قبول الآخر لنا بات وحده المعيار، ولا يكفي أن تجمعنا بهذا الآخر فقط القيم المشتركة في الدين
أمين أبوراشد
حقٌ لأي مسيحي مشرقي، أن يعتلي منبراً رمضانياً وأن يصرخ بما يعتقد أنه حقّ، وعبر أي موقعٍ يؤمن أنه منبر حقً، لأن لبنان هو الواحة الوحيدة الباقية في أمّة العرب وشرق التكفير، يعبِّر المسيحيون فيها عن تاريخ طويل من الإنفتاح والتلاقي مع أخوة لهم في الوطن إنطلاقاً من إيمانهم بالقيَم الإنسانية المشتركة، وكما اعتلوا مذابح كنائسهم يرسلون من خلالها بشائر السلام، اعتلوا المنابر العاشورائية رجال دينٍ ودنيا ليشهدوا للإمام الحسين عليه السلام، أنه الظاهرة التاريخية العظيمة التي كانت وما زالت وستبقى واجبة الوجود في عالمٍ لا يتوقَّف عن الظلم والإستكبار والقهر بحقِّ المستضعفين في الأرض، تماماً كما اعتلى سماحة الإمام المغيَّب السيد موسى الصدر مذبح كنيسة وتلا كلماتٍ صلوات، إنحنى لها المؤمنون المسيحيون أمام من رأوا فيه رسول سلامٍ قادم من عالمٍ مثالي عابرٍ لحدود الديانات والمذاهب والأوطان.
ليس لدى المسيحيين عامة، والمشرقيين بشكل خاص، قدرة التعمُّق بفقه المذاهب الإسلامية سواء كانت شيعية أو سنِّية، تماماً كعدم رغبتهم الغوص في علوم اللاهوت، وقلَّة قليلة من عامة المسيحيين تُدرك أسباب انقسامات الديانة المسيحية الى مذاهب، أو أساس الخلافات بين التقويمين الشرقي والغربي ولا أهمية لديهم الإنقسام حول الطقوس الكنسية وعدم تزامن عيد الفصح بعض الأحيان بين أتباع الكنيستين الشرقية والغربية لأنها تفاصيل يعتبرونها ليست بذات أهمِّية.
وحين يقرأ المسيحيون في فكر ولاية الفقيه أو "الخلافة الإسلامية"، فلا يقرأون في الدين والمذهب للأخ المسلم، بل في القبول الإنساني المتبادل كلاهما للآخر، سيما وأنهم منذ قيام الخلافة في عصور الخلفاء الراشدين وفي دول الخلافة الإسلامية التي تلتها، وهُم في انصهارٍ كامل مع سائر مكونات الدول الإسلامية، وحازوا على الثقة من خلال تعيينهم كتبة دواوين ومشاركتهم الفاعلة في تنظيم شؤون تلك الدول.
وأيضاً كمسيحيين مشرقيين، كانت لهم المشاركة الفاعلة والرائدة في إطلاق عصر النهضة الأدبية والفكرية والسياسية ضمن الإيمان بالقومية العربية والإنتماء المشرقي، ولا حاجة بنا للتذكير بجهابذة النهضة الأدبية والفكرية العربية من المسيحيين، وبروّاد الفكر القومي كمؤسس الحزب القومي السوري الإجتماعي أنطون سعادة ولا بمؤسس حزب البعث ميشال عفلق ولا برئيس الوزراء السوري الراحل فارس الخوري وصولاً للمقاوم الفلسطيني جورج حبش، إلاّ لتعداد نماذج عن مسيحيين يؤمنون بمنطق البوتقة القومية والوطنية التي تجمعهم مع سائر إخوتهم في المواطنة وتحديداً المسلمين.
وما النكبات التي حلَّت بالمسيحيين وأدَّت الى هجرة بعضهم من الشرق خلال حكم الأمبراطورية العثمانية، ثم من الأوطان والدول المستحدثة بموجب إتفاقية "سايكس بيكو"، وبالتالي ما لحِق بهم في تركيا وفلسطين والعراق ومصر ومؤخراً في سوريا بعد دخول الإرهاب إليها، وما تستكمله شياطين التكفير بحقّهم منذ أيام في محافظة نينوى العراقية بشكل خاص، سوى ترجمة لثقافة بعض "المتأسلمين" الذين يعتبرون أن كل مسلمٍ يكفِّر مسيحياً يغدو مسلماً أكثر، وأن كل مسلمٍ ينكِّل بمسلمٍ آخر يخالفه الرأي تُكتب له الجنَّة دون سواه، فليُسمح لنا إذاً أن نشهد للحقِّ ونقرأ مصير المسيحيين في الشرق الذين تعايشوا مع المسلمين ضمن كل بلدة ودسكرة وقرية عبر التاريخ، وكانوا كما "المادة الغضروفية" العازلة لبعض الفِتَن الإسلامية الإسلامية من منطلق إيمانهم بالعيش الواحد، وأن نقرأ بالكثير من السوداوية مصيرهم ومستقبلهم متى يغدو منطق التكفير لدى بعض الخارجين عن سماحة الدين هو وحده السراط المستقيم، في زمن تفكُّك الرباط الإنساني القومي الوطني أمام الحدود التي تتهاوى تحت ستار إقامة "الخلافة".
نحن في لبنان، تحفَّظنا على كلمة الكاردينال الراعي يوم كان مطراناً على جبيل عندما قال: المسيحيون في لبنان غدوا إما مسلمين شيعة أو مسلمين سنّة، في إشارة الى الإنقسام السياسي للمسيحيين بين محورين يتقدّمهما الشيعة والسنَّة ونقول بكل ثقة، نحن مسيحيون وسنبقى مسيحيين، وإننا مع الشيعة والسنة والدروز أبناء الله وأخوة مواطنة ولكن بشرط، أن يقبلنا الأخ الآخر ويحترم وجودنا كأبناء أصيلين في هذا الشرق ضمن الولاء القومي الوطني للقضية الواحدة، وأن تُحترم معتقداتنا وتُراعى خصوصياتنا التي لا تمسُّ خصوصيات أي آخر.
قبول الآخر لنا بات وحده المعيار، ولا يكفي أن تجمعنا بهذا الآخر فقط القيم المشتركة في الدين، بل هاجسنا كان وسيبقى الوطن والأمة والقضية والبوصلة الواضحة التي تشير الى الصديق وأيضاً الى العدو، وصديقنا من صدَق لأننا نبادل الصدق، وصديقنا هو من تجمعنا به نضالات مقاومة عدوٍ مشترك ينتهك مقدساتنا المشتركة، لا ذلك الذي يغدو أكثر قدسية متى اعتدى على مقدسات الآخرين وكفّرهم واحتكر الجنّة لنفسه.
نعترف أن غالبيتنا كمسيحيين نقرأ بولاية الفقيه سماحة الإسلام وعدله، وبالجمهورية الإسلامية الإيرانية مثالاً لإحتضان الأقليات، وقد حُفِظت لهم حقوقهم وخصوصيتهم منذ قيام الثورة الإسلامية عام 79، وأكَّدت عليها في شباط/ فبراير من العام 2014 عندما شُكِّلت لجنة دستورية لتوثيق "حقّ المواطنة" في الدستور، للمساواة بين الإيرانيين دون أي تمييز بين شيعي وسنّي ومسيحيّ ويهودي، ونحن بالمثال الذي نعطيه عن نجاح الإسلام في السياسة ورعاية شؤون الناس في إيران، نتساءل: إذا كانت "الخلافة الإسلامية" محاولة تشكيل كيان سياسي موازٍ أو مواجه لولاية الفقيه في هذا الشرق، فها هي النماذج والأمثال عن دويلات الخلافة في الخِيَم المتنقِّلة والشياطين المتحرِّكة العابرة لحدود وسيادة الكيانات، تزرع التكفير والتدمير والتقتيل والتنكيل بحق المسلمين قبل المسيحيين وسائر الأقليات، وإذا كانت طريق الجنّة هي في رفض الآخر وذبحه ونحره، فطريق الجلجلة التي سلكها السيد المسيح سنمشيها وسنبقى في هذا الشرق جماعة العيش الواحد مع الأخ المسلم لأننا أصل الشرق ولم نكن يوماً مخلَّفات صليبية ...
رمضان مبارك
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه