غزة وحيدة... كما فلسطين... كما كان لبنان في مقاومته لإسرائيل.الاحتشاد راهنا، هو احتشاد نهش. ذئاب ووحوش مفترسة، والغة في الدم وفي إقامة خلافة التخلف
ليس لغزة أبواب، ومحروسة بالأعداء، ولها سماء داكنة لا تشبه القبة الزرقاء.
فريدة غزة، ولا شبيه لها. زمنها خاص جداً، وقت بين حربين أو أكثر، واستعداد لتحمل جليل. فريدة غزة، ووحيدة. عربها غاربة، انسحبوا إلى جاهلية دينية.
نصري الصايغ/ جريدة السفير
انقرضت عروبتهم بما لديهم من سياسات بائدة ومبيدة. وَرَثتهم من «أكلة لحوم» الإنسان وروحه. ليس كمثلهم ديكتاتور أو سفاح أو نيرون أو كاليغولا. تحصنوا بعداء يعلي أكوام الجثث. فأنى لمثل هؤلاء أن يتعرف إلى غزة؟ ليتهم يبقون على بعد، لأن خناجرهم إن حضرت إلى غزة، فلن تصيب إسرائيل بخدش، وسينصرفون إلى تطهير الأرض من مواطنيها وأهلها وقديسيها وشهدائها... بعد «الحلم العربي» الجهيض، جاء العدم الديني البغيض.
وليسوا وحدهم هؤلاء المبشرون بالجحيم هنا. قبلهم، كفرت أنظمة بفلسطين. قالت: «أهل مكة أدرى بشعابها» وغسلوا أيديهم، ثم قالوا كإسرائيل، ليتها لم تكن، فلتغرق في البحر... أنظمة تمتلك أكبر ترسانة من السخف والحقارة والظلم وانعدام القيم والأسلحة الفتاكة. بالكاد ترقى إلى رتبة «كلاب الحراسة».
ليس...
من قبل ومن بعد ومن الآن كذلك، ثقافة تبلّد خلقها وتبدلت أخلاقها. ثقافة استرضاء الأقوى واستيهام الواقع والتنكر بالموضوعية، ولو أدى ذلك إلى خيانة الذات والإنسان والقيم والمبادئ والوطن. ثقافة ضد امتلاك القوة وتسخيف من يسعى إليها، أو من يتجرأ على امتلاكها أو من «يغامر» فيستعملها. ثقافة «موضوعية» بأركان انتهازية، وقدرة فائقة على ابتداع تبريرات غير مسبوقة لتأبيد التخلي، وممارسة التطبيع، ومكافحة المعاندين، والحط من نضالات المقاطعين والمناضلين والمقاتلين.
لهؤلاء النبلاء، يتامى هذا العصر المهزوم، توصيف محبط، يسمونهم تأدبا، دونكيشوت، ومواقفهم، سيوف من خشب، وقضاياهم، طواحين هواء. ثقافة مسيّدة بإعلام طاحن للقضايا والأوطان والشعوب والمشاعر والإنسان. إعلام قراصنة المال والنفط والاحتكارات والطوائف والمذاهب وشراذم الأنظمة المذعورة من الحرية ومن فلسطين حرة. إعلام عدواني، ضد سلاح المقاومة وسلاح «حماس» وسلاح «الجهاد». إعلام يبيعوننا فيه كلاماً مسموماً وقاتلاً. ولا يقبل بغير كلام يروّج للتسليم بشروط الواقع. وهو واقع ليس من صنعهم بل فُرض عليهم بقوة مصالح الغرب وشراهته.
من قبل ومن بعد ومن الآن فـ... لم نجد فلسطين في أجندة ثورة، ولا غزة أيضاً. إنما، استحضرت غزة، كحالة «إخوانية» بعد ثورة مصر، ثم عوقبت، بما لا سابقة له مصرياً، حتى في عز الطاغوت. عقابها تخطى إسلاميتها وأصاب فلسطينيتها، فباتت بلا أبواب ولا حتى أنفاق تصلها بمصر. فلا «ترفع رأسك يا أخي».
فلسطين في العراء وحيدة، وغزة في البيداء طريدة... إلا أن، وهنا مربط الحياة والروح والقيم والإنسان، غزة لم تستسلم ولن..
ولأن الإنسان هو أولاً، بما هو قيمة وحقوق وكرامة وحرية، تظل فلسطين، في الأساس القومي والوطني والسياسي، قيمة إنسانية عليا، وقضية انتهاكها وتدميرها هزيمة. لا تهزم القضايا والمبادئ والإنسانية عسكرياً. هزيمتها من اختصاص ومراس الثالوث: المال والإعلام والثقافة. ولقد نجح هذا الثالوث في حرف القيم العربية الإنسانية والحضارية عن صراطها الإنساني، وسحبها من بيئتها الحيوية. وهجَّنها ثم سحلها ثم أشاع في هذا المدى العربي قيماً جديدة ورسم أولويات كثيرة، منها، مصر أولاً (السادات) لبنان أولاً. وهكذا دواليك، في دويلات كيانات وتبع ذلك، الحزب أولاً، القائد أولاً. الـ... أولاً حتى صارت السلطة أولاً وثالثاً وأبداً، ثم الدين والمذهب والطائفة والعرق أولاً، حتى بلغنا أسافل التكفير.
في هذا التراجع المهين، صار الفرد أولاً. أنا أولاً، ثم أنا أو لا أحد. فتفوّقت الانتهازية وسمت مواقع الخطيئة والجريمة، وتعامل الناس مع هذا الواقع، من خلال منطق السلامة البيولوجية، أو الاقتناص المربح للمواقع والمناصب والحقائب المالية.
لم يعد الإنسان، في هذه التنازلات، إنساناً. صار بضاعة. يحدد سعره السوق. صار سلعة، ونأى بنفسه عن المصلحة العامة، فالخاص له المرتبة الأولى بأي ثمن. وهكذا، عندما خسر العربي عروبته وإنسانيته، كان من الطبيعي أن يخسر قضيته الوطنية وحريته وديموقراطيته وأن ينسى فلسطين وأن يتجاهل غزة.
من علامات ذلك الزمن، استفراد لبنان والمقاومة، فيما العرب يتفرجون على مونديالات 82 و86 و2002 و2006 والإنسان العربي لم يعد يطيق حتى التفرج على فلسطين. والمدمنون على آلامهم، باتوا عجزة يقتاتون من حسرة عجزهم.
غزة وحيدة... كما فلسطين... كما كان لبنان في مقاومته لإسرائيل.الاحتشاد راهنا، هو احتشاد نهش. ذئاب ووحوش مفترسة، والغة في الدم وفي إقامة خلافة التخلف. الاحتشاد راهناً، دولا وممالك وأنظمة وطوائف وأجانب، هو احتشاد المعارك الخاسرة والثارات الموروثة. ما يسمى حروباً إقليمية مباشرة أم بالواسطة، وبهذه الأحجام المذهلة، ليس له علاقة بأي هدف إنساني أو قيمي أو وطني. ومن هذا العدم غداً، يولد العقم.
غير أن لغزة الوحيدة وجه الرفض، تترجمه صموداً وإعجازاً في الصبر والاحتمال، وقدرة هائلة في صناعة القوة من الضعف، غزة التي تُقتل، زربت الإسرائيليين في ملاجئهم، يتجرعون خوفهم ويسألون إلى متى؟
من يصدق أن غزة، للمرة الثالثة، بعد حربين، صارت أقوى؟ المشككون، شككوا بمقاومة لبنانية، خسرت ثم استمرت، انكسرت ثم نهضت، نجحت ثم فازت، صبرت ثم انتصرت، ثم حررت، ثم هزمت إسرائيل...
العالم عندنا اثنان: مع غزة أو ضدها. مع المقاومة أو ضدها. والحياد أخو الانحياز إلى الضد.
ذلك لا يمنع الدمع. ان كنا لا نملك القدرة على المساعدة، فلدينا ما تفيض به عيوننا. الحزن على الضحايا أطفالاً ونساء وشيوخا، لا يتفوق عليه إلا غضبنا على العدو، ولومنا على تقصيرنا.
لغزة عندنا أبواب تدخل إليها. وهي على الرحب والسعة، و«بما ملكت أيادينا».