذلك تزايد التحدي الأمني الذي يشكله تنظيم القاعدة انطلاقاً من الحدود مع اليمن، وهو ما تمثلَ أخيراً بهجوم انتحاري عبر الحدود، تصبح المملكة في وضع متوتر قد يكون أشد صعوبة من ذلك الذي واجهته بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 بسبب الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة.
وخلال الاعوام القليلة الماضية لعبت أوساط سعودية، وبعضها في دوائر السلطة، دوراً في تقديم الدعم للعناصر المتطرفة في سوريا والعراق أملاً في تقويض نظامين تربطهما علاقات وثيقة مع ايران، وهو أمر لم يعد سراً. وراقبت الادارة الاميركية عن كثب "الحبل السري" الممدود من دول عدة الى هذه التنظيمات، وذكرت تقارير أميركية أن "داعش" التي تهدد العراق بُنيت ونمت لسنوات بفضل جهود مانحين من دول الخليج (وتحديدا السعودية وقطر والكويت) على خلفية العداء لإيران والنظام في سوريا ولأسباب مذهبية أيضاً، ولقيت هذه الجهود موافقة ضمنية رسمية. وتضيف ان المال القادم من الخليج كان يمر عبر الكويت، حيث مثّل النظام المصرفي هناك قناة رئيسية للمال المقدم للتنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق. وتوقفت الأمور عند بعض الحدود بعد تدخل الولايات المتحدة لأن زمام الأمور خرج من أيدي الأنظمة الخليجية وأصبح في يد داعش". ويتطور الحديث أيضاً الى تعاون لوجستي محدود من قبل السعودية وربما اتصال غير مباشر مع داعش للوقوف في وجه الحكومتين السورية والعراقية.
والواقع ان حكومات خليجية لا تزال تؤمن برغم التجارب المريرة الماضية بأن التعاون مع التنظيمات المتطرفة مُجدٍ في بعض الأحيان وانه يمكن توظيفها لغرض تحقيق أهداف سياسية مرحلية، وإلا كيف يمكن تفسير تعيين بندر بن سلطان مبعوثاً خاصاً للملك السعودي في هذه المرحلة من تمدد داعش، وهو الذي يُعزى اليه فضل كبير في تمويل ومساندة التنظيمات المتشددة في سوريا خلال العامين الماضيين من إدارته المخابرات السعودية؟
لقد تعاملت بعض الأنظمة الخليجية لفترة طويلة مع التطرف "الجهادي" على انه شيء محمود ولا بأس في مساندته ما دام يتوجه الى أنظمة "مناوئة"، لكنه مرذول إذا قرع أبواب الدول الراعية له. وبالقدر نفسه، كان هناك تشجيع لتقاطر المقاتلين من انحاء العالم الى سوريا، لكن هذا التشجيع لا يجوز ان يشمل المواطنين السعوديين تحاشياً لتداعيات أمنية داخلية، في وقت أشارت تقارير غربية الى ان جهات نافذة في المملكة تغاضت في الماضي او حتى حرضت مطلوبين وذوي سوابق أمنية داخل البلاد على التوجه الى سوريا للقتال أملاً في التخلص منهم. ومعلوم ان الإرهاب لا يميز بين أعدائه ورعاته، وهو يدق اليوم أبواب السعودية والأردن وغيرهما من حلفاء الولايات المتحدة، ليؤكد مرة أخرى أن هدفه الأساسي تقويض شرعية هذه الأنظمة والحلول محلها.
للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com