لم يقف عاجزاً عن الحركة، لم يدخل أي بلدة ليتوارى خلف بناء أو يهرع على أي ملجأ، لم يفر من الفان لينجو بنفسه، بل بقي يتقدم في الشوارع الرئيسية للبلدات.. ها هما في قانا .. وتجاوز الفان مدافن المجزرة القديمة..
نداء التراب" قصة للكاتب اللبناني قاسم طويل، تروي حكاية حدثت بالفعل خلال حرب تموز في العام 2006 بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية. هي قصة ذلك الشاب السائق "محمد" الذي وجد فجأة ليتبرع بتوصيل المواد التموينية لأهالي قرية "بيت ليف" في الجنوب المحاصر آنذاك .. "محمد" السائق الذي يبقى مجهولاً ولكن أين يختفي؟!..القصة في ثماني حلقات متسلسلة ننشر كل يوم حلقة.
---------------
التفت الحاج يوسف إلى السائق محمد، رمقه بنظرة عميقة ليسبر غور هذا السائق المطواع، وبعد لحظات من التفرس الثاقب لوجه السائق، خاطبه بانفعال المتحمس المتأهب : يا أخ محمد، هيا بنا إلى بيت ليف..
تبّسم السائق بلطف وأجابه : أبشر !..إني رهن إشارتك..
ما إن وصلا منطقة "البص" إذ بثلاثة أشخاص أشاروا إليهم ..كلّمهم السائق، سألوه شربة ماء، أعطاهم قارورة المياه التي لديه وانطلق.. قال له الحاج يوسف بأنه لم يعد لديهم ماء :"لو تركتهم يشربون واخذت الباقي ؟!!"
اجابه السائق : هم راجلون ونحن راكبون، نتدبر أمرنا أكثر منهم..
ارتاح الحاج يوسف لهذا الموقف وثمنه بالإيثار..
ما بين البص والحوش دوي قذائف..هدير طائرات، لا صوت ولا أثر لأزيز الرصاص.. ما إن وصلا إلى الحوش إذ هما وسط القذائف والغارات.. الفيلات الفخمة تصاب وبعضها يتداعى ..الشوارع والممرات كلها تقصف...ليس هناك حجال لأن يستقر ويستوي الفان على حركة واحدة. يتمايل على الجنبين من شدة وقع القذائف والغارات واختراق جدار الصوت.. الحفر في الطريق العام، تكاد أن تعطله عن الحركة.. لولا حنكة السائق الذي يتمنى أن يقطع منطقة الحوش بسرعة.. ولكن من أين تاتي السرعة والحفر تتوالى على امتداد الطريق؟!..
الحاج يوسف يتلو بعض الأيات القرآنية، ثم يقرأ احترازا شهادة الموت ويحثّ السائق على قرائتها.. السائق لا يأبه كثيرا لقراءة الشهادة..همّه كيف يتجاوز بلدة الحوش ومنها عين بعال ومن ثم إلى قانا.. مسلسل القصف والإغارة يستمر، وحفر الطريق تستمر.. أبنية في قانا تهدم على مراى منهما.. إنها رحلة إلى الموت.. بل هما في دائرة الموت..
الحاج يوسف يقرأ شهادة الموت من جديد وبصوت جهوري ليسمع السائق محمد وأمنيته ان يرددها معه.. ولكن لم تصبه حال الهلع والعي.. لم يقف عاجزاً عن الحركة، لم يدخل أي بلدة ليتوارى خلف بناء أو يهرع على أي ملجأ، لم يفر من الفان لينجو بنفسه، بل بقي يتقدم في الشوارع الرئيسية للبلدات.. ها هما في قانا .. وتجاوز الفان مدافن المجزرة القديمة..
بعدها بقليل ..فان محروق وداخله عائلات .. رجال ونساء وأطفال ممزقون الأشلاء .. وجثة أحدهم خارج الفان مقطعة الأوصال.. ما زالت روائح الأجساد تنبعث ممزوجة بروائح كل ما هو محروق..
بعده بأمتار، دراجتان ناريتان مدمرتان من قصف مركز حيث سائقاهما مجزران أشلاء متباعدة عن بعضها البعض.. حاول السائق محمد ألا يدوس على الأوصال المبعثرة على مدى الشارع الذي غصّ بالحفر .. في أول صديقين فان أخر مدمر .. سائقه لا يزال في داخله، باب السائق مفتوح، ورأسه المتشظي ينزف دماً، الدماء تغطي وجهه، وأسفله محروق ..!! الفان ممزق السقف والجوانب، ربطات الخبز بالعشرات متطايرة من الفان .. بعضها محروق وبعضها الأخر لا يزال سليما..
الحاج يوسف وعد نفسه أن يشتري الخبز من صيدا ، إلا إنه لم يستطع الدخول إليها.. وعد نفسه أن يشتري الخبز من مدينة صور ، أو منطقة البص.. إلا أنه لم يجد هناك بشراً فكيف يجد الخبز؟!!.. ها هو الخبز أمام عينيه بين دواليب الفان.. همّ أن يقول للسائق "لو نجمع بعض ربطات الخبز ونأخذها معنا". وإذ بقذائف مدمّرة تصيب بعض المنازل القريبة على يمينهما. فتنسحق تلك المنازل وتتداعى ركاماً.. ويصاب الفان من جديد ببعض شظايا الأسمنت.. مائلاً يساره منحرفاً انحرافاً قاسياً..
كاد أن يعانق الأرض لولا شيء من الحظ وبراعة من السائق وثباته، في زحمة الغبار المنتشر الذي حجب الرؤية ببطء كالسائر في غمرة الضباب...
لا يعرف ماذا دون الإطارات، ولا يدري ما الذي يحيط بجانب سيارته، وبصره حسير داخل المركبة.. بعد قليل بدأت الرؤيا تنجلي، وإذا الفان في أواخر صديقين وعلى مشارف كفرا.. الحاج يوسف يقرأ شهادة الموت من جديد ويرمق السائق محمد بنظرة عتاب لعدم مشاركته في تلاوة الشهادة.. تبسّم السائق قائلا :" يا حاج هوّن عليك ما زلنا بألف خير..".